آيات من القرآن الكريم

۞ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ

وقيل: إن معنى درجة: علوّ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ، فهذا معنى درجة أي في الدنيا، ودرجات يعني في الجنة، والدرجات: منازل بعضها أعلى من بعض.
هجرة المستضعفين
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٧ الى ١٠٠]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)
الإعراب:
ظالِمِي حال منصوب من الهاء والميم في تَوَفَّاهُمُ وأصله: ظالمين أنفسهم، فحذفت النون للإضافة.
فِيمَ كُنْتُمْ فيم: جار ومجرور في موضع نصب خبر كنتم. و «ما» هنا: استفهامية، ولهذا حذفت الألف منها لدخول حرف الجر عليها لأن «ما» إذا دخل عليها حرف الجر حذفت ألفها تخفيفا لكثرة الاستعمال، وليفرق بينها وبين «ما» التي بمعنى الذي، ليميز بين الخبر

صفحة رقم 225

والاستفهام. ولم يحذفوا الألف من «ما» في الخبر إلا في موضع واحد وهو: ادع بم شئت، أي بالذي شئت.
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مستثنى منصوب من قوله تعالى: الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ وهو استثناء من موجب، فلهذا وجب فيه النصب.
البلاغة:
قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ وأَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً: استفهام يراد به التوبيخ والتقريع.
ويوجد جناس مغاير في يَعْفُوَ... عَفُوًّا وفي يُهاجِرْ... مُهاجِراً.
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ فيه إطلاق الجمع على الواحد لأن المراد به ملك الموت، وذلك بقصد تفخيم شأنه.
المفردات اللغوية:
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي قبضت أرواحهم حين الموت ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالمقام مع الكفار وترك الهجرة قالُوا لهم موبخين: فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم؟
مُسْتَضْعَفِينَ عاجزين عن إقامة الدين مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مسكنهم حِيلَةً لا قوة لهم على الهجرة ولا نفقة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا طريقا إلى أرض الهجرة مُراغَماً مهاجرا أي مكانا للهجرة ومأوى يجد فيه الخير، فيرغم بذلك أنوف من أذلوه وَقَعَ ثبت ووجب.
سبب النزول:
نزول الآية (٩٧) :
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ: روى البخاري عن ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيأتي السهم يرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل المدينة

صفحة رقم 226

قد أسلموا، وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين، فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية، فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم، وأنه لا عذر لهم، فخرجوا، فلحق بهم المشركون، ففتنوهم فرجعوا فنزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ
[العنكبوت ٢٩/ ١٠] فكتب إليهم المسلمون بذلك، فتحزنوا، فنزلت: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا [النحل ١٦/ ١١٠] الآية، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا، فلحقوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.
سبب نزول الآية (١٠٠) :
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ: أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لأهله: احملوني، فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل الوحي: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً الآية.
ويقال: كان جندب بن ضمرة من بني ليث من المستضعفين بمكة، وكان مريضا، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة، قال: أخرجوني، فهيئ له فراش، ثم وضع عليه، وخرج به، فمات في الطريق بالتنعيم «١»، فأنزل الله فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً الآية «٢».
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية السابقة تفضيل المجاهدين في سبيل الله على

(١) التنعيم: موضع قرب مكة في الحل، يعرف بمسجد عائشة، منه يحرم المعتمر بالعمرة.
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ٣٤٩

صفحة رقم 227

القاعدين من غير عذر، ذكر هنا حال قوم لم يهاجروا في سبيل الله، لاستضعاف الكفار لهم، مع أنهم ليسوا ضعفاء في الحق والواقع، فلا عذر لهم في ترك واجب الهجرة من مكة إلى المدينة حينما كان واجبا في صدر الإسلام، بسبب شدة أذى الكفار للمسلمين، وإلجائهم إلى الهجرة إلى الحبشة، ثم الهجرة إلى المدينة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهاجر بعض المسلمين، وقعد بعضهم في مكة حبا لوطنه، وكان بعضهم مستضعفا عجز عن الهجرة لمرض أو كبر أو جهل بالطريق، وبعضهم هاجر ومات في الطريق.
التفسير والبيان:
إن الذين تتوفاهم الملائكة حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بترك الهجرة، ورضاهم الإقامة في دار الشرك، تقول لهم (أي للمتوفين) الملائكة توبيخا لهم وتقريعا: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ أي إنهم لم يكونوا في شيء منه، لقدرتهم على الهجرة ولم يهاجروا.
وهؤلاء كانوا ناسا من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة.
فقالوا معتذرين عما وبخوا به بغير العذر الحقيقي: كنا مستضعفين ومستذلين في مكة، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته، وهذه حجة واهية لم تقبلها الملائكة، فردوا عليهم المعذرة قائلين:
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ المراد أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة.
وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة شعائر

صفحة رقم 228

دينه، أو علم أنه في غير بلده يكون أقوم بحق الله وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة. فإن كان يستطيع إقامة شعائر دينه كالمقيمين في عصرنا في أوربا وأمريكا، فلا تجب الهجرة عليهم، وإنما تسن، ويكره مقامهم في دار الكفر.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام. اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير، ودرك المرجوّ من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك، يا واسع المغفرة» «١».
فإن أولئك المقصرين عن القيام بالهجرة مسكنهم جهنم، لتركهم ما كان مفروضا عليهم لأن الهجرة كانت واجبة في صدر الإسلام.
وقبحت جهنم مصيرا لهم لأن كل ما فيها يسوءهم.
ثم استثنى الله تعالى من أهل الوعيد: المستضعفين حقيقة الذين لا يجدون لديهم قدرة على الخروج لفقرهم أو عجزهم أو هرمهم مثل عياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام «٢»، ومن النساء أم الفضل والدة ابن عباس، ومن الولدان (وهم المراهقون الذين قاربوا البلوغ) ابن عباس المذكور وغيره.
فهؤلاء لا يجدون قدرة على الهجرة إما للعجز كمرض أو زمانة، وإما للفقر، ولا يهتدون طريقا للجهل بمسالك الأرض، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من

(١) الكشاف: ١/ ٤١٩
(٢)
ذكر ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة، فقال: «اللهم خلص الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، من أيدي الكفار».

صفحة رقم 229

المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا. والحقيقة أن الولدان لا يكونون إلا عاجزين عن الهجرة.
فهؤلاء يرجى أن يعفو الله عنهم، ولا يؤاخذهم بترك الهجرة والإقامة في دار الشرك. وفي هذا إيماء إلى أن ترك الهجرة ذنب كبير.
وكان شأن الله تعالى العفو عن الذنوب، والمغفرة بستر العيوب في الآخرة.
وتساءل الزمخشري: لم قيل: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بكلمة الإطماع؟ ثم أجاب قائلا: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البيّن الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ «١».
ثم رغب الله تعالى في الهجرة تنشيطا للمستضعفين فذكر: أن من يهاجر في سبيل الله، أي بقصد مرضاته وإقامة دينه كما يجب، يجد في أرض الله الواسعة مراغما كثيرا أي مهاجرا (مكانا للهجرة) وطريقا يراغم بسلوكه قومه، أي يفارقهم على رغم أنوفهم، والرغم: الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام وهو التراب. ويجد مأوى فيه الخير والسعة، عدا النجاة من الذل والاضطهاد.
فالمراغم الكثير: يعني المتزحزح عما يكره. والسعة: الرزق.
وفي هذا وعد من الله للمهاجرين بتسهيل سبل العيش لهم وإرغام أعدائهم والنصر عليهم، وهو كله للترغيب في الهجرة.
ثم وعد الله تعالى من يخرج من منزله بنية الهجرة تاركا الوطن والأهل والمال، ثم يموت في أثناء الطريق قبل الوصول إلى المدينة، وعده بالأجر العظيم والثواب عند الله على الهجرة أي وجب ثوابه عليه ووقع، وعلم الله كيف يثيبه.

(١) الكشاف: ١/ ٤٢٠

صفحة رقم 230

وكان شأن الله الغفران دائما لهؤلاء المهاجرين، وإسباغ الرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه وفضله. ويؤكد هذا المعنى
الحديث المشهور في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وما أعظم الفرق بين هذا الوعد الصريح الأكيد من الله، وبين الوعد بالمغفرة لتاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنه محل رجاء وطمع عند الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
المراد بهذه الآية في الأصح كما ذكر القرطبي: جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلّى الله عليه وسلّم الإيمان به، فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر، خرج منهم قوم مع الكفار، فنزلت الآية.
وبخ الله تعالى هؤلاء المتقاعسين عن الهجرة، وأرشدهم إلى أنهم كانوا متمكنين قادرين على الهجرة والابتعاد عمن كان يستضعفهم، وأنه لم يقبل عذرهم بكونهم مستضعفين حقيقة.
وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي.
أما المستضعفون حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام الذين دعا لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالنجاة، فهؤلاء يرجى لهم من الله العفو والمغفرة.

صفحة رقم 231

ومن مات في أثناء الطريق إلى المدينة، فأجره حق ثابت عند الله، لصدق عزيمته، وإخلاص نيته.
وكانت أسباب الهجرة إلى المدينة في صدر الإسلام كثيرة منها:
١- التمكين من إقامة شعائر الدين والبعد عن الاضطهاد الديني، فعلى كل مضطهد البحث عن مكان يأمن فيه، وإلا ارتكب إثما كبيرا.
٢- التمكن من تعلم أمور الدين والتفقه في أحكامه، فعلى كل مسلم يقيم في بلد ليس فيه علماء يعلّمون أحكام الدين أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه العلوم الدينية.
٣- الإعداد لإقامة دولة الإسلام ونشر الدعوة الإسلامية في أنحاء الأرض، والدفاع عنها وعن الدعاة إلى الله.
وظلت هذه الأسباب واضحة قائمة إلى فتح مكة، حتى إذا فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الصحابة في البلاد يعلمون الناس أحكام دينهم، وقويت شوكة الإسلام، وتطهرت الجزيرة العربية من رجس الشرك والوثنية، زال حكم وجوب الهجرة،
روى أحمد والشيخان عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».
ويلاحظ أنه إذا وجدت الدواعي للهجرة وتوافر أحد الأسباب المتقدمة، وجبت الهجرة في أي عصر وزمان.
ويحسن أن أذكر أقسام الهجرة كما أوضحها ابن العربي فقال: الهجرة تنقسم إلى ستة أقسام:
الأول- الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضا في أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم مع غيرها من أنواعها. وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، التي

صفحة رقم 232

انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان، فإن بقي في دار الحرب عصى، ويختلف في حاله كما تقدم بيانه.
الثاني- الخروج من أرض البدعة: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول:
لا يحلّ لأحد أن يقيم ببلد يسبّ فيها السلف. قال ابن العربي: وهذا صحيح فإن المنكر إذا لم تقدر على تغييره فزل عنه، قال الله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام ٦/ ٦٨].
الثالث- الخروج عن أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
الرابع- الفرار من الإذاية في البدن: وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه، والفرار بنفسه ليخلّصها عن ذلك المحذور.
الخامس- خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النّزهة.
وقد أذن النبي صلّى الله عليه وسلّم للرّعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح، فيكونوا فيه حتى يصحّوا. وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون، فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بيد أني رأيت علماءنا قالوا: هو مكروه.
السادس- الفرار خوف الإذاية في المال فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله أو آكد «١».

(١) أحكام القرآن: ١/ ٤٨٤- ٤٨٦، وانظر تفسير القرطبي: ٥/ ٣٤٩ وما بعدها.

صفحة رقم 233
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية