
فصلبوه حالة كونهم غير موقنين بأنه عيسى للأسباب المارة، ولأن الحواريين فقدوا صاحبهم ولم يجدوه معهم، ولذلك ترى بعض الأناجيل تسكت عن ذكر يهوذا، وبعضها تقول انه عرف خطيئته فصلب نفسه، والصحيح ما جاء في إنجيل برنابا لأنه موافق لما في القرآن مع القطع بأنه لم يصلب بل رفع إلى السماء وصلب يهوذا الذي ألقي عليه شبهه. ولما صلب المنافق يهوذا التي أشارت الأناجيل الأربعة وإنجيل برنابا إلى نفاقه وخيانته ودلالة اليهود عليه، قال تعالى ما فعلوا شيئا بعيسى «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» فلم تقبضه اليهود ولم تصلبه «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً» غالبا قويا قادرا على تخليص عيسى ورفعه إليه رفعا حقيقيا لا رفع مكانة كما يقول الأحمديون، بل رفع مكان، وهذا الرفع قد يكون بكلمة كن، وبواسطة ملك أو بوضع معراج، تدبر وصدق وآمن، والله قادر على ذلك وعلى إسلام عدوه لأعدائه كي يصلبوه فداء له «حَكِيماً» (١٥٨) بما صنع في ذلك وقد أوضحنا هذا البحث في الآية ٤٣ من سورة آل عمران المارة. قال تعالى «وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» الموجودين عند نزوله من السماء المنوه به في الآية ٦٠ من سورة الزخرف في ج ٢ فراجعها «إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ» إذ تكون إذ ذاك الأديان كلها دينا واحدا، أي من أهل الكتاب فقط، لأن أهل الأرض لا يتفقون على دين واحد لقوله تعالى (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) الآية ١١٨ من سورة هود في ج ٢ «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ» السيد عيسى عليه السلام «عَلَيْهِمْ» أي أهل الكتابين «شَهِيداً» (١٥٩) بما وقع منهم عليه وبما نسبوه إليه من كونه إلها أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة أو هو جوهر واحد إلخ كما سيأتي. قال تعالى «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» وهي المذكورة في الآية ١٤٥ من سورة الأنعام في ج ٢ «وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً» (١٦٠) من الناس إذ منعوهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبكتابه العظيم
«وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ» من قبل نبيهم وهذه الآية الرابعة بشأن الربا لا حكم فيها، إلا أنها تفيد الإخبار بقبح أعمال اليهود التي من جملتها تعاطي الربا، وقد أوضحنا ما يتعلق فيه في الآية ١٧٥ من آل عمران فراجعها.
ت (٤٠)

«وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ» ظلما بغير حق، وبهذه الأسباب الأربعة شددنا عقوبتهم لكفرهم بتعاليم رسولهم وكتابهم «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (١٦١) وإنما قال تعالى منهم لعلمه أن منهم من يؤمن بعد. قال تعالى «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ» المتوغلون في حقائقة، كعبد الله بن سلام وأصحابه «وَالْمُؤْمِنُونَ» بالله ورسله «يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» يصدقون به ويؤمنون إيمانا كاملا به «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» قرىء بالنصب على الاختصاص أو المدح وبالرفع عطف على المؤمنين «وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» بالرفع عطفا على المؤمنين أيضا «وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات «سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً» في الآخرة لا تقدر قدره عقولهم، لأنه فوق ما يتصورون مكافأة لإيمانهم هذا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال تعالى «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام، ونظير هذه الآية الآية ١١٢ من سورة الشورى في ج ٢، ولم يذكر الله تعالى موسى عليه السلام، لأنه أعطي التوراة جملة واحدة والذين ذكرهم من الأنبياء لم تنزل عليهم كتبهم دفعة واحدة كمحمد صلّى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، ولذلك ذكرهم في معرض سؤالهم السابق «وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» (١٦٣) «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» نزول هذه السورة «وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» بعد وهم كثيرون. سأل أبو ذر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الأنبياء، فقال مئة الف وأربعة وعشرون الفا، قال كم الرسل منهم؟ قال ثلاثمائة وثلاثة عشر أولهم آدم وآخرهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، منهم العرب الأقدمون أربعة هود وصالح وشعيب وإسماعيل، إذ تعلم العربية من جرهم، وقد أرسل إليهم وخاتمهم محمد صلّى الله عليه وسلم، وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية ٨٤ من سورة الأنعام ج ٢ «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» (١٦٤) وجعلناهم كلهم أنبياء لأنفسهم وجعلنا منهم «رُسُلًا
صفحة رقم 626
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»
فلا يقولون ما جاءنا من رسول يا ربنا يرشدنا. ولولا أرسلت إلينا رسولا يأمرنا وينهانا لأطعناه، وقد تكرر قولهم هذا في القرآن عند كل مناسبة، فكان إرسالهم قطعا لمعذرتهم هذه «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (١٦٥) بإرسال الرسل وإنزال الكتب لقطع حجج الخلق. ولما قال مسكين بن عدي بن زيد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى فكيف تدعي يا محمد إنزال القرآن عليك من قبل الله أنزل الله هذه الآية وأعقبها بقوله «لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل من القرآن، لأنه «أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ» لك على ذلك «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (١٦٦) عن خلقه أجمعين. ونظير هذه الآية الآية ٩٢ من سورة الأنعام المارة في ج ٢ من حيث المعنى ونظير الآية قبلها الآية ٦٥ من سورة المؤمن ونظير الآية قبلها الآية ٢، من سورة الأنعام من حيث تعداد الرسل في ج ٢ أيضا قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» بإلقاء الشبهات للناس حتى منعوهم عن الإيمان «قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً» (١٦٧) عن طريق الهدى إلى غياهب الجهل وزادوا على ضلالهم إضلال غيرهم، ونظير هذه الآية الآية ٨٧. من سورة النحل في ج ٢ «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا» غيرهم بسوقهم إلى الكفر «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ» ولا يهيء لهم بابا إلى المغفرة، لأنّهم عضدوا الكفر بالظلم، ولهذا قال تعالى «وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً» (١٦٨) إلى النجاة «إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ» المؤدي بهم إلى عذابها «خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (١٦٩) سهلا لا صارف لهم عنه، وهذا تحقير لأمرهم، وبيان بأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي، ثم خاطب تعالى العقلاء كافة بصورة عامة تشمل المؤمنين وأهل الكتابين والمنافقين والكافرين أجمع بقوله جل قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ» محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه المعهود الموجه إليه هذا الخطاب والمقصود به هو دون غيره مجيبا متلبسا «بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا» به وانقادوا لأمره وصدقوه بما جاءكم يكون «خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا» به وتجحدوه وتنكروا ما جاءكم به من