
(وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
كان فاشيا بين العرب في الجاهلية أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا مات عنها أبوه، وكان ذلك يؤدي إلى منعها من حرية الاختيار في الزواج، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك في الماضي من الآيات الكريمات، وهنا يمنع تزوج الولد ممن كانت زوجة أبيه، بل ممن كانت زوجة آبائه على وجه العموم، وذلك لأن كلمة " آباؤكم " تشمل كل الأصول من الرجال أي تشمل الأجداد جميعا سواء كانوا من جهة أبيه أم كانوا من جهة أُمه، وذلك من قبيل الإطلاق المجازي.
والنكاح هو عقد الزواج، وهو لَا يستعمل في القرآن إلا على الزواج، وقد يطلق على المباشرة نفسها، ولكنه لم يطلق في القرآن إلا على العقد، ولذلك قال الشافعي وكثيرون من الفقهاء، إن النكاح حقيقة في العقد، وإذا أريد به المباشرة كان ذلك مجازا من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، وذلك أنه لَا يكون إلا في المباشرة الحلال، والحنفية قالوا إنه حقيقة في المباشرة مجاز في العقد. والذي يتفق مع تعبير القرآن هو رأي الشافعي.
ولما كان ذلك النوع من الزواج كثيرا في الجاهلية، وربما وقع فيه بعض المؤمنين في الجاهلية قبل الإسلام، أشار سبحانه إلى أن ما كان في الجاهلية هو موضع عفو لَا يعاقب الله تعالى عليه، ولذا قال سبحانه: (إِلا ما قد سلف) أي أنكم لَا تؤاخذون على ما قد مضى منكم في الجاهلية، والاستثناء هنا منقطع، و " إلا " بمعنى " لكن "، والمعنى: لكن ما قد سلف لَا تؤاخذون عليه، والله يعفو عنكم، وهو ينتهي بهذا التحريم، فمن كان متزوجا ممن كانت امرأة أبيه، فإنها حرام عليه من وقت نزول ذلك النص الكريم، وعفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام.

والتحريم له حكمته. فإنه يتنافى فيما للآباء من وقار، وما يجب لهم من حسن صحبة، ولأن امرأة الأب لَا تحتشم على الابن، فلو كانت تحل له بعد الفراق لتطلعت النفس إليها، وقد ترغب فيه، فتفارق الأب أو تغاضبه طمعا في ابنه، ولا إساءة إلى الأب أبلغ من هذا، فكان المنع لأجل الرحم والمودة في القربى، وحسن الصحبة. والعقد ذاته سبب التحريم، فإذا عقد الأب أو الجد فإنها تكون حراما على الأبناء والأحفاد، ولو لم يدخل بها، لأن ذلك ما يقتضيه الإحسان إلى الوالدين.
وفى النص إشارة إلى أنه لَا عقوبات من غير نص محرِّم، وهؤلاء كانوا يرتكبون ما يرتكبون مستحلين له، فلما جاء النص القاطع الحرم كان العقاب، ولا عقاب قبل النص الحرم.
وإن ذلك النوع من النكاح سيئ في ذاته، لَا يقدم عليه كريم، ولذا قال سبحانه وتعالى فيه:
(إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) هذه أوصاف ثلاثة وصف الله بها ذلك النوع من العقود: أولها أنه فاحشة، أي أمر زائد في القبح شرعا وخلقا، والفحش هو الأمر الزائد زيادة قبيحة، فهو زيادة قبيحة على موجب الفطرة المستقيمة. والوصف الثاني أنه مقت، وهو مصدر وصف به أي أنه ممقوت من ذوي المروءات لَا يقبلونه ولا يرضونه. والثالث أنه أسوأ سبيل لطلب الولد؛ إذ يكون ابنه أخا لأخيه من أبيه وبنته أختا لأخيه أو لأخته من أبيه، وذلك نوع من المجوسية، فهو لذلك كان سبيلا سيئا.
وقد قال الزمخشري في هذا النص: " كانوا ينكحون روابهم (أي تنكح المرأة ربيبها)، وناس منهم كانوا يمقتونه من ذوي مروءاتهم ويسمونه نكاح المقت، وكان المولود عليه يقال له المقتي، ومن ثم قيل (ومَقتا)، كأنه قيل إنه فاحشة في دين الله بالغة في القبح، قبيح ممقوت في المروءة، ولا مزيد على ما يجمع القبحين ".
بعد ذلك بين سبحانه وتعالى الحرمات من الأقارب فقال تعالى:
* * *