
[الجزء السادس]
[تتمة سورة النساء]الجهر بالسوء والعفو عنه وإبداء الخير وإخفاؤه
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)
الإعراب:
بِالسُّوءِ في موضع نصب: لأنه يتعلق بالجهر، وإعمال المصدر الذي فيه الألف واللام قليل، وليس في التنزيل إعماله إلا في هذا الموضع، ولم يعمل في اللفظ وإنما عمل في الموضع.
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: من: في موضع نصب، لأن الاستثناء منقطع.
البلاغة:
تُبْدُوا.. أَوْ تُخْفُوهُ طباق.
المفردات اللغوية:
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي لا يحب من أحد ذلك بمعنى أنه يعاقبه عليه، والجهر: الإعلان إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي فلا يؤاخذه بالجهر به، بأن يخبر عن ظلم ظالمة، ويدعو عليه. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لما يقال عَلِيماً بما يفعل.
سبب النزول:
أخرج هناد بن السري عن مجاهد قال: أنزلت لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ في رجل أضاف رجلا بالمدينة، فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه، أي نزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو. وهذا مروي أيضا عن ابن جريج. صفحة رقم 5

المناسبة:
الآيتان متصلتان بما قبلهما في الكلام عن المنافقين وكفار أهل الكتاب، فبعد أن حذر الله المؤمنين من عيوبهم وأعمالهم وصفاتهم وأوضح أنهم في الدرك الأسفل من النار، أبان حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه، حتى لا يفهم المؤمنين مشروعية الجهر بالسوء من القول على الإطلاق، وفي ذلك إشاعة الفواحش والعيوب، وإضرار الأمة، وإنما المشروعية مقيدة في حال الظلم، كما أن الإسرار بالخير والجهر به سواء.
التفسير والبيان:
يعاقب الله تعالى المجاهر بسوء القول، أي بذكر عيوب الناس وتعداد سيئاتهم، لأنه يؤدي إلى إثارة العداوة، والكراهة والبغضاء، ويزرع الأحقاد في النفوس، ويسيء أيضا إلى السامعين، فيجرئهم على اقتراف المنكر، وتقليد المسيء، ويوقعهم في الإثم، لأن سماع السوء كعمل السوء.
وكذلك الإسرار بسوء القول محرّم ومعاقب عليه، إلا أن الآية نصت على حالة الجهر، لأن ضرره أشد، وفساده أعم وأخطر، لذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور ٢٤/ ١٩].
ثم استثنى الله تعالى حالة يجوز فيها إعلان السوء من القول: وهي حالة الشكوى من ظلم الظالم لحاكم أو قاض أو غيره ممن يرجى منه رفع ظلامته وإغاثته ومساعدته في إزالة الظلم. والشكوى على الظالم أمر مطلوب شرعا، إذ لا يحب الله لعباده أن يسكتوا على الظلم، أو أن يخضعوا للضيم أو أن يقبلوا المهانة ويسكتوا على الذل،
روى الإمام أحمد: «إن لصاحب الحق مقالا».
وهذا من قبيل ارتكاب أخف الضررين ودفع أعظم الشرين.

وكل من حالتي جواز الجهر بالسوء من القول وعدم الجواز في ظل رقابة دقيقة من الله تعالى، فهو سميع لكل ما يقال، مطلع على البواعث والنيات المؤدية للأقوال، عليم بكل ما يصدر عن الخلق من أفعال وتصرفات، فيثيب المحق، ويعاقب المبطل، ويعين على دفع الظلم، ويجازي كل ظالم على ظلمه.
وإبداء الخير من قول أو فعل، أو إخفاؤه، أو العفو عمن أساء يجازي الله تعالى عليه خيرا، بل يرغب فيه، فالله تعالى يحبّ فعل الخير، ويعفو عن السّيئات، وهو مع ذلك قادر تمام القدرة على معاقبة المسيء، والتّخلّق بأخلاق الله تعالى أمر حسن مرغّب فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يأتي:
١- الجهر بالسوء من القول بإشاعة عيوب الناس أمر منكر يعاقب الله تعالى عليه.
٢- يباح للمظلوم اللجوء إلى القضاء والشكوى لرفع الظلم ووصف فعل الظالم، كما أنه يجوز الدّعاء على الظالم، ودعوة المظلوم مستجابة،
روى الحاكم عن ابن عمر: «اتّقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة»
وروى الطبراني والضياء عن خزيمة بن ثابت: «اتّقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين».
وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له.
وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعنّي عليه، واستخرج حقّي منه. والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمة، ولكن

مع اقتصاد إن كان مؤمنا، كما قال الحسن في رواية أخرى عنه. لكن لا يجوز مقابلة الشتم أو القذف بمثله، وإنما يلجأ إلى القضاء.
٣- استدلّ من أوجب الضيافة بهذه الآية، قالوا: لأن الظلم ممنوع منه، فدلّ على وجوبها. وهو قول الليث بن سعد.
وذهب الجمهور إلى أن الضيافة من مكارم الأخلاق.
٤- الاعتدال في طلب الحقّ أمر مطلوب شرعا، لأن قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحدّ في الانتصار.
٥- التعاون في إزالة الظلم من أصول الإسلام، قال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه الطبراني عن النعمان بن بشير، وهو ضعيف: «خذوا على أيدي سفهائكم»
وقال فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا: هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تجزه عن الظلم فإن ذلك نصره».
٦- إبداء الخير حسن لمن عمر قلبه بالإيمان والإخلاص، أو قصد ترغيب الناس وحضّهم على فعل الخير. وإخفاء الخير أفضل إن خيف شيء من الرياء المحبط للأجر والثواب. وهذا بيان وجه الأفضلية، أما الأصل الذي نصّت عليه الآية لإحراز الثواب على فعل الخير غير المصحوب بالرياء: فهو أن إبداء الخير وإخفاءه سواء.
٧- العفو عن المسيء مندوب إليه ومرغّب فيه، لأن العفو من صفة الله تعالى، مع القدرة على الانتقام.
روى ابن المبارك عن الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي ربّ العالمين يوم القيامة نودي: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدّنيا، يصدق هذا الحديث قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
[الشورى ٤٢/ ٤٠]
وروى أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أن