
- ١٩ - يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
- ٢٠ - وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
- ٢١ - وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظًا
- ٢٢ - وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً

روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً﴾ قال: كانوا إذا ات الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنَّ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً﴾ هكذا ذكره البخاري وأبو داود والنسائي وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبًا كَانَ أَحَقَّ بِهَا، فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً﴾ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ في الآية: كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ وَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَرِثَهَا، أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ، وَكَانَ أَهْلُ تِهَامَةَ يُسِيءُ الرَّجُلُ صُحْبَةَ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا، وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهَا أَن لاَّ تَنْكِحَ إِلَّا مَنْ أَرَادَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذلك. وقال أبو بكر بن مردويه عن محمد ابن أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ أَرَادَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ وَكَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لاَ يحل لكم أن رثوا النسآء كَرْهاً﴾ وقال ابن جريرج: نَزَلَتْ فِي (كُبَيْشَةَ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الْأَوْسِ) تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي وَلَا أَنَا تركت فأنكح، فأنزل الله هذه الآية. فَالْآيَةُ تَعُمُّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَكُلَّ مَا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أَيْ لَا تُضارُّوهُنَّ فِي الْعِشْرَةِ لِتَتْرُكَ لَكَ مَا أَصْدَقْتَهَا أَوْ بَعْضَهُ أَوْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهَا عَلَيْكَ، أَوْ شَيْئًا مِنْ ذلك على وجه القهر لها والإضرار، وقال ابن عباس في قَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾، يَقُولُ: وَلَا تَقْهَرُوهُنَّ ﴿لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ يَعْنِي الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ المرأة وَهُوَ كَارِهٌ لِصُحْبَتِهَا وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ فَيَضُرُّهَا لتفتدي به، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ المبارك عن ابن السلاماني قَالَ: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي أَمْرِ الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام يعني قوله تَعَالَى: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً﴾ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ قَالَ ابن مسعود، وابن عباس: يَعْنِي بِذَلِكَ الزِّنَا، يَعْنِي إِذَا زَنَتْ فَلَكَ أَنْ تَسْتَرْجِعَ مِنْهَا الصَّدَاقَ الَّذِي أَعْطَيْتَهَا، وتُضَاجِرَهَا حَتَّى تَتْرُكَهُ لَكَ وَتُخَالِعَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أن يخافاً أن لا يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ الآية، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ النُّشُوزُ وَالْعِصْيَانُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ الزِّنَا وَالْعِصْيَانَ، وَالنُّشُوزَ وَبَذَاءَ اللِّسَانِ، وغير ذلك، يعني أن كُلَّهُ يُبِيحُ مُضَاجَرَتَهَا حَتَّى تُبْرِئَهُ مِنْ حَقِّهَا أَوْ بَعْضِهِ وَيُفَارِقَهَا، وَهَذَا جَيِّدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السِّيَاقُ كُلُّهُ كَانَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَكِنْ نُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ فعله في الإسلام: وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ الْعَضْلُ فِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: يَنْكِحُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ، فَلَعَلَّهَا لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيَأْتِي بِالشُّهُودِ فَيَكْتُبُ ذَلِكَ عَلَيْهَا ويشهد، فإذا جاء الخاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلاعضلها، قَالَ فَهَذَا قَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ ما آيتمون﴾ هو كالعضل في سورة البقرة، وقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَيْ طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ،

كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بالمعروف﴾، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ؛ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». وَكَانَ من أخلاقه ﷺ أن جَمِيلُ الْعِشْرَةِ، دَائِمُ الْبِشْرِ؛ يُدَاعِبُ أَهْلَهُ؛ وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ ويُوسِعُهُمْ نَفَقَتَهُ، وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ حَتَّى إِنَّهُ كان يسابق عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، قَالَتْ: سَابَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ اللَّحْمَ، ثُمَّ سَابَقْتُهُ بَعْدَ مَا حملت اللحم فسبقين، فقال: "هذه بتلك ويجمع نساءه كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَبِيتُ عِنْدَهَا رسول الله ﷺ فيأكل مَعَهُنَّ الْعَشَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَكَانَ يَنَامُ مَعَ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ، يَضَعُ عن كتفيه الرداء وينام بالإزر، وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ مَعَ أَهْلِهِ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، يُؤَانِسُهُمْ بِذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ وَأَحْكَامُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ موضعه كتب الْأَحْكَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾، أَيْ فَعَسَى أَن يَكُونَ صَبْرُكُمْ في إمساكهن مع الكراهة، فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كما قال ابن عباس: هُوَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيُرْزَقَ مِنْهَا وَلَدًا، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ سَخِطَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ».
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِن أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ أَيْ إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَةً وَيَسْتَبْدِلَ مَكَانَهَا غَيْرَهَا، فَلَا يأخذ مِمَّا كَانَ أَصْدَقَ الْأُولَى شَيْئًا وَلَوْ كَانَ قنطاراً من المال، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْإِصْدَاقِ بِالْمَالِ الْجَزِيلِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَهَى عَنْ كَثْرَةِ الْإِصْدَاقِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذلك كما قال الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغالوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوًى عِنْدَ اللَّهِ كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أُصْدِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً.
(طَرِيقٌ أُخرى عَنْ عُمَرَ): قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يعلى عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: رَكِبَ عُمَرُ بن الخطاب مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أيها الناس ما إكثاركم في صداق النِّسَاءِ!! وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والصدقات فِيمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَا دُونَ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الْإِكْثَارُ فِي ذَلِكَ تَقْوًى عِنْدَ الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلأعرفن مَا زَادَ رَجُلٌ فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ. فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَهَيْتَ الناس عن يزيدوا في مهر النساء عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ أَمَا سَمِعْتَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: وَأَيُّ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ الآية. قال: اللَّهُمَّ غَفْرًا، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ. ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صدقاتهن عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ. قَالَ أَبُو يَعْلَى: وظنه قَالَ: فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ فَلْيَفْعَلْ. إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قوي. وفي
رواية: امرأة أصابت ورجل أخطأ، ولهذا قال مُنْكِرًا: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أَيْ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَ الصَّدَاقَ مِنَ الْمَرْأَةِ وَقَدْ أَفْضَيْتَ إِلَيْهَا وَأَفْضَتْ إِلَيْكَ قَالَ ابْنُ عباس: يَعْنِي بِذَلِكَ الْجِمَاعَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا: «اللَّهُ

يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» قالها ثَلَاثًا فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي - يَعْنِي مَا أُصْدِقُهَا - قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إن كنت صدقت فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كذبت عليها فهو أبعد لك منها».
وقوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ المراد بذلك العقد، وقال سفيان الثوري فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ قَالَ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقال الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْآيَةِ: هُوَ قَوْلُهُ: «أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ فِي خُطْبَةِ حجة الوداع: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فيها: «واستوصوا بالنساء خيراً فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء﴾ الآية، يحرم الله تَعَالَى زَوْجَاتِ الْآبَاءِ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا أَنْ تُوطَأَ مِنْ بَعْدِهِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتَحْرُمُ عَلَى الِابْنِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسٍ - يَعْنِي ابْنَ الْأَسْلَتِ - وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ، فَخَطَبَ ابْنُهُ قَيْسٌ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنَّمَا أعدُّك وَلَدًا وأنت من صالحي قومك، ولكني أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا قَيْسٍ تُوُفِّيَ فَقَالَ: «خَيْرًا»، ثم قالت: إن ابنته قَيْسًا خَطَبَنِي وَهُوَ مِنْ صَالِحِي قَوْمِهِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أعدُّه وَلَدًا فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهَا: «ارجعي إلى بيتك» قال فنزلت: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ﴾ الآية. وَقَدْ زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ نِكَاحَ نِسَاءِ الْآبَاءِ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ كَمَا قَالَ: ﴿وَإِن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ قَالَ: وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كِنَانَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ، تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ فَأَوْلَدَهَا ابْنَهُ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وُلِدْتَ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَائِغًا لَهُمْ ذلك، فأراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً؛ وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ وَالْجَمْعَ بين الأختين، فأنزل الله تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ﴾، ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾، وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ، وَلَكِنْ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنْ قصة كنانة نظر والله أعلم، وعلى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ حَرَامٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، مبشع غاية التشبع، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾، وقال: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سبيلاً﴾ فزاد ههنا: ﴿وَمَقْتاً﴾ أَيْ بُغْضًا أَيْ هُوَ أَمْرٌ كَبِيرٌ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى مَقْتِ الِابْنِ أَبَاهُ بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَتِهِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ يُبْغِضُ مَنْ كَانَ زَوْجَهَا قَبْلَهُ، وَلِهَذَا حُرِّمَتْ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتٌ لِكَوْنِهِنَّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهو كالأب، بَلْ حَقُّهُ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ الْآبَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ حُبُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حُبِّ النُّفُوسِ صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه.
وقال عطاء في قوله تعالى: ﴿وَمَقْتاً﴾ أَيْ يَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ أَيْ وَبِئْسَ طَرِيقًا لِمَنْ سَلَكَهُ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَعَاطَاهُ بَعْدَ هَذَا فَقَدِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، فَيُقْتَلُ وَيَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ خَالِهِ أَبِي بردة: أَنَّهُ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ بِي عمي (الحارث بن عمير) وَمَعَهُ لِوَاءٌ قَدْ عَقَدَهُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمِّ أين بعثك النبي؟ قَالَ: بَعَثَنِي إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فأمرني أن أضرب عنقه.