
من مواعظ القرآن وتلقيناته الشاملة المستمرة في صدد تنبيه الناس أولا: إلى ما في جحود نعم الله وما في ذكره في الشدة ونسيانه في الرخاء من تناقض وإثم. وثانيا:
إلى كون ما يمنحه الناس من نعمة ويسر بدءا أو بعد شدة وضر هو اختبار رباني وليس حظوة منه واختصاصا. وثالثا: إلى ما يجب على أمثال هؤلاء الناس من ذكر الله وشكره والقيام بواجباتهم نحوه ونحو الناس وعدم الاستشعار بالبطر والزهو والاعتداد بالنفس في حالة اليسر والصبر في حالة العسر.
وقد انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة تلقين جليل خاص وهو تقرير أثر الإيمان في رضاء النفس وطمأنينتها حيث يساعد صاحبه على لمس يد الله وقدرته في جميع الأمور فيشكره في حالة اليسر ويتحمل صابرا راضي النفس مطمئن القلب في حالة الشدة والعسر.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [٥٢] مدنية، ويلحظ أنها منسجمة انسجاما تاما مع الآيات سبكا وموضوعا وأن فيها تتمة لما قبلها، وكل هذا مما يسوغ الشك في رواية مدنيتها.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٩]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
. في الآيات:

١- أمر للنبي صلى الله عليه وسلّم بأن يهتف بعباد الله أن لا يقنطوا من رحمته مهما أسرفوا على أنفسهم وأن لا يظنوا أن باب الإنابة قد سد في وجههم بسبب ذلك، فالله يغفر كل ذنب مهما عظم وهو المتصف بالغفران والرحمة إذا تاب صاحبه منه وأناب إليه. وبأن يحثهم على سرعة الإنابة والرجوع إلى الله وإسلام النفس له وهم في متسع من الوقت وقبل أن يأتيهم عذاب الله فلا يكون لهم منه مخلص ولا محيص ولا نصير. وبأن يدعوهم إلى اتباع أحسن ما أنزل الله إليهم من دعوة الهدى والحق والخير من قبل أن يحل فيهم عذابه بغتة دون أن يشعروا بمقدماته.
٢- وتحذير للمذنبين من إضاعة الفرصة المواتية للتوبة والإنابة إلى الله حتى لا يندموا على ما فرط منهم من آثام ومواقف ساخرة مستهترة. ولا يتنصلوا من مسؤولية آثامهم قائلين إن الله لو هداهم لكانوا من المتقين. ولا يتمنوا أن يعودوا إلى الدنيا ثانية فيكونوا من المحسنين، وهتاف بهم بأن ذلك سوف يكون عبثا حيث يقال لهم: لقد جاءتكم آيات الله ودعوته فكذبتم بها واستكبرتم وكنتم من الكافرين.
والآيات قد تبدو فصلا مستأنفا لا صلة لها بسابقاتها. غير أن العودة إلى مخاطبة الكفار في الآية الأخيرة تجعل الاستمرار في السياق قائما، ولعل مما يصح أن يقال إنها جاءت استطرادية لتهتف بما هتفت به وتنذر بما أنذرت به وتحذر مما حذرت منه، وهذا أسلوب مألوف في النظم القرآني، وقد مرّ منه أمثلة عديدة.
تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وما بعدها
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيتين ٥٣ و ٥٤ مدنيتان.
وروى المفسرون بعض الروايات «١» في سبب نزول الآية [٥٣] منها ما ذكر

عزوا إلى ابن عباس أنها نزلت في حق وحشي الحبشي قاتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عمّ النبي ﷺ في وقعة أحد حيث استعظم ذنبه فأنزل الله آية الفرقان [٧٠] التي فيها هذه الجملة: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فقال وحشي: هذا شرط شديد. فأنزل الله آية سورة النساء [٤٨] التي فيها هذه الجملة:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فقال: أراني بعد في شبهة فأنزل الله آية الزمر [٥٣] التي نحن في صددها فقال: هذا نعم، ثم جاء فأسلم.
فسأل المسلمون: هل هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بل للمسلمين عامة «١». ومنها ما ذكر عزوا إلى ابن عمر أن الآيات نزلت في نفر من المسلمين منهم عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد كانوا أسلموا ثم عذبوا وفتنوا فافتتنوا فكان المهاجرون يقولون: لا يقبل الله لهم صرفا ولا عدلا أسلموا ثم تركوا دينهم من العذاب. فأنزل الله الآيات فكتبها عمر بن الخطاب وأرسلها إليهم فأسلموا وهاجروا «٢». ومنها ما ذكر عزوا إلى ابن عباس أيضا أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا ﷺ فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لما عملنا كفارة فنزل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ إلخ الفرقان: [٦٨] ونزل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً الزمر: [٥٣] ورواية ابن عباس الأخيرة قد رواها البخاري أيضا «٣».
وقال المفسرون فيما قالوه بصدد الآية: إنها موجهة للمؤمنين وفي حقهم عامة وإنها أرجى آية في القرآن وأبعثها أملا وسكينة لقلوب المذنبين منهم «٤». بل
(٢) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وانظر التاج ج ٤ فصل التفسير ص ١٩٩.
(٣) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وانظر التاج ج ٤ فصل التفسير ص ١٩٩.
(٤) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.

قال بعضهم إن الإطلاق في الآية يجعل تقييد غفران الذنوب بالتوبة خلاف الظاهر «١» واستندوا في قولهم هذا إلى آية النساء [٤٧] المار ذكرها ونصها. وقد أوردوا في مناسبتها أحاديث نبوية منها حديث رواه أبو أيوب الأنصاري أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «لولا أنّكم تذنبون لخلق الله عزّ وجلّ قوما يذنبون فيغفر لهم». وحديث رواه أنس بن مالك أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتّى تملأ خطاياكم ما بين السّماء والأرض ثمّ استغفرتم الله تعالى لغفر لكم. والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عزّ وجلّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم» «٢».
ومنها حديث عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما أحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى آخر الآية فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت النبيّ ﷺ ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات» «٣». وحديث عن عمرو بن عنبسة قال: «جاء رجل إلى النبي ﷺ شيخ كبير يدّعم على عصا له فقال: يا رسول الله إنّ لي غدرات وفجرات فهل يغفر لي؟ قال: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى وأشهد أنك رسول الله. فقال: قد غفر لك غدراتك وفجراتك» «٤». وحديث عن علي بن أبي طالب قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله تعالى يحبّ العبد المفتّن التوّاب» ».
ويلحظ أولا: أن روايات وحشي غريبة في مناسبتها وظرفها ثم في تدرجها لأجل إقناعه وجعله يسلم وهي لم ترد في كتب الصحاح. وفضلا عن ذلك إن آية النساء [٤٨] التي تروي هذه الروايات أنها نزلت لإقناعه ليست في صدد تأميل غير المشركين وإنما هي في صدد تعظيم جريمة الشرك بالله كما هو ظاهر بقوة في أسلوبها.
(٢) انظر تفسير ابن كثير.
(٣) النصوص من ابن كثير.
(٤) النصوص من ابن كثير.
(٥) النصوص من ابن كثير.

وثانيا: إنها مروية عن ابن عباس مع أن رواية كون الآية نزلت بمناسبة مراجعة أناس من المشركين للنبي ﷺ التي رواها البخاري قد رواها ابن عباس أيضا.
وثالثا: إن الآية منسجمة انسجاما تاما مع الآيات التالية لها إلى آخر الآية [٥٩] وإن القول إنها أو إنها والآية [٥٤] فقط مدنيتان غير مستقيم. وتبعا لذلك نشك في رواية مدنية الآية أو الآيتين ونشك بالتالي في رواية كونهما نزلتا في شأن وحشي أو في شأن النفر الذين ارتدوا ولم يهاجروا مع المهاجرين. وكل ما يمكن احتماله أن تكون الآية ذكرت لهم أو لهم ولو حشي على سبيل الترغيب والتشجيع والتأميل. والرواية الثانية التي رواها البخاري هي الأكثر احتمالا ولا يضعف هذا الاحتمال جمع الرواية هذه الآية مع آية الفرقان التي نزلت قبلها بمدة طويلة. فمن الممكن أن يفرض أن مراجعات أناس من المشركين للنبي ﷺ في مكة قد تكررت فنزلت أولا آيات الفرقان ثم آيات الزمر التي نحن في صددها فجمع ابن عباس رضي الله عنه المناسبات المتكررة مع بعضها في روايته. وروح الآيات ومضمونها تدعم هذه الرواية أو بعبارة ثانية تدعم كون الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين والكفار. وقد حكت ما سوف يبدونه من ندم وحسرة لإضاعتهم الفرصة. وفي الآية الأخيرة دليل حاسم. وكل هذا يسوغ القول بجزم أن الآيات سلسلة واحدة متماسكة لا يصح فصل بعضها عن بعض وهي في مجموعها في صدد حث الكفار على الإنابة إلى الله والاستجابة إلى دعوة الإسلام والترغيب في ذلك وهم في سعة من الوقت والتحذير من إضاعة الفرصة بالإهمال والتباطؤ.
وروح الآيات ومضمونها مجتمعة تسوغ استغراب ما قاله بعض المفسرين أو رووه عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الآية الأولى أرجى آية في القرآن أو أن الإطلاق فيها يجعل تقييد غفران الذنوب بالتوبة هو خلاف الظاهر. فإذا كانت الآية تقول: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فإن الآية التي تلتها ردفت ذلك بالحث على سرعة الإنابة إلى الله واتباع أحسن ما أنزل وبالتحذير من التباطؤ والإهمال وما

يجرانه من حسرة وندم. وهذا فضلا عن أن القول إن الله يغفر جميع الذنوب والآثام دون توبة وندم وتلاف للذنوب بصالح العمل والإصلاح هو إفراط لا يتسق مع آيات القرآن التي لا تكاد تحصى كثرة في صدد الإنذار والتبشير والوعد والوعيد وتقبيح القبيح وتحسين الحسن وتوفية الناس جزاء أعمالهم كلا بحسب عمله. وما ورد من الأحاديث النبوية يحمل فيما نعتقد في حالة صحتها ولا ننفي ذلك على قصد الترغيب في التوبة والحث عليها وعلى تقرير كون الله تعالى يغفر للنادم والتائب المستغفر وبهذا يتم التساوق ويزول التناقض.
على أن الآيات تتضمن تلقينا بليغا مستمر المدى يتسق مع مبدأ التوبة القرآني الذي شرحناه في سياق تفسير سورة الفرقان وهو عدم إيئاس أي كائن دون تلافي أخطائه والرجوع عن آثامه المتنوعة من كفر ومما دون الكفر، وإصلاح نفسه دينيا ودنيويا وإبقاء باب العفو مفتوحا لمن حسنت فيهم النيات واستيقظت الضمائر إذا ما ترووا وندموا وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن ما أنزل منه وهم في متسع من الوقت وفسحة من العمر والعافية.
ونقطة أخرى جديرة بالتسجيل عن الآيات، من حيث إنها تنطوي على تقرير محكم حاسم يضاف إلى التقريرات المحكمة الحاسمة الكثيرة بأهلية الإنسان للكسب والاختيار بين الهدى والضلال وبمسؤوليته عن كسبه واختياره. والآية [٥٧] بخاصة قوية جديرة بالتنويه في هذا الباب حيث تندد بالذي يقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. وقد ردت عليه الآية التي تلتها فقررت أن الله قد أراه طريق الهدى بآياته التي أنزلها على رسوله ﷺ ولكنه كذّب واستكبر وكان من الكافرين فاستحق عذاب الله.
تعليق على جملة وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وقد يوهم تعبير وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أن فيما نزل ما هو حسن وما هو أحسن. ولسنا نرى محلا للتوهم ونرى أن التعبير أسلوبي. هذا