آيات من القرآن الكريم

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا
ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ

كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها انتصاب كل على الظَّرْفِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ بَدَّلْنَاهُمْ، وَهِيَ جُمْلَةٌ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا نُصْلِيهِمْ. وَالتَّبْدِيلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: تَبْدِيلٌ فِي الصِّفَاتِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَتَبْدِيلٌ فِي الذَّوَاتِ بِأَنْ تَذْهَبَ الْعَيْنُ وَتَجِيءَ مَكَانَهَا عَيْنٌ أُخْرَى، يُقَالُ: هَذَا بَدَلُ هَذَا. وَالظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي. وَأَنَّهُ إِذَا نَضِجَ ذَلِكَ الْجِلْدُ وَتَهَرَّى وَتَلَاشَى جِيءَ بِجِلْدٍ آخَرَ مَكَانَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: جُلُودًا غَيْرَهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ الْجُلُودَ تُخْلَقُ مِنَ اللَّحْمِ، فَإِذَا أُحْرِقَ جِلْدٌ بَدَّلَهُ اللَّهُ مِنْ لَحْمِ الْكَافِرِ جِلْدًا آخَرَ. وَقِيلَ: هِيَ بِعَيْنِهَا تُعَادُ بَعْدَ إِحْرَاقِهَا، كَمَا تُعَادُ الْأَجْسَادُ بَعْدَ الْبِلَى فِي الْقُبُورِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى الصِّفَةِ، لَا إِلَى الذَّاتِ. وقال الفضيل: يجعل النضيج غَيْرَ نَضِيجٍ. وَقِيلَ: تُبَدَّلُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَبْعِينَ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجُلُودَ هِيَ سَرَابِيلُ مِنْ قَطِرَانٍ تُخَالِطُ جُلُودَهُمْ مُخَالَطَةً لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا. فَيُبَدِّلُ اللَّهُ تِلْكَ السَّرَابِيلَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ. أَوْ كَمَا قِيلَ: مِائَةَ أَلْفِ مَرَّةٍ. وَسُمِّيَتْ جُلُودًا لِمُلَابَسَتِهَا الْجُلُودَ. وَأَبْعَدُ أَيْضًا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ، كُلَّمَا انْتَهَى فَقَدِ ابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِهِ، يَعْنِي: كُلَّمَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَضِجُوا وَاحْتَرَقُوا وَانْتَهَوْا إِلَى الْهَلَاكِ أَعْطَيْنَاهُمْ قُوَّةً جَدِيدَةً مِنَ الْحَيَاةِ، بِحَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمُ الْآنَ حَدَّثُوا وَوَجَدُوا، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بَيَانُ دَوَامِ الْعَذَابِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُلْبِسُهُمُ اللَّهُ جُلُودًا بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا قَرَاطِيسُ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: يَلْبَسُ أَهْلُ النَّارِ جُلُودًا تُؤْلِمُهُمْ وَلَا تُؤْلَمُ هِيَ.
لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أَيْ ذَلِكَ التَّبْدِيلَ كُلَّمَا نَضِجَتِ الْجُلُودُ، هُوَ لِيَذُوقُوا أَلَمَ الْعَذَابِ.
وَأَتَى بِلَفْظِ الذوق المشعر بالإحسان الْأَوَّلِ وَهُوَ آلَمُ، فَجَعَلَ كُلَّمَا وَقَعَ التَّبْدِيلُ كَانَ لِذَوْقِ الْعَذَابِ بِخِلَافِ مَنْ تَمَرَّنَ عَلَى الْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ لِيَدُومَ لَهُمْ دُونَهُ وَلَا يَنْقَطِعَ، كَقَوْلِكَ لِلْعَزِيزِ: أَعَزَّكَ اللَّهُ أَيْ أَدَامَكَ عَلَى عِزِّكَ، وَزَادَكَ فِيهِ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً أَيْ عَزِيزًا لَا يُغَالَبُ، حَكِيمًا يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُرِيدُهُ بالمجرمين، حكيما لَا يُعَذِّبُ إِلَّا بِعَدْلٍ من يستحقه.
[سورة النساء (٤) : آية ٥٧]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)

صفحة رقم 680

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَعْقَبَ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَاءَتْ جُمْلَةُ الْكُفَّارِ مُؤَكَّدَةً بِأَنَّ عَلَى سَبِيلِ تَحْقِيقِ الْوَعِيدِ الْمُؤَكَّدِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَتَى فِيهَا بِالسِّينِ الْمُشْعِرَةِ بِقِصَرِ مُدَّةِ التَّنْفِيسِ عَلَى سَبِيلِ تَقْرِيبِ الْخَيْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَتَبْشِيرِهِ بِهِ.
لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا.
وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ يَقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَيَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ ظِلٌّ لَا يَنْتَقِلُ، كَمَا يَفْعَلُ ظِلُّ الدُّنْيَا فَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ظَلِيلًا لِذَلِكَ وَيَصِحُّ أَنْ يَصِفَهُ بِظَلِيلٍ لِامْتِدَادِهِ،
فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يُسَيِّرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضْمَرَ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُهَا»
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الظَّلِيلُ: هُوَ الْقَوِيُّ الْمُتَمَكِّنُ. قَالَ: وَنَعْتُ الشَّيْءِ بِمِثْلِ مَا اشْتُقَّ مِنْ لَفْظِهِ يَكُونُ مُبَالَغَةً كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ظِلًّا ظَلِيلًا لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، فَكَانَ الظِّلُّ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الرَّاحَةِ وَوَصْفُهُ بِالظَّلِيلِ مبالغة في مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الرَّاحَةِ وَوَصْفُهُ بِالظَّلِيلِ مُبَالَغَةٌ فِي الرَّاحَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ظَلِيلٌ صِفَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ لَفْظِ الظِّلِّ لِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ، كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَيَوْمٌ أَيْوَمُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَهُوَ مَا كَانَ فَيْنَانًا لَا جَوْبَ فِيهِ، وَدَائِمًا لَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ.
وَسَجْسَجًا لَا حَرَّ فِيهِ وَلَا بَرْدَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا ظَلُّ الْجَنَّةِ رَزَقَنَا اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِ مَا يزلف إليه التفيؤ تَحْتَ ذَلِكَ الظِّلِّ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: سَيُدْخِلُهُمْ بِالْيَاءِ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: قد يكون ظل لَيْسَ بِظَلِيلٍ يَدْخُلُهُ الْحَرُّ وَالشَّمْسُ، فَلِذَلِكَ وَصَفَ ظَلَّ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ ظَلِيلٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ: ظِلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَقِي الْحَرَّ وَالسَّمُومِ، وَظِلُّ أَهْلِ النَّارِ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَوْقَاتِ الْجَنَّةِ كُلُّهَا سَوَاءٌ اعْتِدَالٌ، لَا حَرَّ فِيهَا وَلَا بَرْدَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: سَيُدْخِلُهُمْ بِالْيَاءِ، وَكَذَا وَيُدْخِلُهُمْ ظِلًّا، فَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ فَلَاحَظَ قَوْلَهُ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ:
سَوْفَ نُصْلِيهِمْ «١» وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ لَاحَظَ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً «٢» فَأَجْرَاهُ عَلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ. الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّعَجُّبُ فِي: أَلَمْ تَرَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَالْخِطَابُ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فِي:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا وَهُوَ دُعَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ صُورِيَّا وَكَعْبًا وَغَيْرَهُمَا مِنَ

(١) سورة النساء: ٤/ ٥٦.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٥٦.

صفحة رقم 681
البحر المحيط في التفسير
عرض الكتاب
المؤلف
أبو حيان أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي
تحقيق
صدقي محمد جميل
الناشر
دار الفكر - بيروت
سنة النشر
1420
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية