
والتغريب للذكر الحر، ولا تغرب المرأة في رأي المالكية لأنها إذا غرّبت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت بسببه وهو الفاحشة، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها، ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل. فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار.
حالة قبول التوبة ووقتها
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
الإعراب:
بِجَهالَةٍ حال. وَلَا الَّذِينَ مجرور بالعطف على قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ وتقديره: وليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا الذين يموتون وهم كفار.
المفردات اللغوية:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي التوبة التي كتب على نفسه قبولها بفضله السُّوءَ العمل القبيح أو المعصية. بِجَهالَةٍ جاهلين إذا عصوا ربهم. والمراد بالجهالة: الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، وذلك يكون عند ثورة الشهوة أو الغضب، وكل من عصى الله فهو جاهل. أَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا.

المناسبة:
أشار الله تعالى في الآية السابقة إلى أن توبة اللذين أتيا الفاحشة توجب ترك العقوبة والتعنيف وإزالة الإيذاء، فناسب أن يبين شروط قبول التوبة ووقتها.
التفسير والبيان:
إنما قبول التوبة والمغفرة متحقق على الله تفضلا وإحسانا للذين يتورّطون في ارتكاب المعصية، ويقعون فيها جاهلين لا يقدرون الآثار والنتائج والمخاطر، ولم يصرّوا على المعصية لأنهم فعلوها بدافع الهوى والشيطان، ثم تابوا قبل الغرغرة ولو بعد معاينة الملك يقبض الروح.
وليس المقصود بالجهالة عدم العلم بالتحريم لأن كل مسلم مطالب بتعلم ما هو حرام شرعا، وإنما المراد تغلب الطيش والسفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب.
قال مجاهد وغيره: كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب. وذكر قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة «١». وقال عبد الرّزاق: أخبر معمر عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. بدليل قوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر ٣٩/ ٥٣] فليس المراد بالجهالة: أن يعمل السوء عالما به.
ويؤكد ذلك ما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السّلام: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يوسف ١٢/ ٣٣]، وقال تعالى لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود ١١/ ٤٦].

والسّبب في تسمية العاصي جاهلا وإن عصى عن علم: أنّ العاصي لربّه لو قدر ما معه من العلم بالثواب والعقاب، لما أقدم على المعصية، إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلا بحقيقة الوعيد.
هذا هو الشرط الأول: إيقاع المعصية عن جهالة، والشرط الثاني: أن يتوب الإنسان بعد الذنب بزمن قريب، والزمن القريب كما قال ابن عباس:
ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضّحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. ومن: للتبعيض، والمعنى: ثم يتوبون بعد وقت قريب. وسمي ما بين وقوع المعصية وبين حدوث الموت زمنا قريب، ففي أي جزء من هذا تاب فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد.
ثم أكّد تعالى مبدأ قبول التوبة بالشرطين المذكورين فقال:
أولئك الذين فعلوا الذنب بجهالة، وتابوا بعد زمن قريب، يتوب الله عليهم لأنهم لم يصرّوا على ما فعلوا.
وكان الله عليما بضعف الإنسان أمام الشهوة والغضب، حكيما في قبول توبة ذلك الضعيف.
وبعد بيان حال من تقبل توبتهم، ذكر تعالى حال أضدادهم الذين لا تقبل توبتهم فقال:
أوّلا- لا توبة للذين يعملون السيئات، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال:
إني تبت الآن، فلا أمل في الإصلاح حينئذ، ولا فائدة من التوبة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر ٤٠/ ٨٥]، وقوله حكاية عن فرعون لما أدركه الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

[يونس ١٠/ ٩٠- ٩١]، وقوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ، كَلَّا! إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون ٢٣/ ٩٩- ١٠٠].
ثانيا- لا توبة أيضا للذين يموتون وهم كفار. وهذا يحتمل وجهين:
الأول- أن المراد بهم الذين قرب موتهم، بمعنى أن الإيمان لا يقبل من الكافر عند حضور الموت.
الثاني- أن يكون المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر لا تقبل توبتهم.
أولئك أي الفريقان السابقان أعتدنا أي هيأنا وأعددنا لهم عذابا مؤلما موجعا، جزاء لما كسبت أيديهم من السيئات، مع إصرارهم عليها حتى الممات.
فقه الحياة أو الأحكام:
اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور ٢٤/ ٣١].
وقوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ قيل: هذه الآية عامّة لكلّ من عمل ذنبا.
وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر. وتصح التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم:
لا يكون تائبا من أقام على ذنب، ولا فرق بين معصية ومعصية. هذا مذهب أهل السنة.
وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها.
وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المعتزلة، لأن من شرط الموجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق

ومالكهم، والمكلّف لهم، فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى الله عن ذلك.
لكن الله سبحانه قد أخبر في قرآنه أنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده- وهو الصادق في وعده- بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشورى ٤٢/ ٢٥] وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة ٩/ ١٠٤] وقوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه ٢٠/ ٨٢] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء.
والخلاصة: العقيدة أنه لا يجب على الله شيء عقلا، فأما النقل السمعي في القرآن فظاهره قبول توبة التائب.
٢- التوبة تشمل كل أنواع السوء والمعاصي من كفر وغيره، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، كما تقدم، وأمور الدنيا كلها جهالة، سواء وقعت عمدا أو جهلا.
٣- التوبة في أثناء زمن قريب قبل المرض والموت، وكل ما كان قبل الموت فهو قريب. قال المالكية: إنما صحت من العبد في هذا الوقت، لأن الرجاء باق، ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل.
روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»
قال: هذا حديث حسن غريب. ومعنى:
«ما لم يغرغر»
: ما لم تبلغ روحه حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به.
٤- نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين صنفان: الأول- من حضره الموت وصار في حين اليأس، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف.