آيات من القرآن الكريم

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ

وإحدى الشفتين، وكذلك كل شيء منه في تلك النطفة من العينين واليدين والرجلين والبصر وكل الجوارح ما لو اجتمع الحكماء جميعًا حكماء البشر لم يعرفوا كون شيء من الجوارح والنفس وتقديرها من تلك النطفة وتصويرها منها؛ ليعلم أنه قادر على خلق الأشياء من شيء ومن لا شيء وبسبب وبغير سبب وما جعل من الأسباب لبعض الأشياء لم يجعلها استعانة منه بها على إنشاء ذلك، وأن من قدر على تقدير ما ذكر وتصويره في الظلمات التي ذكر على السبيل التي ذكر، فإنه لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء، يحتج عليهم لإنكارهم البعث وإنكارهم بعث الرسل والحجج، يخبر أن من فعل ما ذكر من تغييرهم من حال إلى حال وتحويلهم من صورة إلى صورة أخرى أنه لا يفعل ذلك ليتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يمتحنهم، ثم إذا امتحنهم لا يحتمل ألا يبعثهم؛ ليجزي المسيء منهم والعاصي جزاء الإساءة والعصيان والمحسن منهم والمطيع جزاء الإحسان والطاعة؛ لأنه قد سوى بينهم في هذه الدار وفي الحكمة، والعقل يقتضي التفريق بينهما فلابد من دار أخرى يفرق بينهما فيها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ).
يحتمل (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) أي: ذلكم اللَّه الذي ذكر من تقديركم وتصويركم في ظلمات تلك النطفة هو ربكم الذي فعل ذلك.
أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي: جميع ما ذكر من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ)، وما ذكر من تسخير الشمس والقمر وجريانهما على سنن واحد وعلى قدر واحد، وما ذكر من خلقنا جميعا من تلك النفس أن واحدة إلى آخر ما ذكر، يقول: ذلكم اللَّه الذي فعل ذلك كله هو ربكم (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي: فأنى تصرفون عبادتكم إلى غيره، أو فأنى تصرفون ألوهيته وربوبيته إلى غيره وتجعلون له شركاء وأعدالا، وقد تعلمون أن الذي فعل ذلك كله هو اللَّه الواحد الذي لا شريك له ولا مثل.
أو يذكر أن ما ذكر من النعم التي أعطاكم وأسدى إليكم هو ربكم الذي خلقكم، فكيف تصرفون شكرها إلى غيره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧)
روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي: تكفرون دين اللَّه الإسلام ولم تسلموا فإنه لا يقبل منكم، (وَإِنْ تَشْكُرُوا) أي: وإن تسلموا

صفحة رقم 661

(يَرْضَهُ لَكُمْ) أي: يقبل منكم؛ كقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ).
وقال غيره: أي: إن تكفروا دينه فإن اللَّه غني عن عبادتكم، (وَإِنْ تَشْكُرُوا)، أي: توحدوه (يَرْضَهُ لَكُمْ) من الأول.
وجائز أن يكون قوله: (إِنْ تَكْفُرُوا) النعم التي عدها عليكم فيما تقدم ذكرها من قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ)، وقوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ...) إلى آخر ما ذكر من النعم يقول: إن تكفروا هذه النعم التي عدها عليكم فإنه غني عنكم، وإن تشكروا ما عد عليكم من النعم يقبل ذلك منكم، واللَّه أعلم.
وأصله أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بين سبيل الهدى ورغبهم إليه، وبين سبيل الضلال وحذرهم عنه، ثم بين أن من سلك سبيل الهدى فله كذا ومن سلك سبيل الضلال فله كذا، وأفضى إلى كذا.
أو أن يقول: إن من سلك سبيل الهدى يرضى لنفسه عاقبة السبيل الذي سلك فيه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ. لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ)، ومن سلك سبيل الضلال والكفر يمقت ذلك السبيل في العاقبة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، أخبر أنهم يمقتون أنفسهم إذا نودوا وعرفوا أنهم أخطأوا الطريق، وباللَّه العصمة.
وذكر في حرف عبد اللَّه بن مسعود: (واللَّه يكره لعباده الكفر)، وقوله: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)، وكذلك ذكر هذا في حرف أبي وحفصة خاصة.
وأصل قوله: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ) إخبار أنه لم يأمركم بما أمركم به ولا نهاكم عما نهاكم عنه لحاجة نفسه أو لمنفعة له في ذلك، ولكن إنما امتحنكم بما امتحنكم لحاجة أنفسكم ولمنفعتكم ولدفع الضرر عنكم؛ وكذلك ما أنشأ من الأشياء لم ينشئها لحاجة نفسه ولا لمنفعة له، ولكن إنما أنشأها لكم ولمنافعكم.
وكذلك نقول: لم ينشئها لأنفسها حتى إذا أتلف شيئًا منها عوضها بدلها على ما تقول المعتزلة أن ليس لله أن يتلفها إلا أن يعوضها عوضًا بإزاء ذلك، ولكن إنما أنشأها لكم لليسر ولهم يعزر من أتلف شيئًا منها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
ذكر هذا - واللَّه أعلم - جوابًا لقولهم حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ...) الآية، أخبر أن لا أحد يحمل وزر آخر، ولكن يحمل وزر نفسه.

صفحة رقم 662
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية