آيات من القرآن الكريم

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ

يقول تعالى مخاطباً لرسوله محمد ﷺ :﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ أي هو حق من الله وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه، وقوله :﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله ﴾ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ﷺ له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال :« ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها » وقال الإمام أحمد عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله ﷺ في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينه، فقال رسول الله ﷺ :« » إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاماً في عنقه يوم القيامة « فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله ﷺ :» أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه « ».
وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس : أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله ﷺ في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله ﷺ فقال : إن ( طعمة بن أبيرق ) سرق درعي. فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل برىء، وقال لنفر من عشيرته : إني غيَّبتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده، فانطلقوا إلى نبي الله ﷺ ليلاً فقالوا : يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علماً فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله ﷺ فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله :﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ﴾، ثم قال تعالى للذين أتوا رسول الله ﷺ مستخفين بالكذب :﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله ﴾ يعني الذين أتوا رسول الله ﷺ مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال عزَّ وجلَّ :

صفحة رقم 548

﴿ وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾ [ النساء : ١١٠ ] الآية يعني الذين أتوا رسول الله ﷺ مستخفين بالكذب، ثم قال :﴿ وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ [ النساء : ١١٢ ] يعني السارق والذين جادلوا عن السارق.
وقد روى هذه القصة الترمذي وابن جرير عن ( قتادة بن النعمان ) رضي الله عنه قال : كان أهل بيت منا يقال لهم ( بنوا أبيرق ) بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ﷺ، ثم ينحله لبعض العرب، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله ﷺ ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث - أو كما قال الرجل - وقالوا : ابن الأبيرق قالها، قالوا : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي ( رفاعة بن زيد ) حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف، فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي ( رفاعة ) فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنان فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال : وكان بنوا أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - والله ما نرى صاحبكم إلا ( لبيد بن سهل ) رجلاً منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه، وقال : أنا أسرق؟! والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينُنَّ هذه السرقة، قالو : إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له. قال قتادة : فأتيت رسول الله ﷺ فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي ﷺ :« سآمر في ذلك »، فلما سمع بذلك ( بنو أبيرق ) أتو رجلاً منها يقال له ( أسيد بن عروة ) فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار، فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينه ولا ثيب، قال قتادة : فأتيت النبي ﷺ فكلمته فقال :

صفحة رقم 549

« عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة »، قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله ﷺ في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله ﷺ، فقال : الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن :﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ﴾ يعني بني أبيرق ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة ﴿ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ] أي لو استغفروا الله لغفر لهم ﴿ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ ﴾ [ النساء : ١١١ ] إلى قوله :﴿ وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ [ النساء : ١١٢ ] قوله للبيد :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ﴾ [ النساء : ١١٣ ] إلى قوله :﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ١١٤ ].
فلما نزل القرآن أتى رسول الله ﷺ بالسلاح فرده إلى رفاعة، فقال قتادة : لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عمي أو عشي في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هي في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على ( سلافة بنت سعد بن سمية ) فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ [ النساء : ١١٥-١١٦ ] فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها ( حسان بن ثابت ) بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم قالت : أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير.
وقوله تعالى :﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله ﴾ الآية، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها مع أنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ولهذا قال :﴿ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ﴾ تهديد لهم ووعيد، ثم قال تعالى : و ﴿ هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا ﴾ الآية، أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك، فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم؟ أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلاً، ولهذا قال :﴿ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾ ؟.

صفحة رقم 550
تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد نسيب بن عبد الرزاق بن محيي الدين الرفاعي الحلبي
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية