إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَعْظَمِ النِّهَايَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً وَلَمَّا وَصَفَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ضَلَالِهِمْ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَعِيدَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا مُحَمَّدًا بِكِتْمَانِ ذِكْرِ بِعْثَتِهِ وَظَلَمُوا عَوَامَّهُمْ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِضْمَارِ شَرْطٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّا نَحْمِلُ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَقْوَامٍ عَلِمَ اللَّه مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَضْمَرْنَا فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً انْتَصَبَ خَالِدِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى لَا لِيَهْدِيَهُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نُعَاقِبُهُمْ خَالِدِينَ، وَانْتَصَبَ أَبَداً عَلَى الظَّرْفِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّه يَسِيرًا، وَالْمَعْنَى لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَانَ إِيصَالُ الْأَلَمِ إِلَيْهِمْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ يَسِيرًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا عَلَى غَيْرِهِ.
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٠]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ الْيَهُودِ عَلَى الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ وَبَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ خِطَابًا عَامًّا يَعُمُّهُمْ وَيَعُمُّ غَيْرَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَذَا الْحَقُّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِ. وَالثَّانِي:
أَنَّهُ جَاءَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْعَقْلُ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ يَعْنِي فَآمِنُوا يَكُنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، أَيْ أَحْمَدَ عَاقِبَةً مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّه غني عن إيمانكم لأنه مالك السموات وَالْأَرْضِ وَخَالِقُهُمَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فإن للَّه ما في السموات وَالْأَرْضِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَيْكُمْ لَوْ كَفَرْتُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّكُمْ إِنْ كَفَرْتُمْ فَلَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَلَهُ عَبِيدٌ يَعْبُدُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ عباده المؤمنين والكافرين شيء، وحكيما لَا يَضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨].
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧١ الى ١٧٣]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)
[في قوله تعالى يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ إلى قوله وَرُوحٌ مِنْهُ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِ الْيَهُودِ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ النَّصَارَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ النَّصَارَى لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أَيْ لَا تُفْرِطُوا فِي تَعْظِيمِ الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي الطَّعْنِ فِي الْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ النَّصَارَى يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ وَكِلَا طَرَفَيْ قَصْدِهِمْ ذَمِيمٌ، فَلِهَذَا قَالَ لِلنَّصَارَى لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَقَوْلُهُ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يَعْنِي لَا تَصِفُوا اللَّه بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَوْ رُوحِهِ، وَنَزِّهُوهُ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَلَمَّا مَنَعَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْغُلُوِّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّه وَعَبْدُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
فَاعْلَمْ أَنَّا فَسَّرْنَا (الْكَلِمَةَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٥] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وُجِدَ بِكَلِمَةِ اللَّه وَأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا نُطْفَةٍ كَمَا قَالَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] أما قَوْلُهُ وَرُوحٌ مِنْهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنَّهُمْ إِذَا وَصَفُوا شَيْئًا بِغَايَةِ الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ قَالُوا: إِنَّهُ رُوحٌ، فَلَمَّا كَانَ عِيسَى لَمْ يَتَكَوَّنْ مِنْ نُطْفَةِ الْأَبِ وَإِنَّمَا تَكَوَّنُ مِنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا جَرَمَ وُصِفَ بِأَنَّهُ رُوحٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْهُ التَّشْرِيفُ وَالتَّفْضِيلُ كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه، وَالْمُرَادُ كَوْنُ تِلْكَ النِّعْمَةِ كَامِلَةً شَرِيفَةً. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْخَلْقِ فِي أَدْيَانِهِمْ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ رُوحٌ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: ٥٢] الثَّالِثُ: رُوحٌ مِنْهُ أَيْ رَحْمَةٌ مِنْهُ، قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢] أَيْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» فَلَمَّا كَانَ عِيسَى رَحْمَةً مِنَ اللَّه عَلَى الْخَلْقِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ كَانَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَا جَرَمَ سُمِّيَ رُوحًا مِنْهُ. الرَّابِعُ: / أَنَّ الرُّوحَ هُوَ النَّفْخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ الرُّوحَ وَالرِّيحَ مُتَقَارِبَانِ، فَالرُّوحُ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ وَقَوْلُهُ مِنْهُ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ النَّفْخَ مِنْ جِبْرِيلَ كَانَ بِأَمْرِ اللَّه وَإِذْنِهِ فَهُوَ مِنْهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: ٩١] الْخَامِسُ: قَوْلُهُ رُوحٌ أَدْخَلَ التَّنْكِيرَ فِي لَفْظِ رُوحٌ وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ، فَكَانَ الْمَعْنَى: وَرُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الشَّرِيفَةِ الْقُدُسِيَّةِ الْعَالِيَةِ، وَقَوْلُهُ مِنْهُ إِضَافَةٌ لِذَلِكَ الرُّوحِ إِلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ أَنَّ عِيسَى مِنْ رُسُلِ اللَّه فَآمِنُوا بِهِ كَإِيمَانِكُمْ بِسَائِرِ الرُّسُلِ وَلَا تَجْعَلُوهُ إِلَهًا.
ثُمَّ قَالَ: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى: وَلَا تَقُولُوا إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ بِالْجَوْهَرِ ثَلَاثَةٌ بِالْأَقَانِيمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ النَّصَارَى مَجْهُولٌ جِدًّا، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَاتًا مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ وَإِنْ سَمَّوْهَا صِفَاتٍ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ ذَوَاتٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ عَلَيْهَا الْحُلُولَ فِي عِيسَى وَفِي مَرْيَمَ
بِأَنْفُسِهَا، وَإِلَّا لَمَا جَوَّزُوا عَلَيْهَا أَنْ تَحِلَّ فِي الْغَيْرِ وَأَنْ تُفَارِقَ ذَلِكَ الْغَيْرَ مَرَّةً أُخْرَى، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِالصِّفَاتِ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُثْبِتُونَ ذَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً قَائِمَةً بِأَنْفُسِهَا، وَذَلِكَ مَحْضُ الْكُفْرِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا فَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا الثَّلَاثَةَ عَلَى أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ صِفَاتٍ ثَلَاثَةً، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَإِنَّا نَقُولُ: هُوَ اللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْعَالِمُ الْحَيُّ الْقَادِرُ الْمُرِيدُ، وَنَفْهَمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرَ مَا نَفْهَمُهُ مِنَ اللَّفْظِ الْآخَرِ، وَلَا مَعْنَى لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ إِلَّا ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ كُفْرًا لَزِمَ رَدُّ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَلَزِمَ رَدُّ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا أَوْ حَيًّا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ ثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ:
مَا ذَكَرْنَاهُ، أَيْ وَلَا تَقُولُوا الْأَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا تَقُولُوا آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّه وَالْمَسِيحَ وَمَرْيَمَ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: ١١٦] الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَلَا تَقُولُوا هُمْ ثَلَاثَةٌ كقوله سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الكهف: ٢٢] وذلك لأن ذكر عِيسَى وَمَرْيَمَ مَعَ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ يُوهِمُ كَوْنَهُمَا إِلَهَيْنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا نَرَى مَذْهَبًا فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ رَكَاكَةً وَبُعْدًا عَنِ الْعَقْلِ مِنْ/ مَذْهَبِ النَّصَارَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ انْتِصَابِهِ عِنْدَ قوله فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.
ثُمَّ أَكَّدَ التَّوْحِيدَ بِقَوْلِهِ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَدَلَائِلُ تَنْزِيهِ اللَّه عَنِ الْوَلَدِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِنْ يَكُونُ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَنْ وَرَفْعِ النُّونِ مِنْ يَكُونَ، أَيْ سُبْحَانَهُ مَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ ذَكَرَ كَوْنَهُ مَلِكًا وَمَالِكًا لِمَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ فِي مَرْيَمَ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: ٩٣] وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مَالِكًا لكل السموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا فِيهَا كَانَ مَالِكًا لِعِيسَى ولمريم لأنهما كانا في السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَمَا كَانَا أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِمَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ مَالِكًا لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمَا فَبِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُمَا أَوْلَى، وَإِذَا كَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَكَيْفَ يُعْقَلُ مَعَ هَذَا تَوَهُّمُ كَوْنِهِمَا لَهُ وَلَدًا وَزَوْجَةً.
ثُمَّ قَالَ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْمَخْلُوقَاتِ وَفِي حِفْظِ الْمُحْدَثَاتِ فَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ إِلَهٍ آخَرَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ كَانَ كَافِيًا فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا إِلَهًا آخَرَ مَعَهُ لَكَانَ مُعَطَّلًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَقْصٌ، وَالنَّاقِصُ لَا يَكُونُ إِلَهًا.
ثُمَّ قال تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ أَيْ لَنْ يَأْنَفَ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَكَفْتُ الدَّمْعَ إِذَا نَحَّيْتَهُ بإصبعك عن خدك، فتأويل نْ يَسْتَنْكِفَ
أي لن يتنغص ولم يَمْتَنِعَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ الْمُنْذِرِيَّ يَقُولُ:
سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِنْكَافِ فَقَالَ: هُوَ مِنَ النَّكْفِ، يُقَالُ مَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ نَكْفٍ وَلَا وَكْفٍ، وَالنَّكْفُ أَنْ يُقَالَ لَهُ سُوءٌ، وَاسْتَنْكَفَ إِذَا دَفَعَ ذَلِكَ السُّوءَ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ تَعِيبُ صَاحِبَنَا قَالَ: وَمَنْ صَاحِبُكُمْ؟ قَالُوا عِيسَى، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ قُلْتُ؟ قَالُوا تَقُولُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّه وَرَسُولُهُ، قَالَ إِنَّهُ/ لَيْسَ بِعَارٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّه، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّه، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ أَشَارَ بَعْدَهُ إِلَى حِكَايَةِ شُبْهَتِهِمْ وَأَجَابَ عَنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي عَلَيْهَا يُعَوِّلُونَ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ ابْنُ اللَّه هُوَ أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ وَكَانَ يَأْتِي بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قال: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ فِي الْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ لِأَنَّهُمْ مُطَّلِعُونَ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَعْلَى حَالًا مِنْهُ فِي الْقُدْرَةِ لِأَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْهُمْ حَمَلُوا الْعَرْشَ عَلَى عَظَمَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كمال حالهم في العلوم والقدرة لا يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِفُ الْمَسِيحُ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَنَاسِبَةً مُتَتَابِعَةً وَمُنَاظَرَةً شَرِيفَةً كَامِلَةً، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَةِ: ٣٤] وَأَجَبْنَا عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِوُجُوهٍ كثيرة، والذي نقول هاهنا: إِنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ اطِّلَاعَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ أَكْثَرُ مِنَ اطِّلَاعِ الْبَشَرِ عَلَيْهَا وَنُسَلِّمُ أَنَّ قُدْرَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَشَدُّ مِنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، كَيْفَ وَيُقَالُ: إِنَّ جبريل قلع مدائن قوله لُوطٍ بِرِيشَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ ثَوَابَ طَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ أَمْ ثَوَابَ طَاعَاتِ الْبَشَرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى إِنَّمَا أَثْبَتُوا إِلَهِيَّةَ عِيسَى بِسَبَبِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْغُيُوبِ وَأَتَى بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ. فَإِيرَادُ الْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ إِبْطَالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ أَقْوَى حَالًا فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَفِي هَذِهِ الْقُدْرَةِ مِنَ الْبَشَرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ. فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَوْضِعَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا قَوِيَ فِي الْأَوْهَامِ لِأَنَّ النَّاسَ مَا لَخَّصُوا مَحَلَّ النِّزَاعِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْطُوفُونَ عَلَى الْمَسِيحِ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فِي أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا للَّه وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المراد ولا كل واحد من المقربين. الثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أَنْ يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قوله بْداً لِلَّهِ
عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (عبيد اللَّه) على التصغير.
المسألة السادسة: قوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَبَقَاتِ الْمَلَائِكَةِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الدَّرَجَةِ وَالْفَضِيلَةِ فَالْأَكَابِرُ مِنْهُمْ مِثْلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَقَدْ شَرَحْنَا طَبَقَاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَةِ: ٣٠].