الجزء السابع والعشرون
[تتمة سورة الزمر]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٩]قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
[في قوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى قوله هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي الْوَعِيدِ أَرْدَفَهُ بِشَرْحِ كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنِ الْكَبَائِرِ، فَقَالُوا: إِنَّا بَيَّنَّا فِي هَذَا الكتاب أن عرف القرآن جار بتخصيص اسم الْعِبَادِ بِالْمُؤْمِنِينَ «١» قَالَ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ/ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: ٦٣]
وَقَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: ٦] وَلِأَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إذا ثبت هذا ظهر أن قوله يا عِبادِيَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يَعْتَرِفُ بكونه عبد الله، أما المشركون فإنهم يسمعون أَنْفُسَهُمْ بِعَبْدِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَعَبْدِ الْمَسِيحِ «١»، فَثَبَتَ أن قوله يا عِبادِيَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْرِفِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ غَافِرًا لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ الذُّنُوبِ مَغْفُورَةً قَطْعًا، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ، فَمَا هُوَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَقُولُونَ بِهِ، وَالَّذِي تَقُولُونَ بِهِ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، وَأَيْضًا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ إِلَى قَوْلِهِ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى غَفَرَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ قَطْعًا لَمَا أَمَرَ عَقِيبَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَمَا خَوَّفَهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَيْضًا قَالَ: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا مَغْفُورَةً، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إلى أن يقول:
يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ؟ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْآيَةِ لَكَانَ ذَلِكَ إِغْرَاءً بِالْمَعَاصِي وَإِطْلَاقًا فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ الْعَاصِي أَنَّهُ لَا مَخْلَصَ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَهُوَ قَانِطٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِذْ لَا أَحَدَ مِنَ الْعُصَاةِ الْمُذْنِبِينَ إِلَّا وَمَتَى تَابَ زَالَ عِقَابُهُ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أَيْ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ الْآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ الذُّنُوبِ مَغْفُورَةً قَطْعًا وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ، قُلْنَا بَلْ نَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَنَذْهَبُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صِيغَةَ يَغْفِرُ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ، وَهِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مَغْفُورٌ لَهُ قَطْعًا، إِمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَإِمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا، فَثَبَتَ أَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِنَا.
أَمَّا قَوْلُهُ لَوْ صَارَتِ الذُّنُوبُ بِأَسْرِهَا مَغْفُورَةً لَمَا أَمَرَ بِالتَّوْبَةِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ عِنْدَنَا التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ وَخَوْفَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، فَإِنَّا لَا نَقْطَعُ بِإِزَالَةِ الْعِقَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ نَقُولُ لَعَلَّهُ يَعْفُو مُطْلَقًا، وَلَعَلَّهُ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ مُدَّةً ثُمَّ يَعْفُو بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا الْحَرْفِ يُخَرَّجُ الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَسْئِلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَمَّى/ الْمُذْنِبَ بِالْعَبْدِ وَالْعُبُودِيَّةُ مُفَسَّرَةٌ بِالْحَاجَةِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَاللَّائِقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ إِفَاضَةُ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْمِسْكِينِ الْمُحْتَاجِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ بِيَاءِ الإضافة فقال: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا وَشَرَفُ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ يُفِيدُ الْأَمْنَ مِنَ الْعَذَابِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّ ضَرَرَ تِلْكَ الذُّنُوبِ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَلْ هُوَ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ، فَيَكْفِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ عَوْدُ مَضَارِّهَا إِلَيْهِمْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِلْحَاقِ ضَرَرٍ آخَرَ بِهِمْ الرابع:
أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ نَهَاهُمْ عَنِ الْقُنُوطِ فَيَكُونُ هَذَا أَمْرًا بِالرَّجَاءِ وَالْكَرِيمُ إِذَا أَمَرَ بِالرَّجَاءِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الْكَرَمُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: يا عِبادِيَ وَكَانَ الْأَلْيَقُ أَنْ يَقُولَ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِي لَكِنَّهُ تَرَكَ هَذَا اللَّفْظَ وَقَالَ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ قَوْلَنَا اللَّهِ أَعْظَمُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَجْلُّهَا، فَالرَّحْمَةُ الْمُضَافَةُ إِلَيْهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ أَعَادَ اسْمَ اللَّهِ وَقَرَنَ بِهِ لَفْظَةَ إِنَّ الْمُفِيدَةَ لِأَعْظَمِ وُجُوهِ التَّأْكِيدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يدل على المبالغة في الوعد بالرحمن السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: يَغْفِرُ الذُّنُوبَ لَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا لَكِنَّهُ أَرْدَفَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى التَّأْكِيدِ فَقَالَ جَمِيعًا وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ الثَّامِنُ: أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ غَفُورًا، وَلَفْظُ الْغَفُورِ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ التَّاسِعُ: أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ رَحِيمًا وَالرَّحْمَةُ تُفِيدُ فَائِدَةً عَلَى الْمَغْفِرَةِ فكان قوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ إِشَارَةً إِلَى إِزَالَةِ مُوجِبَاتِ الْعِقَابِ، وَقَوْلُهُ الرَّحِيمُ إِشَارَةً إِلَى تَحْصِيلِ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا غَفُورَ وَلَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْكَمَالَ فِي وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ بِالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْعَشَرَةُ مَجْمُوعَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ بِأَسْرِهَا دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْفَوْزَ بِهَا وَالنَّجَاةَ مِنَ الْعِقَابِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا، قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الْأَوْثَانَ وَقَتَلَ النَّفْسَ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ، وَقَدْ عَبَدْنَا وَقَتَلْنَا فَكَيْفَ نُسْلِمُ؟
وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ وَخَافَ أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ أَسْلَمَ، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً
وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ أَصَابُوا ذُنُوبًا عِظَامًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسلام أشفقوا لَا يَقْبَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَنَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُوا ثُمَّ فُتِنُوا فَافْتُتِنُوا وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ فِيهِمْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ تَوْبَتَهُمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فَكَتَبَهَا عُمَرُ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ فَأَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كثير وابن عامر وعاصم يا عِبادِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ/ وَعَاصِمٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِغَيْرِ فَتْحٍ وَكُلُّهُمْ يَقِفُونَ عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الْمُصْحَفِ، إِلَّا فِي بَعْضِ رواية أبي بكر عن عاصم أنه يَقِفُ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ تَقْنِطُوا بِكَسْرِ النُّونِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لِمَنْ يَشَاءُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَيْ وَتُوبُوا إِلَيْهِ وَأَسْلِمُوا لَهُ أَيْ وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعَمَلَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِنَابَةَ عَلَى أَثَرِ الْمَغْفِرَةِ لِئَلَّا يَطْمَعَ طَامِعٌ فِي حُصُولِهَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِيهَا لَازِمٌ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ، وَأَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ عِنْدَنَا التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي وَاجِبَةٌ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهَا طَعْنٌ فِي الْوَعْدِ بِالْمَغْفِرَةِ، فَإِنْ قَالُوا لَوْ كَانَ الْوَعْدُ بِالْمَغْفِرَةِ حَاصِلًا قَطْعًا لَمَا احْتِيجَ إِلَى التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُرَادُ لِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ، فَإِذَا سَقَطَ الْعِقَابُ بِعَفْوِ اللَّهِ عَنْهُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّوْبَةِ، فَنَقُولُ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ قَطْعًا وَيَعْفُو عَنْهَا قَطْعًا إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ تارة
يَقَعُ ابْتِدَاءً وَتَارَةً يُعَذِّبُ مُدَّةً فِي النَّارِ ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنَ النَّارِ وَيَعْفُو عَنْهُ، فَفَائِدَةُ التَّوْبَةِ إِزَالَةُ هَذَا الْعِقَابِ، فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ضَعِيفٌ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ بِالْمَغْفِرَةِ أَمَرَ بَعْدَ هَذَا الْوَعْدِ بِأَشْيَاءَ فَالْأَوَّلُ: أَمَرَ بِالْإِنَابَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَالثَّانِي: أَمَرَ بِمُتَابَعَةِ الْأَحْسَنِ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْأَحْسَنِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَمَعْنَاهُ وَاتَّبِعُوا الْقُرْآنَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً [الزُّمَرِ: ٢٣] الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ، وَالْتَزِمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَاجْتَنِبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، ذِكْرُ الْقَبِيحِ لِيُجْتَنَبَ عَنْهُ، وَالْأَدْوَنِ لِئَلَّا يُرْغَبَ فِيهِ، وَالْأَحْسَنِ لِيُتَقَوَّى بِهِ وَيُتَّبَعَ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِالْأَحْسَنِ النَّاسِخُ دُونَ الْمَنْسُوخِ لِأَنَّ النَّاسِخَ أَحْسَنُ مِنَ الْمَنْسُوخِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [الْبَقَرَةِ: ١٠٦] وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَسَخَ حُكْمًا وَأَثْبَتَ حُكْمًا آخَرَ كَانَ اعْتِمَادُنَا عَلَى الْمَنْسُوخِ.
ثُمَّ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَفْجَأُ الْعَذَابُ وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَهُمْ بِالْعَذَابِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ بِتَقْدِيرِ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ مَاذَا يَقُولُونَ فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ أَنْ تَقُولَ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ كَرَاهَةَ أن تقول: يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَأَمَّا تَنْكِيرُ لَفْظِ النَّفْسِ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ تُرَادَ نَفْسٌ مُمْتَازَةٌ عَنْ سَائِرِ النُّفُوسِ لِأَجْلِ اخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ إِضْرَارٍ بِمَا لَا يَنْفِي رَغْبَتَهَا فِي الْمَعَاصِي وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ/ يُرَادَ بِهِ الْكَثْرَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ وَصْفٍ يُنَاسِبُهُ يُفِيدُ الظَّنَّ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُعَلَّلٌ بذلك الوصف، فقوله يا حَسْرَتى يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْأَسَفِ وَنِهَايَةِ الْحُزْنِ وَأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَقِيبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَالتَّفْرِيطُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى يُنَاسِبُ شِدَّةَ الْحَسْرَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ تِلْكَ الْحَسْرَةِ عِنْدَ حُصُولِ هَذَا التَّفْرِيطِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِإِثْبَاتِ الْأَعْضَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى اسْتَدَلُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الْجَنْبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَنَا عَلَى نَفْيِ الْأَعْضَاءِ قَدْ كَثُرَتْ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَنَقُولُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْجَنْبِ عُضْوًا مَخْصُوصًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ وُقُوعُ التَّفْرِيطِ فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى التَّأْوِيلِ وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عِبَارَاتٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ ضَيَّعْتُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ ضَيَّعْتُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ لَا يُفِيدُ شَرْحَ الصُّدُورِ وَشِفَاءَ الْغَلِيلِ، فَنَقُولُ: الْجَنْبُ سُمِّيَ جَنْبًا لِأَنَّهُ جَانِبٌ مِنْ جَوَانِبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّيْءِ وَتَوَابِعِهِ يَكُونُ كَأَنَّهُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِهِ وَجَانِبٌ مِنْ جَوَانِبِهِ فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْجَنْبِ الَّذِي هُوَ الْعُضْوُ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ لَازِمًا لِلشَّيْءِ وَتَابِعًا لَهُ، لَا جَرَمَ حَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجَنْبِ عَلَى الْحَقِّ وَالْأَمْرِ وَالطَّاعَةِ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمَا تتقين الله جنب وامق | له كبد حرا عليك تقطع |