قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ إلى قوله: [سبيلا].
قال الأشعث بن سَوّار توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه امرأة أبيه فقالت إنِّي أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استأمره، فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية.
قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا بهذه الآية عن [ذلك. قوله «ما نكح» في «ما» هذه قولان] :
أحدهما: أنها موصولة اسمية واقعة على انواع من يعقل كما تقدم في قوله ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] هذا عند من لا يجيز وقوعها على آحاد العقلاء فأما من يجيز ذلك فيقول: إنها واقعة موقع من ف «ما» مفعول به بقوله «ولا تنكحوا» والتقدير: ولا تتزوّجُوا من تزوج آباؤكم.
والثاني: أنها مصدرية أي: ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم الّذي كان من الجاهليَّة وهو النكاح الفاسد كنكاح الشغار وغيره، واختار هذا القول جماعة وغيره، واختار هذا القول جماعة منهم ابن جرير الطبري وقال: ولو كان معناه: ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع «ما» «من» انتهى. وتبين كونه حراماً، أو فاسداً من قوله ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً﴾. قوله ﴿مِّنَ النسآء﴾ تقدم نظيره أول السورة.
فصل [حكم نكاح مزنية الأب]
قال أبو حنيفة وأحمد: يحرم على الرجل ان يتزوج بمزنية أبيه وقال الشافعي: لا يحرم، واحتج الأولون بهذه الآية، لأنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه، والنكاح عبارة عن الوطء لوجوه:
أحدها: قوله تعالى ﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] فأضاف النّكاح إلى الزّوج، والنّكاح المضاف إلى الزّوج هو الوطء لا العقد؛ لأن الإنسان لا يتزوج من [زوجة] نفسه؛ لأن ذلك في تحصيل الحاصل؛ ولأنَّهُ لو كان المراد به في هذه الآية العقد لحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد، فتعين أن يكون هو الوطء؛ لأنه لا قائل بالفرق. وثانيها: قوله ﴿وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ﴾ [النساء: ٦] والمراد به الوطء لا العقد؛ لأن أهلية العقد كانت حاصلة.
وثالثها: قوله: ﴿الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً﴾ ولو كان المراد العقد لزم الكذب.
ورابعها: قوله عليه [الصلاة] والسلام «ناكح اليد ملعون» وليس المراد العقد فثبت بهذه الوجوه أنَّ النكاح عبارة عن الوطء فلزم أن يكون المراد من قوله «ما نكح آباؤكم» أي: وطئن آباؤكم، فيدخل فيه المنكوحة والمَزْنِيُّ بها.
فإن قيل قد ورد أيضاً لفظ «النكاح» بمعنى العقد، قال تعالى
﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ﴾ [النور: ٣٢] ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣]. إذا نكحتم المؤمنات.
وقال عليه [الصلاة] والسلام: «ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح» فلم كان حمل اللفظ على الوطء أوْلَى من حمله على العقد؟ صفحة رقم 271
فالجواب أن لفظ «النكاح» حقيقة في الوطء مجاز في العقد. لأنَّ لفظ النكاح في أصْلِ اللغة عبارة عن الضَّمِّ، ومعنى حاصل في الوطء لا في العقد، فكان حقيقة في الوطء وإنَّمَا سُمِّيَ العقد بهذا الاسم؛ لأنه سبب الوطء، فيكون من باب إطلاق اسم المسبب على السبب كما أنَّ العقيقة: اسم للشِّعْرِ الذي يكون على رأس الصغير حال ما يولد ثم تُسَمَّى الشاة التي تذبح عند خلق ذلك الشِّعْر عقيقة [فكذا ها هنا. هذا على قول من يقول: لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته] ومجازه فلا جرم نقول: المستفاد من هذه الآية حكم الوطء أمَّا حكم العقد فَإنَّهُ يستفاد من دليل آخر، فأمَّا [من] ذهب إلى اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميْه معاً، فإنه يقول دلت الآية على لفظ النكاح حقيقة الوطء، وفي العقد معاً، فكان قوله: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء﴾ نهي عن الوطء وعن العقد معاً حملاً للفظ على مفهوميه ولو سلمنا أنَّه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميْه معاًً، لكن ثبت بالدلائل المذكورة أنَّ لفظ النكاح قد استُعمِلَ في الوطء تارةً، وفي العقد أخرى، والقول بالاشتراكِ والمجاز خلاف الأصل، فلا بدّ من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو معنى الضمّ حتَّى يندفع الاشتراك والمجاز، فإذا كان كذلك كان قوله: «ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء» نهياً عن كل واحد من القسمين لا محالة، فإنّ النهي عن التزويج يكون نهياً عن العقد، وعن الوطء معاً، وأجيبوا عن هذا الاحتجاج بوجوه:
الأوَّل: لا نسلم أنَّ النكاح يقع على الوطء، والوجوه الَّتي احتجوا بها معارضة بوجوه:
الأول: قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «النِّكَاحُ سُنَّتِي» ولا شك أنَّ الْوَطْءَ من حيث كونه وَطْئاً ليس سنة [له] وإلا لزم أنْ يكون الوطء بالسفاح سُنَّةًَ فلما ثبت أنَّ النِّكاح سنة، وثبت أن الوطء ليس بسنة ثبت أنَّ النكاحَ ليس عبارة عن الوطء وكذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا» ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذناً في مطلق الوطء، وكذا التمسك بقوله ﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ﴾ [النور: ٣٢] ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣].
لا يقال: لما وقع التعارض بين هذه الدّلائل فالترجيح معنا، وذلك لأنَّا لو قلنا الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دليلنا، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى.
لأنَّا نقول: أنْتُم تساعدونا على أنَّ لَفْظَ النِّكاح مستعمل في العقد، فلو قلنا: إنَّ النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النِّكَاح فيها بمعنى الوطء ولا يلزمنا التخصيص فقولكم: يوجب المجاز والتخصيص معاً وقولنا: يوجب المجاز فقط، فكان قولنا أوْلَى.
الوجه الثَّاني من الوجوه الدَّالة على أنَّ النِّكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه [الصلاة] والسلام «وُلِدَتْ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولد مِنْ سِفَاحٍ» وهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحاً.
الوجه الثالث: من حلف في أولاد الزنا أنهم ليسوا أولاد نكاح لَمْ يَحْنَثْ، ولو كان الوطء نكاحاً لوجب أن يحنث.
سلمنا أنَّ الوطء يسمى نكاحاً لوجب أن يحنث.
سلمنا أنَّ الوطء يسمى نكاحاً لكن العقد أيضاً يسمى نكاحاً فلم كان حمل الآية على ما [ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا].
وأمَّا قولهم إنَّ الوطء مسبب للعقد، فكما يحسن إطلاق المسبب مجازاً فكذا يحتمل أن يُقَالَ النِّكاح اسم للعقد ثم أُطْلِقَ هذا الاسم على الوطء لِكَوْنِ الوطء مسبباً له، فلم كان أحدهما أوْلَى من الآخر، بل ما ذكرناه أولى؛ لأن استلزام السبب للمسبب أولى وأتم من استلزام المسبب للسبب المعين، فإنَّهُ لا يمنع حصول الحقيقة الواحدة بأسباب كثيرة كالمِلْك، فَإنَّهُ يحصل بالبيع واهبة والوصية والإرث، ولا شك أنَّ الملازمة شرط لجواز المجاز، فَثَبَتَ أنَّ القول بأنَّ اسم النِّكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد أولى من عكسه.
والوجه الثاني: أنَّهُ ثبت في أصول الفِقْهِ أنَّهُ يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معاً فحينئذ يلزم ألا تكون الآية دالة على حكم العقد، وهذا وإن كانوا قد التزموه لكنه مدفوع بإجماع المفسرين على سبب نُزُولِ هذه الآية هو أنَّهُم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم، وأجمع المسلمون على أنَّ سبب نزول تلك الآية لا بد وَأنْ يكون داخلاً [تحت الآية، بل اختلفوا في أنَّ غيره هل يدخل تحت الآية أم لا؟ فَأمَّا أنَّ سبب النُّزول يكون] داخلاً فيها فذلك مجمع عليه، وإذَا ثبت أنَّ سبب النزول لا بدّ وأن يكون مراداً ثبت بالإجماع أنَّ النهي عن العقد مراد من هذه الآية فيكون قولهم مضاد للدليل القاطع، فيكون مردوداً.
وَأمَّا استدلالهم بالضم فضعيف؛ لأنَّ الضم الحاصل في الوطء عبارة عن اتحاد
الأجسام وتلاصقها، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك؛ لأنَّ الإيجاب والقبول أصوات غير باقية، فمعنى الضمّ والتّلاقي والتّجاور فيها محال، وَإذَا كان كذلك فليس بين الوطء والعقد مفهوم مشترك حتى [يقال إنَّ لفظ النكاح حقيقة فيه، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أنْ يُقَالَ لفظ النكاح مشترك بين الوطء والعقد] ويقال: إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، ويرجع الكلام إلى الوجهين الأوَّلين.
الوجهُ الثالث: سلمنا أنَّ النِّكاح بمعنى الوطءِ ولكن لم قلتم إن قوله ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ المراد منه المنكوحة بل المراد منه المصدر لإجماعهم على أنَّ لفظ «ما» حقيقة في غير العقلاء، فلو كان المراد منه المنكوحة لزم هذا المجاز، وهو خلاف الأصل، بل أهل العربية اتفقوا على أن ما «ما» مع ما بعدها في تقدير المصدر فتقدير الآية: «ولا تنكحوا نكاح آبائكم»، ويكون المرادُ منه النَّهي على أن ينكحوا نكاحاً مثل نكاح آبائهم فإن أنكحتم كانت بغير وَلي ولا شهود، وكانت مُؤقتة، وكان على سبيل القهر والإلجاء، فنهاهم اللهُ تعالى عن مثل هذه الأنكحة بهذه الآيةِ؛ وهذا الوجه مَنْقُولٌ عن ابن جَرِيرٍ وغيره كما تقدَّمَ.
الوجه الرابع: سَلَّمْنَا أنَّ المراد المنكوحة، والتقدير: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم، ولكن قوله ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ ليس صريحاً في العموم بدليل أنَّهُ يصحُّ إدخال لفظ الكلِّ في البعض عليه، فيقالُ: ولا تنكحُوا بعض ما نكح آباؤكم، [ولو كان هذا صريحاً في العموم لكان إدْخَالُ لفظ الكلِّ عليه تكراراً، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً، ومعلوم أنَّهُ ليس كذلك، وإذَا ثبت أنه لا يفيد العموم لم يتناول محل النزاع، لا يقال: لو لم يفد يصير مجملاً غير مفيد والأصل ألا يكون كذلك؛ لأنا نقول: لا نُسَلِّمُ أن التقدير لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أنَّ سبب نزوله إنما هو التزوّج بزوجات الآباء، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى، وبهذا التقدير يزول الإجمال].
الوجهُ الخامس: سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النِّزاع لكن لم قُلْتُمْ: إنَّهُ يفيد التحريم، أليس أن كثيراً من أقسام النَّهي لا يُفِيدُ التَّحْريم، بل يفيدُ التنزيه، أقصى ما في البَاب أن يقال: هذا على خلاف الأصل، ولكن يجب المصير إذا دلّ الدّليل على صحّة [هذا] النكاح [وسنذكره.
الوجه السادس: هب أن ما ذكرتم يدل على فساد هذا النكاح] إلا أن ههنا ما يدلُّ على صحَّة هذا النكاح وهو من وجوه:
الأوَّلُ: هذا النِّكاح منعقد؛ فوجب أن يكون صحيحاً، بيان أنَّهُ منعقد لأنَّهُ منهي عنه بهذه الآية، ومذهب أبي حَنِيفَةَ أنَّ النَّهْيَ عن الشَّيء يَدُلُّ على كونه في نفسه منعقداً، وهذا أصْلُ مذهبه في مَسْأَلَةِ البيع الفَاسِدِ وصوم يوم النَّحْرِ، فيلزمُ من مجموع هاتين المُقَدِّمَتَيْنِ، أن يكون هذا النِّكاح منعقداً على أصل أبي حنيفة، وإذا كان منعقداً في هذه الصُّورة؛ وَجَبَ القولُ بالصِّحَّة؛ لأنَّهُ لا قائل بالفَرْقِ.
وثانيها: [أنَّ] قوله ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١] وهذا نهي إلى غاية إيمانِهنَّ والحكمُ المدود إلى غاية ينتهي عند حُصُولِ تلك الغاية، وإذا انتهى [المنع] حصل الجواز، فهذا يقتضي جواز إنكاحهن على الإطلاق، ويدخل في هذا العموم مزنيّة الأب وغيرها، أقصى ما في هذا الباب أنَّ هذا العموم خُصَّ في مواضع، فَيَبْقَى حجة في غير محل التخصيص، ولذلك يستدل بجميع المعلومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى:
﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ﴾ [النور: ٣٢] وقوله ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] وكذلك قوله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وليس لأحد أن يقول إن قوله ﴿مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] ضمير عائد إلى المذكور السابق، ومن جملة المذكور السابق قوله: ﴿مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وليس لأحد أن يقول إن قوله ﴿مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] ضمير عائد إلى المذكور السابق، ومن جملة المذكور السابق قوله: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء﴾ لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات إليه هو قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] وكان قوله ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء﴾ عائداً إليه، ولا يدخل فيه قوله ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء﴾ وكذلك عموم الأحاديث كقوله عليه السلام «إذَا جَاءَكُم مضنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ» وقوله «
زوجوا بناتكم [الأكفاء] » وهذه العمومات تتناول محل النزاع، والترجيح يكون بكثرة الأدلة، وبتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فيكون حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلاَّ مجاز واحد، وبتقدير أن تحلم تلك الآية على حرمة الوطء تلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة، فكان الترجيح من جانبنا لكثرة الدلائل.
وثالثها: الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام «الحرام لا يحرم الحلال» أقصى ما في هذا الباب أن يقال: إن قطرة من الخمر إذا وقت في كوز ماء، فههنا الحرام حرّم الحلال، [وإذا اختلطت المنكوحة بالأجنبيات واشتبهت بهن فههنا الحرام حرم الحلال] إلا أنَّا نقول: دخول التخصيص فيه في بعض الصور، ولا يمنع من الاستدلال به.
ورابعها: أن يقول: المقتضي لجواز النِّكاح قائم، والفَارِقُ بَيْنَ مَحَلِّ الإجماع وبين مَحَلِّ النَّزاع ظاهر؛ فَوَجَبَ القولُ بالجوازِ أمَّا المقتضي فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النّسوان عند حُصُولِ الشَّرائط المتفق عليها؛ بجامع ما في النِّكاح مِنَ المصالح، وأمَّا الفارق: فهو أنَّ هذه الحرمة إنَّمَا حكم الشَّارع بثبوتها سعياً في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح، ومعلوم أنَّ هذا لا يليق بالزِّنَا.
بيان المقام الأول: من تزوج بامرأة فلم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه، ولم تدخل على المرأة أم المرأة وبنتها، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح، ولو أذنَّا في هذا الدخول، ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد على البعض إلى البعض، وحصل الميل والرغبة، وعند حصول التزوج بأمها وابنتها تحصل النفرةَ الشديدة بينهن؛ لأنَّ صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعاً، وأشد إيلاماً وتأثيراً، وعند حصول النفرة الشَّديدة يحصل التَّطْلِيقُ والفراق، أمَّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهوة، فلا يحصل ذلك الضرر فيبقى النكاح بين الزّوجين سليماً عن هذه المفسدة، فثبت أن المقصود من حكم الشّرع بهذه المحرمية السعي في تقريرِ الاتصال الحاصل بين الزوجين، وإذَا كان المقصود من المحرمية إبقاء ذلك الاتِّصال، فمعلوم أنّ الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء، فناسب حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية [وأما الاتصال الحاصل بالزنا فهو غير مطلوب البقاء، فلم يتناسب] حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية، وهذا وجه مقبول.
قوله ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه منقطع؛ إذ الماضي لا يجامع الاستقبال، والمعنى أنَّهُ لما حرَّم عليهم نكاح ما نكح آباؤهم [من النِّساء] تطرق الوهم إلى ما مضى في الجاهِلِيَّةِ ما حكمه؟
فقيل: إلاَّ ما قد سَلَفَ، فلا إثْمَ عَلَيْهِ.
وقال ابْنُ زَيْدٍ في معنى ذلك أيضاً: إنَّ المُرَادَ بالنِّكَاحِ العقدُ بالنِّكَاحِ العقدُ الصَّحِيحُ، وحَمَلَ ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ على ما قد يتعاطَاهُ بعضهم من الزِّنَا [فقال: إلا ما سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا] بالنِّسَاءِ، فَذَلِكَ جائز لكم زواجكم في الإسْلاَمِ، وكأنَّهُ قيل: ولا تَعْقِدُوا عَلَى مَنْ عقد آباؤكم عليه إلاَّ ما قد سَلَفَ من زَنَاهُم، فَإنَّهُ يجوز لكم أن تَتَزَوَّجُوهُمْ، فهو استثناءٌ منقطعٌ أيضاً.
والثاني: أنَّهُ استثناءٌ مُتَّصِلٌ وفيه معنيان:
أحدهما: أن يحمل النِّكَاح على الوَطْءِ، والمعنى: أنَّهُ نهى أنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأةً وَطَئَهَا أبُوه، إلا ما قد سَلَفَ من الأبِ في الجاهليَّةِ من الزِّنَا بالمرأةِ، فإنَّه يجوز للابن تزويجها نُقِلَ هذا المَعْنَى عن ابن زَيْدٍ أيضاً إلاّ أنَّهُ لا بدّ من التّخصيص [أيضاً] في شيئين:
أحدهُمَا: قوله: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ أي: ولا تَطَئُوا وطئاً مباحاً بالتَّزويج.
والثَّاني: التَّخْصيصُ في قوله: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ بوطء الزِّنَا وإلا فَالوَطْءُ فيما قَدْ سَلَفَ قد يكون [وَطْئاً] غير زنا، وقد يكون زنا فيصير التقدير: ولا تطئوا ما وطئ آباؤكم وَطْئاً مباحاً بالتزويج إلاَّ من كان وطؤها فيما مضى وطء زنا في الجاهليَّةِ.
والمعنى الثَّاني: ولا تَنْكِحُوا مِثْلَ نكاح آبائكم في الجاهليَّةِ إلاَّ ما تَقَدَّمَ منكم من تلك العُقُودِ الفَاسِدَةِ فَيُبَاحُ لكم الإقامة عليها في الإسْلاَمِ، إذا كان ممّا يقرر الإسلام عليه، وهذا على رَأي من يَجْعَل «ما» مصدريّة، وقد تَقَدَّمَ مذل ذلك. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: كيف استثنى ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ مما نكح آباؤكم؟ قلتك كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله «ولا عيب فيهم» يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه، وسدّ الطريق إلى إباحته كما تَعَلَّقَ بالمحال في التأبيد في نحو قولهم: «حتى يبيضّ القار»
و ﴿حتى
يَلِجَ
الجمل فِي سَمِّ الخياط﴾ [الأعراف: ٤٠] انتهى.
أشار رحمهُ اللهُ إلى بيت النَّابِغَةِ في قوله: [الطويل]
١٧٧٢ - وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |