كرفع الطور فوقهم وغير ذلك. قال أهل الإشارة: ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات والطيبات التي أحلت لهم ولأزواجهم الطيبين قبل التلوث بقذر المخالفات والإسراف في المباحات يستتبع حرمان المناجاة والقربات لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هم الذين رسخوا بقدمي الصدق والعمل في العلم إلى أن بلغوا معادن العلوم فاتصلت علومهم الكسبية بالعلوم العطائية واللدنية إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي كل ما أوحينا إليهم أوحينا إليك من سر فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: ١٠] وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي ليلة المعراج وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: ١٦٤] الآن في القرآن مفصلة أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ تجلى له بصفة العالمية حتى علم بعلمه ما كان وما سيكون وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ على تلك الخلوة وإن لم يكونوا معك في الخلوة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما جرى.
قد كان ما كان سرا لا أبوح به | ظن خيرا ولا تسأل عن الخبر |
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦) صفحة رقم 532
القراآت:
فسنحشرهم بالنون: المفضل. الباقون بالياء.
الوقوف:
خَيْراً لَكُمْ ط. وَالْأَرْضِ ط حَكِيماً هـ إِلَّا الْحَقَّ ط.
وَكَلِمَتُهُ ج للاستئناف مع اتحاد المقصود. وَرُوحٌ مِنْهُ ز لعطف المختلفين ولكن فاء التعقيب توجب تعجيل الإيمان مع تمام البيان. وَرُسُلِهِ ط. ثَلاثَةٌ ط خَيْراً لَكُمْ ط إِلهٌ واحِدٌ ط. وَلَدٌ ج لأن المنفي منه مطلق الولد ولو وصل أوهم أن المنفي ولد موصوف بأن له ما في السموات وما في الأرض. وَكِيلًا هْ مُقَرَّبُونَ
طمِيعاً
هـ.
مِنْ فَضْلِهِ ج أَلِيماً هـ وَلا نَصِيراً هـ مُبِيناً هـ وَفَضْلٍ لا للعطف.
مُسْتَقِيماً هـ يَسْتَفْتُونَكَ ط. الْكَلالَةِ ط ما تَرَكَ ج لأن ما بعده مبتدأ ولكن الكلام متحد البيان. لَها وَلَدٌ ط لأن جملة الشرط تعود إلى قوله: فَلَها نِصْفُ وبينهما عارض مِمَّا تَرَكَ ط لابتداء حكم جامع للصنفين. الْأُنْثَيَيْنِ ط أَنْ تَضِلُّوا ط عَلِيمٌ هـ.
التفسير:
لما بيّن فساد طريقة اليهود وأجاب عن شبههم عمم الخطاب فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ أي بالقرآن والقرآن معجز فيكون حقا أو بالدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره وهو الحق الذي تشهد له العقول السليمة. فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ انتصابه بمضمر وكذا في انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ لأنه لما بعثهم على الإيمان والانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر. فالمعنى: اقصدوا وأتوا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان والتوحيد، فإن الإيمان لا شك أنه أحمد عاقبة من الكفر بل العاقبة كلها له. وقيل: إنه منصوب على خبرية «كان» أي يكن الإيمان خيرا لكم والأول أصح لئلا يلزم الحذف من غير قرينة وَإِنْ تَكْفُرُوا فإن الله غني عنكم لأنه مالك الكل، أو هو قادر على إنزال العذاب لأن الكل تحت قهره وتسخيره، أو له عبيد أخر يعبدونه غيركم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوال العباد حَكِيماً لا يضيع أجر المحسن ولا يهمل جزاء المسيء.
ثم لما أجاب عن شبه اليهود خاطب النصارى ومنعهم عن الغلو في الدين وهو الإفراط في شأن المسيح إلى أن اعتقدوه إلها لا نبيا، وحثهم على أن لا يقولوا على الله إلّا الحق الذي يحق ويجب وصفه به وهو تنزيهه عن الحلول في بدن إنسان والاتحاد بروحه واتخاذه لصاحبة وولد إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وجد بأمره من غير واسطة أب ولا نطفة أَلْقاها أي الكلمة إِلى مَرْيَمَ أي أوصلها إليها وحصلها فيها وَرُوحٌ مِنْهُ أي إنه طاهر نظيف بمنزلة الروح كما يقال: هذه نعمة من الله، أو سمي بذلك لأنه سبب حياة الأرواح أو كمالها كما سمي القرآن روحا في قوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وقيل: أي رحمة منه كقوله: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: ٢٢]
ولا شك أن وجود النبي ﷺ رحمة للأمة قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧]
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة»
وقيل: الروح هو الريح يعني أن النفخ من جبريل كان بأمر الله تعالى فهو منه والتنكير للتعظيم أي روح من الأرواح الشريفة القدسية العالية. وقوله: مِنْهُ إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي آمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ هي خبر مبتدأ محذوف أي الله ثلاثة إن كان معتقدهم أن الذات جوهر واحد وأنه ثلاثة بالصفات ويسمونها الأقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس، وربما يقولون أقنوم الذات وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، أو الآلهة ثلاثة إن كان في اعتقادهم أنها ذوات قائمة بأنفسها الأب والأم والابن. ولعل القولين مرجعهما إلى واحد لأنهم إذا جوزوا على الصفات الانتقال والحلول في عيسى وفي مريم فقد جعلوها مستقلة بأنفسها ولهذا لزم الكفر والشرك، وإلا فمجرد إثبات الصفات لله تعالى لا يوجب الشرك. فالأشاعرة أثبتوا لله تعالى ثمان صفات قدماء. انْتَهُوا عن التثليث واقصدوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ لا تركيب فيه بوجه من الوجوه سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها من أن يكون له ولد فلا يتصل به عيسى اتصال الأبناء بالآباء ولكن من حيث إنه عبده ورسوله موجود بأمره جسدا حيا من غير أب لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه على أن الجزء إنما يصح في المنقسم عقلا أو حسا، وإنه لا ينقسم بجهة من الجهات لا العقلية ولا الحسية. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وإذا كان كافيا في تدبير المخلوقات وحفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر مستقل أو مشارك.
قال الكلبي: إن وفد نجران قالوا: يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وأي شيء أقول فيه؟
قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله. فقال لهم: إنه ليس بعار لعيسى أن يكون عبد الله. قالوا:
بلى. فنزل نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
والتحقيق أن الشبهة التي عليها يعوّلون في دعوى أنه ابن الله هي أنه كان يخبر عن المغيبات ويأتي بخوارق العادات كإحياء الأموات فقيل لهم: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
بسبب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبودية الله تعالى فإن الملائكة المقربين أعلى حالا منه لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ، وقد حمل العرش مع عظمته ثمانية منهم ثم إنهم لم يستنكفوا عن كونهم عبادا لله تعالى فكيف يستنكف المسيح عن ذلك أي يمتنع ويأنف؟ والتركيب يدور على التنحية والإزالة من ذلك نكفت الدمع أنكفه إذا نحيته عن خدك بأصبعك، ونكفت عن الشيء أي عدلت.
والقائلون بأفضلية الملائكة استدلوا بهذه الآية وقد تقدم الاستدلال بها والجواب عنها والبحث عليها في سورة البقرة في تفسير قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [البقرة: ٣٤]
الآية. أما قوله: لَا الْمَلائِكَةُ
فإنه معطوف علىْ مَسِيحُ
وهو الأظهر، وجوز بعضهم عطفه على الضمير في كُونَ
أو في بْداً
لمعنى الوصفية فيه فيكون المعنى: أنّ المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا الملائكة موصوفين بالعبودية، أو لا يأنف أن يعبد الله هو والملائكة.
وفي المعنيين انحراف عن الغرض فالأول أولى. والمراد بالملائكة كل واحد منهم حتى يكون خبره أيضابْداً
أو يكون الخبر عِباداً وحذف لدلالةبْداً
عليه مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ
أي يجمعهم يوم القيامة إليه حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا.
ثم إنه تعالى لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولا ثواب المؤمنين المطيعين فسئل إن التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد فأجاب في الكشاف بأن هذا كقولك: جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به. فحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أو قدم ثواب المؤمنين توطئة كأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وسيعاقب مع ذلك بما يصيبهم من العذاب. أقول: لو جعل الضمير في قول: سَيَحْشُرُهُمْ
راجعا إلى الناس جميعا لم يحتج إلى هذه التكلفات ويحصل الربط بسبب العموم ومثله غير عزيز في القرآن كقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: ٣٠] ثم عاد إلى تعميم الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ الآية. فيحتمل أن يراد بالبرهان والنور كليهما القرآن، ويحتمل أن يراد بالبرهان محمد ﷺ لأنه يقيم البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل وبالنور المبين القرآن لأن سبب لوقوع نور الإيمان في القلب. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه وَاعْتَصَمُوا بِهِ تمسكوا بدينه أو لجؤا إليه في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ قال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي إلى عبادته صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الدين الحنيفي والتقدير صراطا مستقيما إليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة والفضل اللذات الحسية الباقية، وبالهداية اللذات الروحانية الدائمة.
ثم إنه سبحانه ختم السورة بنحو مما بدأها به وهو أحكام المواريث فقال:
يَسْتَفْتُونَكَ الآية. قال أهل العلم: إنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه ولهذا تسمى آية الصيف.
عن جابر قال: اشتكيت فدخل عليّ رسول الله ﷺ وعندي سبع أخوات فنفخ في وجهي فأفقت فقلت: يا رسول الله أوصي لأخواتي بالثلث. قال: أحسن. فقلت: الشطر؟ قال:
أحسن. ثم خرج وتركني قال: ثم دخل فقال: يا جابر إني لا أراك تموت في وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبيّن الذي لأخواتك وجعل لأخواتك الثلثين.
وروي أنه آخر ما نزل من الأحكام كان رسول الله ﷺ في طريق مكة عام حجة الوداع فأتاه جابر بن عبد الله فقال: إن لي أختا فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ فنزلت.
هذا وقد تقدم أن الكلالة اسم يقع على الوارث وهو من عدا الوالد والولد وعلى المورث وهو الذي لا ولد له ولا والدين. إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع امْرُؤٌ بمضمر يفسره هذا الظاهر، ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ وغير ذي ولد. اعلم أن ظاهر الآية مطلق ولا بد فيه من تقييدات ثلاثة: الأول أن الولد مطلق والمراد به الابن لأنه هو الذي يسقط الأخت، وأما البنت فلا تسقطها ولكنها تعصبها لما
روي عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الابن السدس والباقي للأخت.
فعلى هذا فلو خلف بنتا وأختا فللبنت النصف والباقي للأخت بالعصوبة. الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك على الإطلاق، بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع. الثالث قوله: وَلَهُ أُخْتٌ المراد الأخت من الأب والأم أو من الأب لأن الأخت من الأم والأخ من الأم ذكر حكمهما في أول السورة بالإجماع. ثم قال: وَهُوَ يَرِثُها أي وأخوها يرثها ويستغرق مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ
أي ابن كما قلنا لأن الابن يسقط الأخ دون البنت. وأيضا إن هذا في الأخ من الأبوين أو من الأب، أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث. وأيضا المراد إن لم يكن لها ولد ولا والد لأن الأب أيضا مسقط للأخ
لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر»
والأب أولى من الأخ.
ثم قال: فَإِنْ كانَتَا يعني من يرث بالإخوة اثْنَتَيْنِ فأنث وثنى باعتبار الخبر كقولهم من كانت أمك وكذا الكلام في قوله: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً وأراد بالإخوة الإخوة والأخوات لكنه غلب جانب الذكورة. روي أن الصديق قال في خطبة: ألا إنّ الآيات التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض أولاها في الوالد والولد، وثانيتها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والتي ختم بها السورة في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والتي ختم بها الأنفال في أولي الأرحام يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قال البصريون: المضاف محذوف أي كراهة أن تضلوا. وقال الكوفيون: لئلا تضلوا. وقال الجرجاني صاحب النظم: يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتتجنبوها وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا. ختم
السورة ببيان كمال العلم كما أنه ابتدأها بكمال القدرة فبهما تتم الإلهية ويحصل الترهيب والترغيب للعاصي والمطيع والله المستعان.
التأويل:
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني إن تؤمنوا يكن لكم ماله وإن تكفروا فالكل له لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ لا تميلوا إلى طرفي التفريط والإفراط. فاليهود فرطوا في شأنه فلم يقبلوه نبيا وهموا بقتله، والنصارى أفرطوا في حبه فجعلوه ابن الله، وكذلك كل ولي له سبحانه يشقى قوم بترك احترامه وطلب أذيته، وقوم بالزيادة في إعظامه حتى يعتقد فيه ما ليس يرضى به كالخوارج والغلاة من الشيعة ولهذا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» «١».
وَرُوحٌ مِنْهُ لأنه تكوّن بأمركن من غير واسطة أب كما أن الروح تكون كذلك قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: ٨٥] ولغلبة جانب الروحانية عليه كان يحيي الأجساد الميتة إذ ينفخ فيها وهذا الاستعداد الروحاني الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته في إنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله تعالى بأنفاسه القلوب الميتة ويفتح به آذانا صما وعيونا عميا فيكون في قومه كالنبي في أمته وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني نفوسكم والرسول والله. بل انتهوا بنظر الوحدة عن رؤية الثلاثة فينكشف لكم إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سبحانه أن يتولد من وحدانيته شيء له الوجود الحقيقي القائم الدائم أولا وآخرا وظاهرا وباطنا كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لكل هالك. نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
لأن العبدية وهي حقيقة الإمكان الذاتي واجبة له ولهذا نطق في المهد بقوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: ٣٠] لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
إنما ذكرهم لأن بعض الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله كما قالت النصارى المسيح ابن الله. قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ جعل نفس النبي برهانا لأنه برهان بالكلية وبرهان غيره كان في أشياء غير أنفسهم مثل ما كان برهان موسى في عصاه. فمن ذلك برهان بصره ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧] ومنه برهان أنفه
«إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «٢»
ومنه برهان لسانه وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] وبرهان بصاقه بصق في العجين وفي البرمة فأكلوا من ذلك وهم ألف حتى تركوه والبرمة تفور كما هي والعجين يخبز. وبرهان تفله تفل في عين علي كرم الله وجهه وهي ترمد فبرأ بإذن الله وذلك يوم خيبر، وبرهان يده وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
(٢) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٥٤١).
[الأنفال: ١٧] وسبح الحصى في يده، وبرهان أصبعه أشار بها إلى القمر فانشق فلقتين، وقد جرى الماء من بين أصابعه حتى شرب ورفع منه خلق كثير، وبرهان صدره كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل. أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: ١] وبرهان قلبه
«تنام عيناي ولا ينام قلبي» «١»
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: ١٩٣] وبرهان كله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١] اللهم ارزقنا الاقتناص من هذا البرهان والاقتباس من أنوار القرآن إنك أنت الرؤوف المنان.