آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا
ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ

الرسل، بمعنى الكتب وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أي: خرج عن الهدى وبعد عن القصد كل البعد. ما الكفر بالله فظاهر.
وأما بالملائكة فلأنهم المقربون إليه. وأما بالكتب فلأنها الهادية إليه. وأما بالرسل فلأنهم الداعون إليه. وأما باليوم الآخر فلأن فيه نفع إقامته وضرر تركه. فإذا أنكر لزم إنكار النفع الحقيقيّ والضرر الحقيقيّ فهو الضلال البعيد. ثم الكفر بالملائكة كفر بمظاهر باطنة. وبالكتب كفر بمظاهر صفة كلامه. وبالرسل كفر بأتم مظاهره. وباليوم الآخر كفر بدوام ربوبيته وعدله. ثم الكفر بالملائكة يدعو إلى الإيمان بالشياطين.
وبكتب الله إلى الإيمان بكتب الكفرة. وبالرسل إلى تقليد الآباء، وباليوم الآخر إلى الاجتراء على القبائح. وكل ذلك ضلال بعيد. أفاده المهايميّ. ولما أمر تعالى بالإيمان ورغب فيه، بيّن فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا في الآية وجوه: الأول- أن المراد الذين تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله. لأن قول أولئك، الذين هذا ديدنهم، قلوب قد ضريت بالكفر ومرنت على الردّة. وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى. وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة، ونصحت توبتهم، لم يقبل منهم ولم يغفر لهم. لأن ذلك مقبول. حيث هو بذل للطاقة واستفراغ الوسع. ولكنه استبعاد له واستغراب. وإنه أمر لا يكاد يكون. وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع، ثم يتوب ثم يرجع، فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات. والغالب أنه يموت على الفسق. فكذا هنا. الثاني- قال بعضهم: هم اليهود. آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا حين عبدوا العجل. ثم آمنوا بعد عوده إليهم ثم كفروا بعيسى والإنجيل. ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد أورد على هذا الوجه أن الذين ازدادوا كفرا بمحمد ﷺ ليسوا مؤمنين بموسى. ثم كافرين بالعجل، ثم مؤمنين بالعود، ثم كافرين بعيسى. بل هم إما مؤمنون بموسى وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى والإنجيل. والجواب: أن هذا إنما يرد لو أريد قوم بأعيانهم:

صفحة رقم 370

الموجودين وقت البعثة. أما لو أريد جنس ونوع، باعتبار عدّ ما صدر من بعضهم كأنّه صدر من كلهم، فلا إيراد. والمقصود حينئذ استبعاد إيمانهم لما استقر منهم ومن أسلافهم. الثالث- قال آخرون: المراد المنافقون. فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام.
وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم. وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم. والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا إنا مؤمنون. والكفر الثاني هو أنهم إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: ١٤]. وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين.
وإظهار الإيمان قد يسمى إيمانا. قال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] : قال القفال رحمه الله: وليس المراد بيان هذا العدد. بل المراد ترددهم. كما قال: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ. قال: والذي يدل عليه، قوله تعالى بعد هذه الآية: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ. الرابع- قال قوم: المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى. على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: ٧٢]، وقوله ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام.
نقل هذه الوجوه الزمخشريّ والرازيّ وغيرهما. وكلها مما يشمله لفظ الآية.
تنبيه:
في الآية مسائل:
الأولى- قال في (الإكليل) : استدل بها من قال: تقبل توبة المرتد ثلاثا. ولا تقبل في الرابعة.
وقال بعض الزيدية (تفسيره) : دلت على أن توبة المرتد تقبل. لأنه تعالى أثبت إيمانا بعد كفر، تقدمه إيمان.
وأقول: دلالتها على ذلك في صورة عدم تكرار الردة. وأما معه، فلا. كما لا يخفى.
ثم قال: وعن إسحاق: إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته، وهي رواية الشعبيّ عن عليّ عليه السلام. انتهى.
وذهبت الحنابلة إلى أن من تكررت ردته لم تقبل توبته. كما أسلفنا ذلك في آل عمران في قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً... [آل عمران: ٨٦]، الآية.

صفحة رقم 371
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية