آيات من القرآن الكريم

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا
ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ

قوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾.
تعلمْ أنَّ الوعْدَ والوعيدَ مُتلازِمَانِ في الذِّكْرِ غَالِباً، فإنَّ عَادَة القرآنِ إذا ذَكَرَ الوعِيدَ أنْ يذكر مَعَهُ الوَعْدَ.
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أظهرُهَا: أنه مبتدأٌ، وخبرُهُ ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾.
والثاني: أنَّه في مَحلِّ نَصْبٍ؛ عَطْفاً على اسْمِ «إنَّ» وهُوَ ﴿الذين كَفَرُواْ﴾، والخَبَرُ أيْضاً: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ ويصيرُ هذا نَظِير قولِكَ: إنَّ زَيْدَاً قَائِمٌ وعمراً قَاعِدٌ، فعطفتَ المنصُوبَ على المنصُوبِ، والمرفوعَ على المرفوعِ.
والثالث: أنْ يكونَ في محلِّ رَفْع؛ عطفاً على مَوْضِعِ اسْم «إنَّ» ؛ لأن مَحَلَّهُ الرفعُ، قالهُ أبُو البَقَاءِ؛ وفيه نَظَرٌ، مِنْ حَيْثُ الصناعةِ اللَّفْظِيَّةِ، حَيْثُ يُقالُ: ﴿والذين آمَنُواْ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ عطفاً على ﴿الذين كَفَرُواْ﴾، وأتى بجملةِ الوعيدِ مُؤكِّدةً ب «إن» ؛ تنبيهاً على شِدَّةِ ذلك، وبجملةِ الوَعْدِ حَاليَّةً مِنْه؛ لتحققها وأنه لا إنْكَارَ لذلك، وأتَى فيها بحرفِ التَّنْفِيسِ القَريبِ المدَّة تنبيهاً على قُرْبِ الوَعْدِ.

فصل في أن الإيمان غير العمل


دلت هذه الآيةُ، على أنَّ الإيمانَ غيرُ العَمَلِ؛ لأنه تعالى عَطَفَ العملَ على الإيمانِ، والمعطوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعطُوفِ عليه.
قال القَاضِي: مَتَى ذُكِرَ لفظُ الإيمانِ وَحْدَهُ، دخل فيه العَمَلُ، ومَتى ذُكِرَ مَعَهُ العَمَلُ، كان الإيمانُ هو التَّصْديقَ، وهذا بعيدٌ، لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الاشتراك، وعدمُ التغييرِ ولوْلاَ أنَّ الأمْرَ كذلك، لخرج القرآنُ عن كونِهِ مُفيداً، فلَعَلَّ هذه الألفاظَ التي

صفحة رقم 430

تَسْمَعُها في القرآنِ، يَكُون لِكُلِّ وَاحدٍ منها مَعْنَى سِوَى ما نَعْلَمُ، ويكونُ مرادُ الله [تعالى] ذلِكَ المعْنَى.
قوله: «سندخلهم» قَرَأ النَّخعِيُّ: سَيْدخلُهم، وكذلك: «ويدخلهم ظلاً» بِيَاءِ الغَيْبَةِ؛ رَدَّا على قوله: «إن الله كان عزيزاً»، والجمهورُ بالنون رَدَّاً على قوله: «سوف نصليهم»، وتقدَّم الكلامُ على قوله: «جنات تجري من تحتها الأنهار».
وقوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُهَا: أنه حالٌ من الضمير المنصُوبِ في ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾.
والثَّاني: وأجازَهُ أبُو البَقَاءِ: أنْ يكونَ حالاً من ﴿جَنَّاتٍ﴾.
[قال: لأن فيها ضميراً لكُلِّ واحدٍ منهما، يَعْنِي: أنه يجوزُ أنْ يكونُ حالاً من] مفعول ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ كما تقدَّمَ، أوْ «من جنات» ؛ لأنَّ في الحَالِ ضميريْنِ:
أحدُهُمَا: مَجْرُورٌ ب «في» العائِدِ على ﴿جَنَّاتٍ﴾ فصح أنْ يُجْعَلَ حالاً مِنْ كُلٍّ واحدٍ؛ لوجودِ الرَّابِطِ، وهو الضميرُ، وهذا الذي قالُ فيه نظرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدُهُمَا: أنه يَصِيرُ المعنى: أنَّ الجناتِ خالداتٍ في أنفُسِهَا؛ لأنَّ الضَّميرَ في فيها عائذٌ عليْهَا. فكأنه قِيلَ: جناتٍ خَالِدَاتٍ في الجنَّاتِ أنفُسِهَا.
والثَّاني: أنَّ هذا الجمعَ شَرْطُهُ العَقْلُ، ولد أُرِيد ذلك، لقيل: خَالِدَاتٍ.
والثالثُ: أنْ يَكُونَ صِفَةً ل ﴿جَنَّاتٍ﴾ أيضاً. قال أبُو البَقَاءِ: على رَأي الكُوفيِّينَ يعْنِي أنَّهُ جَرَتْ الصِّفَةُ على غَيْرِ مِنْ هِيَ لَهُ في المعنى، ولم يَبْرُزُ الضَّمِيرُ، وهذا مَذْهَبُ الكوفيِّينَ، وهو انَّهُ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هي له، وأمِنَ اللِّبْسُ، لم يَجبْ بُرُوزُ الضميرِ كهذه الآيةِ.
ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ: وُجُوبُ بروزِهِ مُطْلَقَاً، فكان يَنْبَغِي أنْ يُقَالَ عَلَى مَْهلِهمْ: «خالدين هم فيها»، ولمّا لَمْ يَقُلْ كذلك، دَلَّ على فَسَادِ القَوْلِ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلك.
[فإن قُلْتَ:] فَلْتَكُنِ المسْألَةُ الأولَى كذلِكَ، أعني: أنَّكَ إذا جعلت ﴿خَالِدِينَ﴾

صفحة رقم 431

حالاً من ﴿جَنَّاتٍ﴾، فيكون حَالاً مِنْهَا لفظاً، وهي لغيرها مَعْنَى، ولم يَبْرُزْ الضَّميرُ على رَأي الكُوفيِّينَ، ويَصِحُّ قول أبي البَقَاءِ.
فالجواب: أنَّ هذا، لو قيلَ به لَكَانَ جيِّداً، ولكن لا يَدْفَعُ الرَّدَّ عن أبِي البَقَاءِ، فإنَّهُ خَصَّصَ مَذْهبَ الكُوفيينَ بوجه الصِّفَةِ، دون الحالِ.

فصل


ذكر الخُلُودِ والتَّأبِيد: فيه ردٌّ على جَهْم بْنِ صفْوَانَ، حيث يقُولُ: إنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ وعَذَابَ الآخِرَةِ يَنْقَطِعَانِ، وأيضاً فَذِكْرُهُ الخُلُودَ مع التَّأبيد؛ يَدُلُّ على أنَّ الخُلودَ غَيْر التَّأبْيد وإلا لزم التكرارُ، وهو غير جَائِزٍ؛ فدَلَّ على أنَّ الخُلُودَ لَيْسَ عِبَارَة عن التَّأبيدِ، بلِ اسْتِدْلاَلُ المُعْتزِلَةِ بقوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾ [النساء: ٩٣] على أنَّ صاحب الكَبيِرَةِ يبقى في النَّارِ أبَداً، لأنَّ هذه الآية دَلَّتْ على أنَّ الخُلُودَ طولُ المُكْثِ لا التَّأبيدِ.
قوله: ﴿لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ [مُّطَهَّرَةٌ﴾ ] مبتدأ وخبر، وَمَحَلُّ هذه الجُمْلَةِ، إمَّا النَّصْب أو الرَّفْعُ.
فالنَّصْبُ إمَّا على الحَالِ مِنْ ﴿جَنَّاتٍ﴾، أو مِنْ الضَّميرِ في ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ وإما على كَوْنِهَا صِفَةً ل ﴿جَنَّاتٍ﴾ بعد صِفَةٍ.
والرَّفْعُ على أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.

فصل


المُرَادُ: طَهَارتُهُنَّ من الحَيْضِ والنّفاسِ، وجميع أقْذَارِ الدُّنْيَا، كما تَقَدَّمَ في سُورةِ البَقَرَةِ.
وقوله «وندخلهم ظلاَّ ظليلاً».
قال الوَاحِدِيُّ: الظَّلِيلُ ليس يُنبِئُ عن الفِعْلِ، حتى يُقالَ: إنَّهُ بمعنى: فاعِلٍ، أو مَفْعُولٍ، بل هو مُبَالَغةٌ في نَعْتِ الظِّلِّ، مثل قولهم: «لَيْلٌ ألْيَلٌ».
قال المُفَسْرُونَ: الظَّلِيلُ: الكَثيفُ الَّذِي لا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، ولا يؤذيهم بَرْدٌ، ولا حَرٌّ.
قال ابْنُ الخَطِيبِ: واعلَمْ أنَّ بلاد العَرَبِ كانت في غَايَةِ الحَرَارَةِ، وكانَ الظِّلُّ عندهم مِنْ أعْظَمِ أسْبَابِ الرَّاحَة، ولها المَعْنَى؛ جَعَلٌوه كِنَايَةً عن الرَّاحَةِ.

صفحة رقم 432

قال عليه الصَّلاة والسلامُ: «السُّلْطَانُ ظِلُّ الله فِي الأرْضِ».
وإذَا كان الظّل عِبَارَةً عن الرَّاحَة؛ كَانَ كِنَايَةً عن المُبَالَغَةِ العَظِيمَةِ في الراحة، وبهذا يَنْدَفِعُ سُؤالُ مَنْ يَقُولُ: إذا لم يَكُنْ شَمْسٌ تُؤْذِي بحرِّهَا، فما فائِدَةُ وَصْفِهَا بالظِّلِّ الظَّلِيلِ؟
وأيضاً نرى في الدُّنْيَا أنَّ المَوَاضِعَ الَّتِي يَدُومُ الظِّلُّ فيها، ولا يَصِلُ نُورُ الشَّمْسِ إليْهَا، يكُونُ هَوَواؤهَا فَاسِداً مُؤْذِياً فما معنى وَصْفِ الجَنَّةِ بذلك، فعلى هذا الوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ تَنْدَفَعُ هذه الشُّبُهَاتِ.

صفحة رقم 433
اللباب في علوم الكتاب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان
سنة النشر
1419 - 1998
الطبعة
الأولى، 1419 ه -1998م
عدد الأجزاء
20
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية