آيات من القرآن الكريم

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا
ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ

(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي لله وحده ما في السماوات والأرض من مطر ينزل، وأرض تنتج، وشمس تمد الكون بالدفء والحرارة والضوء، وقمر منير، ونجوم تزين السماء الدنيا، وهو سبحانه وتعالى يملك ذلك كله ملك اختصاص وسلطان وقدرة وإنشاء، فهو الذي أبدعه على غير مثال سبق، وهو رب الدين في السماء والأرض، وهو الذي يوزع الأرزق بمقتضى حكمته، وهو القاهر فوق عباده، يقيم العدل ويغني كلًّا من سعته بما يشاء، وأنه لم يترك

صفحة رقم 1887

الناس هملا، بل أنزل عليهم الكتب السماوية تدعو إلى التفكير في ملكه، وخلقه، وتتجه إلى عبادته سبحانه وتعالى وحده وتقواه وحده، ولذا قال: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) الخطاب في هذا النص لأمة محمد)، والكتاب المراد به جنس الكتاب، لَا واحده، أي الذين أوتوا علم النبوة من قبلكم برسل أرسلوا إليهم، وكتب سجلت أوامر الله تعالى ونواهيه، وخطاب من الوحي الإلهي نزل إليهم، وقد دعاهم سبحانه وتعالى كما دعاكم إلى أن تتقوا الله تعالى في كل أعمالكم، بحيث تتربى مهابته في قلوبكم، فتذكرونه في كل تصرفاتكم، فإن وسوست نفوسكم بظلم ذكرتموه فامتنعتم، وإن همت بفساد ذكرتموه فاعتصمتم، وإن أصابكم جزع ذكرتموه فاطمأننتم، وإن أصابكم فاقة ذكرتموه فصبرتم، وإن أصابتكم بَأْساء ذكرتموه فارتضيتم، وإن أصابتكم نعماء ذكرتموه فشكرتم، فالأمر بالتقوى أمر جامع لكل معاني الإيمان والتوحيد.
ولذا أكد سبحانه الأمر بالتقوى بأربعة مؤكدات.
أولها - التأكيد باللام وقد، فـ (قد) وحدها مؤكدة، واللام تتضمن معنى القسم فهي مؤكد آخر، وهذا ما تضمنه قوله تعالى " ولقد " في صدر الكلام. ثانيها - التعبير بقوله - جل جلاله - " وَصَّيْنَا ". فإن التوصية تكون طلبا مشددا لَا يقتصر على زمان الأمر، بل يتعاقب الطلب بتعاقب الأزمان والدهور، ولا يقتصر على زمان دون زمان، وهذا يفيد أن الأمر بالتقوى قانون محكم، لا يعتريه فسخ ولا تغيير مهما تختلف العصور؛ لأنه لب الأديان.
ثالثها - ذكر كتب النبيين السابقين مع خطاب أمة خاتم النبيين محمد - ﷺ -، فإن ذلك الذكر يفيد أن التقوى شريعة السماء.
رابعها - التعبير بـ " أن " في قوله تعالى جلت قدرته (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) فإنها هي " أنْ " المفسرة، أي أنه سبحانه وتعالى يفسر وصيته الخالدة الباقية بأنها شيء واحد، وهو الأمر بالتقوى، ومن المقرر في علم البيان العربي أن الإبهام ثم البيان

صفحة رقم 1888

يؤكد المعنى في النفس أفضل تأكيد، وقد قال الزمخشري إن لفظ " أن " يحتمل أن تكون أن فيه مصدرية، والمعنى: وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى. والتعبير بالمصدر المؤول المنسبك من " أن " وما يليها فيه تؤكيد لمعنى المصدرية؛ إذ فيه تصوير واضح للفعل والقيام به، وإن قوله تعالى و (إِيَّاكُمْ) هو من قبيل عطف الضمير على الاسم الظاهر، فيكون في موضع النصب، ولذلك انفصل الضمير.
وقد أكد سبحانه وتعالى وصيته الخالدة ببيان نتيجة مخالفتها، وأنها لمنفعة العبادة، فقال سبحانه:
(وَإِن تَكْفُرُوا فَإنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) وإن الأمر بالتقوى فيه خيركم، إذ فيه سلامة اعتقادكم، واطمئنان قلوبكم؛ وصلاح جموعكم، ومنع الفساد في الأرض، وإن جحدتم أوامر الله تعالى، ولم تعبدوه وحده، وتخشوه حق الخشية، فستفسد أموركم أنتم، ولن يضر الله منكم شيء؛ لأنه مالككم، ومالك كل ما في السماوات والأرض، وهو بهذا الملك الظاهر والسلطان القاهر، يستغني عن تقواكم، وهو المستحق للحمد الدازم، والمحمود في ذاته وشرائعه وأوامره ونواهيه وفي إنشائه وإبداعه، فلا يضيره كفر الكافر، ولا ينقص من سلطانه فجور الفاجر؛ لأن الجميع في قبضة يده وتحت سلطانه.
ولقد قال ابن جرير الطبري في معنى هذه الآية الكريمة: " وإن تجحدوا وصيته إياكم فتخالفوها فإن لله ما في السماوات وما في الأرض. يقول فإنكم لا تضرون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تعدون في كفركم هذا أن تكونوا أمثال اليهود والنصارى في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما حل بهم، إذ بدلوا عهده، ونقضوا ميثاقه، فغير بهم ما كانوا فيه من خفض العيش، وأمن السِّرب، وجعل منهم القردة والخنازير، وذلك أن له ملك جميع ما حوته السماوات والأرض، لَا يمتنع عليه شيء أراد تجميعه.. من إعزاز من أراد إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله ".

صفحة رقم 1889

ويُرى من هذا التخريج أنه يرى أن الخطاب باحتمال الكفر موجه إلى الأمة المحمدية، ويكون قوله تعالى: (وَإِن تَكْفُروا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) كلام مستأنف يبين نتائج مخالفة الأمر بالتقوى المؤكد، والذي جاءت به شرائع السماء كلها، وهذا هو الظاهر.
وقد قرر بعض العلماء أنه يجوز أن يكون في ضمن الوصية المؤكدة، ويكون المعنى: ووصينا أولي الكتاب وإياكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض. وإننا نرى أن الأول أظهر، وقد سار عليه ابن جرير، ووضح المعنى على أساسه... وقد أكد سبحانه عظيم سلطانه، وحاجتهم إليه وغناه - جل ثناؤه - عنهم، فقال تعالت كلماته:
* * *

صفحة رقم 1890
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية