
والرسالة المحمدية وغدوا موضعا لعناية الله تعالى وأهلا لرضائه وحملوا مشعل الهداية الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها. واستحقوا وصف الله عز وجل:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة/ ١٠٠].
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥ الى ٧]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
. (١) يكوّر: بمعنى يلفّ بعضه على بعض أو يدخل بعضه على بعض.
(٢) أنزل لكم: هنا بمعنى أوجد لكم أو سخر لكم.
(٣) ثمانية أزواج: ذكر وأنثى من كل من الضأن والماعز والإبل والبقر وقد عبر عن ذلك بنفس التعبير في آيات سورة الأنعام [١٤٣- ١٤٤].
(٤) أنى تصرفون: أين تذهب أفكاركم وتنصرف عقولكم.
جاءت هذه الآيات معقبة على ما سبقها وبسبيل توكيد استحقاق الله وحده للخضوع والعبادة، وقد استعمل فيها ضمير المخاطب الجمع كأنما هي موجهة للسامعين وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
وهي قوية رائعة في أسلوبها ولفتها النظر إلى مشاهد عظمة الله ونواميس

ملكوته وخلق الناس والأنعام وأفضاله على خلقه، بسبيل البرهنة على استحقاقه وحده للعبادة وضلال الذين يشركون غيره معه فيها.
تعليق على جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وما بعدها
وقد قرر جمهور المفسرين «١» أن جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها تعني الإشارة إلى أصل خلق بني آدم حيث خلق الله آدم من تراب ثم نفخ فيه من روحه ثم خلق زوجته حواء من ضلع من أضلاعه. وهذا ما ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين.
وقد يكون القصد من الجملة الإشارة العامة إلى النوع الإنساني الذي خلقه من زوجين من جنس واحد فكأنما هما نفس واحدة، وقد يكون ضمير الجمع المخاطب من القرائن على هذا القصد في هذا المقام.
وقد قرر جمهور المفسرين كذلك «٢» أن جملة خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ تعني الصور التي تتطور بها الأجنة في بطون الأمهات وأن جملة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ تعني ظلمة صلب الرجل حيث تكون النطفة أولا ثم ظلمة رحم المرأة حيث تنمو النطفة ثم ظلمة المشيمة التي تلف الجنين في الرحم.
وقرروا كذلك «٣» أن جملة: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [٦] في معنى خلق لكم زوجين من كل نوع من الأنعام الأربعة وهي الضأن والمعز والإبل والبقر على ما جاء بصراحة في آيات سورة الأنعام [١٤٣- ١٤٤] التي مرّ تفسيرها.
ولقد علقنا على ما جاء في الآيتين الأولى والثانية في سياق آيات مماثلة في
(٢) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي.
(٣) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي.

سورتي الأعراف ويس بما يغني عن التكرار «١». ونكتفي بالقول هنا بمناسبة ما ورد في الآية الثانية من الإشارات إلى كيفيات الخلق أن في أسلوب الآيات ومضمونها ما يدل على أن القصد منها كما هو في أمثالها الكثيرة على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة هو التنبيه إلى مشاهد عظمة الله وقدرته ونعمه على الناس بأسلوب يتسق مع أفهام الناس على اختلاف فئاتهم وبما هو ماثل أمام أعينهم وفي أنفسهم وما يتمتعون به من وسائل الحياة وليس تقرير نواميس كونية وخلقية من وجهة فنية وأن الواجب عدم تجاوز هذا النطاق في هذه الآيات لأن ذلك ليس من المقاصد القرآنية.
تعليق على جملة إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ
والآية الأخيرة من الآيات الحاسمة في تقرير كون كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وما ينشأ عن ذلك من الهدى وعمل الصالحات والضلال والكفر واقتراف الآثام إنما هو من مكتسبات الإنسان وقابليته الاختيارية التي شاء الله أن يودعها فيه. وفي تقرير تنزيه الله عز وجل عن تحتيم الكفر والإثم على أحد تحتيما لا يجعل له مناصا منهما. فهو الغني عن الناس إن كفروا به ولا يرضى بذلك ولا يحبه لهم قط في حين أنه يرضيه منهم أن يعترفوا به ويشكروه ويحبه لهم.
ومع وضوح الآيات ومقاصدها في التنويه بالشكر والتنديد بالكفر فإن أصحاب المذاهب الكلامية «٢» تشادوا حولها فقال بعضهم: إن عدم الرضا وعدم الإرادة في معنى واحد وإن الكفر لا يمكن أن يقع بإرادة الله. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا: إن هناك فرقا بين الرضا والإرادة ولا يقع في ملك الله إلّا ما أراد وإن كان
(٢) انظر تفسير الآية في الكشاف للزمخشري وما عليه من تعليقات لابن المنير الإسكندري (الطبعة الأولى مطبعة مصطفى محمد) وانظر أيضا تفسيرها في تفسير الخازن.