فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن أضاف إليه سبحانه وتعالى الشريك أو الولد وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي بالأمر الذي هو عين الحق ونفس الصدق وهو ما جاء به النبي ﷺ إِذْ جاءَهُ أي في أول مجيئه من غير تدبر فيه ولا تأمل- فإذا- فجائية كما صرح به الزمخشري لكن اشترط فيها في المغني أن تقع بعد بينا أو بينما ونقله عن
صفحة رقم 257
سيبوبه فلعله أغلبي، وقد يقال: هذا المعنى يقتضيه السياق من غير توقف على كون إذ فجائية، ثم المراد أن هذا الكاذب المكذب أظلم من كل ظالم أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه وتعالى وسارعوا إلى التكذيب بالصدق، ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر، والجمع باعتبار معنى (من) كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها أو لجنس الكفرة فيشمل أهل الكتاب ويدخل هؤلاء في الحكم دخولا أوليا، وأيا ما كان فالمعنى على كفاية جهنم مجازاة لهم كأنه قيل: أليست جهنم كافية للكافرين مثوى كقوله تعالى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها [المجادلة: ٨] أي هي تكفي عقوبة لكفرهم وتكذيبهم، والكفاية مفهومة من السياق كما تقول لمن سألك شيئا: ألم أنعم عليك تريد كفاك سابق إنعامي عليك، واستدل بالآية على تكفير أهل البدع لأنهم مكذبون بما علم صدقه.
وتعقب بأن «من كذب» مخصوص بمن كذب الأنبياء شفاها في وقت تبليغهم لا مطلقا لقوله تعالى: إِذْ جاءَهُ ولو سلم إطلاقه فهم لكونهم يتأولون ليسوا مكذبين وما نفوه وكذبوه ليس معلوما صدقه بالضرورة إذ لو علم من الدين ضرورة كان جاحده كافرا كمنكر فرضية الصلاة ونحوها.
وقال الخفاجي: الأظهر أن المراد تكذيب الأنبياء عليهم السلام بعد ظهور المعجزات في أن ما جاؤوا به من عند تعالى لا مطلق التكذيب، وكأني بك تختار أن المتأول غير مكذب لكن لا عذر في تأويل ينفي ما علم من الدين ضرورة وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ الموصول عبارة عن رسول الله ﷺ كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس، وفسر الصدق بلا إله إلا الله، والمؤمنون داخلون بدلالة السياق وحكم التبعية دخول الجند في قولك: نزل الأمير موضع كذا، وليس هذا من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء لأن الثاني لم يقصد من حاق اللفظ، ولا يضر في ذلك أن المجيء بالصدق ليس وصفا للمؤمنين الأتباع كما لا يخفى، والموصول على هذا مفرد لفظا ومعنى، والجمع في قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ باعتبار دخول الأتباع تبعا، ومراتب التقوى متفاوتة ولرسول الله ﷺ أعلاها، وجوز أن يكون الموصول صفة لمحذوف أي الفوج الذي أو الفريق الذي إلخ فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى فقيل: الكلام حينئذ على التوزيع لأن المجيء بالصدق على الحقيقة له عليه الصلاة والسلام والتصديق بما جاء به وأن عمه وأتباعه ﷺ لكنه فيهم أظهر فليحمل عليه للتقابل، وفي الكشف الأوجه أن لا يحمل على التوزيع غاية ما في الباب أن أحد الوصفين في أحد الموصوفين أظهر، وعليه يحمل كلام الزمخشري الموهم للتوزيع، وحمل بعضهم الموصول على الجنس فإن تعريفه كتعريف ذي اللام يكون للجنس والعهد، والمراد حينئذ به الرسل والمؤمنون.
وأيد إرادة ما ذكر بقراءة ابن مسعود والذين جاؤا بالصدق وصدقوا به وزعم بعضهم أنه أريد والذين فخذفت النون كما في قوله:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم | هم القوم كل القوم يا أم مالك |
ابني كليب إنّ عميّ اللذا | قتلا الملوك وفككا الاغلالا |
صحبة عن علي كرم الله تعالى وجهه،
وقال أبو الأسود ومجاهد في رواية وجماعة من أهل البيت وغيرهم: الذي صدق به هو علي كرم الله تعالى وجهه وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ جبريل عليه السلام وَصَدَّقَ بِهِ هو النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: وعلى الأقوال الثلاثة يقتضي إضمار الذي وهو غير جائز على الأصح عند النحاة من أنه لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته مطلقا أي سواء عطف على موصول آخر أم لا.
ويضعفه أيضا الإخبار عنه بالجمع. وأجيب بأنه لا ضرورة إلى الإضمار ويراد بالذي الرسول ﷺ والصديق أو علي كرم الله تعالى وجههما معا على أن الصلة للتوزيع، أو يراد بالذي جبريل عليه السلام والرسول ﷺ معا كذلك، وضمير الجمع قد يرجع إلى الاثنين وقد أريدا بالذي، ولا يخفى ما ذلك من التكلف والله تعالى أعلم بحال الإخبار، ولعل ذكر أبي بكر مثلا على تقدير الصحة من باب الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة وهي في أبي بكر رضي الله تعالى عنه كونه أول من آمن وصدق من الرجال، وفي علي كرم الله تعالى وجهه كونه أول من آمن وصدق من الصبيان، ويقال نحو ذلك على تقدير صحة خبر السدي ولا يكاد يصح لقوله تعالى: فيما بعد لِيُكَفِّرَ إلخ، وبما ذكر يجمع بين الأخبار إن صحت ولا يعتبر في شيء منها الحصر فتدبر. وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان «وصدق به» مخففا أي وصدق به الناس ولم يكذبهم به يعني. أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف فالمفعول محذوف لأن الكلام في القائم به الصادق وفي الحديث الصدق، والكلام على العموم دون خصوصه عليه الصلاة والسلام فإن جملة القرآن حفظه الصحابة عنه عليه الصلاة والسلام وأدوه كما أنزل، وقيل: المعنى وصار صادقا به أي بسببه لأن القرآن معجز والمعجز يدل على صدق النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فالوصف خاص، وقد تجوز في ذلك باستعمال (صدق) بمعنى صار صادقا به ولا كناية فيه كما قيل، وقال أو صالح: أي وعمل به وهو كما ترى.
وقرىء «وصدّق به» مبنيا للمفعول مشددا لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ بيان لما لأولئك الموصوفين بالمجيء بالصدق. والتصديق به في الآخرة من حسن المآب بعد بيان ما لهم في الدنيا من حسن الأعمال أي لهم كل ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاؤونه من تكفير السيئات والأمن من الفزع الأكبر وسائر أهوال القيامة إنما يقع قبل دخول الجنة ذلِكَ الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤونه جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي الذين أحسنوا أعمالهم، والمراد بهم أولئك المحدث عنهم لكن أقيم الظاهر مقام الضمير تنبيها على العلة لحصول الجزاء، وقيل: المراد ما يعمهم وغيرهم ويدخلون دخولا أوليا، وقوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا إلخ متعلق بمحذوف أي ليكفر الله عنهم ويجزيهم خصهم سبحانه بما خص أو بما قبله باعتبار فحواه على ما قيل أي وعدهم الله جميع ما يشاؤونه من زوال المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا إلخ، وليس ببعيد معنى عن الأول، وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي بما يدل عليه من الثبوت أو بالمحسنين كما قال أبو حيان فكأنه قيل: وذلك جزاء الذين أحسنوا أعمالهم ليكفر الله تعالى عنهم أسوأ الذي عملوه وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ ويعطيهم ثوابهم بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ وتقديم التكفير على إعطاء الثواب لأن درء المضار أهم من جلب المسار.
وأقيم الاسم الجليل مقام الضمير الراجع إلى رَبِّهِمْ لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام، وإضافة أَسْوَأَ و (أحسن) إلى ما بعدهما من إضافة افعل التفضيل إلى غير المفضل عليه للبيان والتوضيح كما في الأشج أعدل بني مروان ويوسف أحسن أخوته، والتفضيل على ما قال الزمخشري للدلالة على أن الزلة المكفرة عندهم هي الأسوأ
لاستعظامهم المعصية مطلقا لشدة خوفهم، والحسن الذي يعملونه عند الله تعالى هو الأحسن لحسن إخلاصهم فيه.
وذلك على ما قرر في الكشف لأن التفضيل هنا من باب الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه نظرا إلى وصوله إلى أقصى الغاية الكمالية، ثم لما كانوا متقين كاملي التقى لم يكن في عملهم أسوأ إلا فرضا وتقديرا.
وقوله سبحانه: بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ دون أحسن الذي كانوا يعملون يدل على أن حسنهم عند الله تعالى من الأحسن لدلالته على أن جميع أجرهم يجري على ذلك الوجه فلو لم يعملوا إلا الأحسن كان التفضيل بحسب الأمر نفسه ولو كان في العمل الأحسن والحسن وكان الجزاء بالأحسن بأن ينظر إلى أحسن الأعمال فيجري الباقي في الجزاء على قياسه دل أن الحسن عند المجازي كالأحسن، فصح على التقديرين أن حسنهم عند الله تعالى هو الأحسن، ويعلم من هذا أن لا اعتزال فيما ذكره الزمخشري كما توهمه أبو حيان، وأما قوله في الاعتراض عليه: إنه قد استعمل أَسْوَأَ في التفضيل على معتقدهم و (أحسن) في التفضيل على ما هو عند الله عزّ وجلّ وذلك توزيع في أفعل التفضيل وهو خلاف الظاهر. فقد يسلم إذا لم يكن في الكلام ما يؤذن بالمغايرة فحيث كان فيه هاهنا ذلك على ما قرر لا يسلم أن التوزيع خلاف الظاهر، وقيل: إن أَسْوَأَ على ما هو الشائع في أفعل التفضيل، وليس المراد أن لهم عملا سيئا وعملا أسوأ والمكفر هو الأسوأ فإنهم المتقون الذين وإن كانت لهم سيئات لا تكون سيئاتهم من الكبائر العظيمة، ولا يناسب التعرض لها في مقام مدحهم بل الكلام كناية عن تكفير جميع سيئاتهم بطريق برهاني، فإن الأسوأ إذا كفر كان غيره أولى بالتكفير لا أن ذلك صدر منهم، ولا نسلم وجوب تحقق المعنى الحقيقي في الكناية وهو كما ترى، وقال غير واحد: أفعل على ما هو الشائع والأسوأ الكفر السابق على التقوى والإحسان، والمراد تكفير جميع ما سلف منهم قبل الإيمان من المعاصي بطريق برهاني.
وعلى هذا لا يتسنى تفسير وَصَدَّقَ بِهِ بعلي كرم الله تعالى وجهه إذ لم يسبق له كفر أصلي ولا يكاد يعبر عن الكفر التبعي بأسوأ العمل، وقيل: افعل ليس للتفضيل أصلا فأسوأ بمعنى السيّء صغيرا كان أو كبيرا كما هو وجه أيضا في الأشج أعدل بني مروان، وأيد بقراءة ابن مقسم وحامد بن يحيى عن ابن كثير رواية عن البزي عنه «أسواء» بوزن أفعال جمع سوء وأحسن عند أكثر أهل هذه الأقوال على بابه على معنى أنه تعالى ينظر إلى أحسن طاعاتهم فيجزي سبحانه الباقي في الجزاء على قياسه لطفا وكرما، وزعم الطبرسي أن الأحسن الواجب والمندوب والحسن المباح والجزاء إنما هو على الأولين دون المباح، وقيل: المراد يجزيهم بأحسن من عملهم وهو الجنة، وفيه ما فيه، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه كأن الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو يتلعثم في الجواب بوجودها، والمراد- بعبده- إما رسول الله ﷺ على ما روي عن السدي وأيد بقوله تعالى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الأوثان التي اتخذوها آلهة فإن الخطاب سواء كانت الجملة استئنافا أو حالا له صلى الله عليه وسلم: وقد روي أن قريشا قالت له عليه الصلاة والسلام: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وتصيبك معرتها لعيبك إياها فنزلت، وفي رواية قالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منها خبل فنزلت، أو الجنس المنتظم له عليه الصلاة والسلام انتظاما أوليا، وأيد بقراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي «عباده» بالجمع وفسر بالأنبياء عليهم السلام والمؤمنين، وعلى الأول يراد أيضا الاتباع كما سمعت في قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَيُخَوِّفُونَكَ شامل لهم أيضا على ما سلف والتئام الكلام بقوله
تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ إلى هذا المقام لدلالته على أنه تعالى يكفي نبيه صلّى الله عليه وسلم مهم دينه ودنياه ويكفي أتباعه المؤمنين أيضا المهمين وفيه أنه سبحانه يكفيهم شر الكافرين من وجهين من طريق المقابلة ومن أنه داخل في كفاية مهمي الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه، وهذا ما تقتضيه البلاغة القرآنية ويلائم ما بني عليه السورة الكريمة من ذكر الفريقين وأحوالهما توكيدا لما أمر به أولا من العبادة والإخلاص وقرىء «بكافي عباده» بالإضافة و «يكافي عباده» مضارع كافي ونصب «عباده» فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية كقولك: يجاري في يجري وهو أبلغ من كفى لبنائه على لفظ المبالغة وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن نحو فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: ١٣٧] ويحتمل أن يكون مهموزا من المكافأة وهي المجازاة، ووجه الارتباط أنه تعالى لما ذكر حال من كذب على الله وكذب بالصدق وجزاءه وحال مقابله أعني الذي جاء بالصدق وصدق به وجزاءه وعرض بقوله سبحانه: ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ بأن ما سلف جزاء الكافرين المسيئين لما هو معروف من فائدة البناء على اسم الإشارة ثم عقبه تعالى بقوله عزّ وجلّ: لِيُكَفِّرَ إلخ على معنى ليكفر عنهم ويجزيهم خصهم بما خص فنبه على المقابل أيضا من ضرورة الاختصاص والتعليل، وفيه أيضا ما يدل على حكم المقابل على اعتبار المتعلق غير ما ذكر كما يظهر بأدنى التفات أردف بقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وحيث إن مطمح النظر من العباد السيد الحبيب صلّى الله عليه وسلم كان المعنى الله تعالى يجازي عبده ونبيه عليه الصلاة والسلام هذا الجزاء المذكور وفيه أنه الذي يجزيه البتة ويلائمه قوله تعالى:
وَيُخَوِّفُونَكَ فإنه لما كان في مقابلة ذم آلهتهم كما سمعت في سبب النزول كان تحذيرا من جزاء الآلهة فلا مغمز بعدم الملاءمة. نعم لا ننكر أن معنى الكفاية أبلغ كما هو مقتضى القراءة المشهورة فاعلم ذاك والله تعالى يتولى هداك.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ حتى غفل عن كفايته تعالى عبده وخوف بما لا ينفع ولا يضر أصلا فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى خير ما وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فيجعل كونه تعالى كافيا نصب عينه عاملا بمقتضاه فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ولا معارض لإرادته عزّ وجلّ كما ينطق به قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع ذِي انْتِقامٍ ينتقم من أعدائه لأوليائه، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لظهور الدليل ووضوح السبيل فقد تقرر في العقول وجوب انتهاء الممكنات إلى واجب الوجود، والاسم الجليل فاعل لفعل محذوف أي خلقهن الله قُلْ تبكيتا لهم أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أي إذا كان خالق العالم العلوي والسفلي هو الله عزّ وجلّ كما أقررتم فأخبروني أن آلهتكم إن أرادني الله سبحانه بضر هل هن يكشفن عني ذلك الضر، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر وقال بعضهم: التقدير إذا لم يكن خالق سواه تعالى فهل يمكن غيره كشف ما أراد من الضر، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي أتفكرتم بعد ما أقررتم فرأيتم ما تدعون إلخ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي أو إن أرادني بنفع هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فيمنعها سبحانه عني. وقرأ الأعرج وشيبة وعمرو بن عبيد وعيسى بخلاف عنه. وأبو عمرو وأبو بكر «كاشفات» و «ممسكات» بالتنوين فيهما ونصب ما بعدهما وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه النفيسة عليه الصلاة والسلام للرد في نحورهم حيث كانوا خوفوه معرة الأوثان ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة، وقدم الضر لأن دفعه أهم، وقيل: «كاشفات» و «ممسكات» على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيها على كمال ضعفها قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ كافي جل شأنه في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر.
روي عن مقاتل أنه صلّى الله عليه وسلم لما سألهم سكتوا فنزل ذلك.
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ لا على غيره في كل شيء الْمُتَوَكِّلُونَ لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته تعالى.
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتهم فيها فإن المكانة نقلت من المكان المحسوس إلى الحالة التي عليها الشخص واستعيرت لها استعارة محسوس لمعقول، وهذا كما ستعار حيث وهنا للزمان بجامع الشمول والإحاطة، وجوز أن يكون المعنى اعملوا على حسب تمكنكم واستطاعتكم.
وروي عن عاصم «مكاناتكم» بالجمع والأمر للتهديد، وقوله تعالى: إِنِّي عامِلٌ وعيد لهم وإطلاقه لزيادة الوعيد لأنه لو قيل: على مكانتي لتراءى أنه عليه الصلاة والسلام على حالة واحدة لا تتغير ولا تزداد فلما أطلق أشعر بأن له صلّى الله عليه وسلم كل زمان مكانة أخرى وأنه لا يزال يزداد قوة بنصر الله تعالى وتأييده ويؤيد ذلك قوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فإنه دال على أنه صلّى الله عليه وسلم منصور عليهم في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ فإن الأول إشارة إلى العذاب الدنيوي وقد نالهم يوم بدر والثاني إشارة إلى العذاب الأخروي فإن العذاب المقيم عذاب النار فلو قيل إني عامل على مكانتي وكان إذ ذاك غير غالب بل الأمر بالعكس لم يلائم المقصود، ومَنْ تحتمل الاستفهامية والموصولية وجملة يُخْزِيهِ صفة عَذابٌ والمراد بمقيم دائم وفي الكلام مجاز في الظرف أو الإسناد وأصله مقيم فيه صاحبه إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في المعاش والمعاد بِالْحَقِّ حال من مفعول أَنْزَلْنا أو من فاعله أي أنزلنا الكتاب ملتبسا أو ملتبسين بالحق فَمَنِ اهْتَدى بأن عمل بما فيه فَلِنَفْسِهِ إذ نفع به نفسه وَمَنْ ضَلَّ بأن لم يعمل بموجبه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لما أن وبال ضلاله مقصور عليها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ لتجبرهم على الهدى وما وظيفتك إلا البلاغ وقد بلغت أي بلاغ.
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها تعلق التصرف فيها عنها حِينَ مَوْتِها أي في وقت موتها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت فِي مَنامِها متعلق- بيتوفى- أي يتوفاها في وقت نومها على أن مناما اسم زمان، وجوز فيه كونه مصدرا ميميا بأن يقطع سبحانه تعلقها بالأبدان تعلق التصرف فيها عنها أيضا فتوفي الأنفس حين الموت وتوفيها في وقت النوم بمعنى قبضها عن الأبدان وقطع تعلقها بها تعلق التصرف إلا أن توفيها حين الموت قطع لتعلقها بها تعلق التصرف ظاهرا أو باطنا وتوفيها في وقت النوم قطع لذلك ظاهرا فقط، وكأن التوفي الذي يكون عند الموت لكونه شيئا واحدا في أول زمان الموت وبعد مضي أيام منه قيل: حِينَ مَوْتِها والتوفي الذي يكون في وقت النوم لكونه يتفاوت في أول وقت النوم وبعد مضي زمان منه قوة وضعفا قيل: فِي مَنامِها أي في وقت نومها كذا قيل فتدبره ولمسلك الذهن السليم اتساع، وإسناد الموت والنوم إلى الأنفس قيل:
مجاز عقلي لأنهما حالا أبدانها لا حالاها، وزعم الطبرسي أن الكلام على حذف مضاف أعني الأبدان، وجعل الزمخشري الأنفس عبارة عن الجملة دون ما يقابل الأبدان، وحمل توفيها على إماتتها وسلب صحة أجزائها بالكلية فلا تبقى حية حساسة دراكة حتى كأن ذاتها قد سلبت، وحيث لم يتحقق هذا المعنى في التوفي حين النوم لأنه ليس إلا سلب كمال الصحة وما يترتب عليه من الحركات الاختيارية وغيرها قال في قوله تعالى: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: ٦٠] حيث لا تميزون ولا تتصرفون كما أن الموتى كذلك، وما يتخايل فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز يدفع بالتأمل وتقديم الاسم الجليل وبناء يَتَوَفَّى عليه للحصر أو للتقوى أو لهما، واعتبار الحصر أوفق بالمقام من اعتبار التقوى وحده أي الله يتوفى الأنفس حقيقة لا غيره عزّ وجلّ فَيُمْسِكُ الَّتِي أي الأنفس التي قَضى في الأزل عَلَيْهَا
الْمَوْتَ
ولا يردها إلى أبدانها بل يبقيها على ما كانت عليه وينضم إلى ذلك قطع تعلق التصرف باطنا، وعبر عن ذلك بالإمساك ليناسب التوفي.
وقرأ حمزة والكسائي وعيسى وطلحة والأعمش وابن وثاب «قضي» على البناء للمفعول ورفع «الموت» وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي الأنفس الأخرى وهي النائمة إلى أبدانها فتكون كما كانت حال اليقظة متعلقة بها تعلق التصرف ظاهرا وباطنا، وعبر بالإرسال رعاية للتقابل إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الوقت المضروب للموت حقيقة وهو غاية لجنس الإرسال الواقع بعد الإمساك لا لفرد منه فإنه آني لا امتداد له فلا يغيا، واعتبر بعضهم كون الغاية للجنس لئلا يرد لزوم أن لا يقع نوم بعد اليقظة الأولى أصلا وهو حسن، وقيل: يُرْسِلُ مضمن معنى الحفظ والمراد يرسل الأخرى حافظا إياها عن الموت الحقيقي إلى أجل مسمى، وروي عن ابن عباس أن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم، وهو قول بالفرق بين النفس والروح، ونسبه بعضهم إلى الأكثرين ويعبر عن النفس بالنفس الناطقة وبالروح الأمرية وبالروح الإلهية، وعن الروح بالروح الحيوانية وكذا بالنفس الحيوانية، والثانية كالعرش للأولى، قال بعض الحكماء المتألهين إن القلب الصنوبري فيه بخار لطيف هو عرش للروح الحيوانية وحافظ لها وآلة يتوقف عليها آثارها، والروح الحيوانية عرش ومرآة للروح الإلهية التي هي النفس الناطقة وواسطة بينها وبين البدن بها يصل حكم تدبير النفس إليه، وإلى عدم التغاير ذهب جماعة، وهو قول ابن جبير واحد قولين لابن عباس، وما روي عنه أولا في الآية يوافق ما ذكرناه من حيث إنّ النفس عليه ليست بمعنى الجملة كما قال الزمخشري وادعى أن الصحيح ما ذكره دون هذا المروي بدليل موتها ومنامها، والضمير للأنفس وما أريد منها غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تتصف بهما.
وقال في الكشف ولأن الفرق بين النفسين رأي يدفعه البرهان، وإيقاع الاستيفاء أيضا لا بد له من تأويل أيضا فلا ينبغي أن يعدل عن المشهور الملائم يعني حمل التوفي على الأمانة فإن أصله أخذ الشيء من المستوفى منه وافيا كملا وسلبه منه بالكلية ثم نقل عن ذلك إلى الإماتة لما أنه موجود فيها حتى صارت المتبادرة إلى الفهم منه، وفيه دغدغة، والذي يشهد له كثير من الآثار الصحيحة أن المتوفى في الأنفس التي تقابل الأبدان دون الجملة.
أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فإرحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين من عبادك»
وأخرج أحمد البخاري وأبو داود والنسائي وابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي: «إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء»
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر فقال: من يكلؤنا الليلة؟ فقلت: أنا فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحرّ الشمس فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء».
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا فقال علي كرم تعالى وجهه: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ يقول الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فالله تعالى يتوفى الأنفس كلها فما
رأت وهي عنده سبحانه في السماء. فهي الرؤيا الصادقة وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب عمر من قوله رضي الله تعالى عنهما
وظاهر هذا الأثر أن النفس النائمة المقبوضة تكون في السماء حتى ترسل، ومثل ذلك مما يجب تأويله على القول بتجرد النفس ولا يجب على القول الآخر. نعم لعلك تختاره وكأنك تقول: إن النفس شريفة علوية هبطت من المحل الأرفع وأرسلت من حمى ممنع وشغلت بتدبير منزلها في نهارها وليلها ولم تزل تنتظر فرصة العود إلى ذياك الحمى والمحل الرفيع الأسمى وعند النوم تنتهز تلك الفرصة وتهون عليها في الجملة هاتيك الغصة فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ومعلم السرور الخالي من الشرور بحيث تستعد استعدادا ما لقبول بعض آثاره والاستضاءة بشيء من أنواره وجعلها كذلك هو قبضها وبه لعمري بسطها وقبضها، فمتى رأت وهي راجعة في تلك الحال مستفيضة من ذلك العالم الموصوف بالكمال رؤيا كانت صادقة ومتى رأت وهي القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام وتزدحم فيه أي ازدحام كانت رؤياها كاذبة ثم إنها في كلا الحالين متفاوتة الإفراد فيما يكون من الاستعداد، والوقوف على حقيقة الحال لا يتم إلا بالكشف دون القيل والقال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ الإشارة إلى ما ذكر من التوفي والإمساك والإرسال، والإفراد لتأويله بالمذكور أو نحوه، وصيغة البعيد باعتبار مبدئه أو تقضي ذكره أو بعد منزلته، والتنوين في (آيات) للتكثير والتعظيم أي أن فيما ذكر الآيات كثيرة عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته سبحانه لقوم يتفكرون في كيفية تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها إلى أن يعيد الله تعالى الخلق وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها.
أَمِ اتَّخَذُوا أي بل اتخذ قريش- فأم- منقطعة والاستفهام المقدر لإنكار اتخاذهم مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ تشفع لهم عند الله تعالى في رفع العذاب، وقيل: في أمورهم الدنيوية والأخروية، وجوز كونها متصلة بتقدير معادل كما ذكره ابن الشيخ في حواشي البيضاوي وهو تكلف لا حاجة إليه، ومعنى مِنْ دُونِ اللَّهِ من دون رضاه أو إذنه لأنه سبحانه لا يشفع عنده إلا من إذن له ممن أرضاه ومثل هذه الجمادات الخسيسة ليست مرضية ولا مأذونة ولو لم يلاحظ هذا اقتضى أن الله تعالى شفيع ولا يطلق ذلك عليه سبحانه أو التقدير أم اتخذوا آلهة سواه تعالى لتشفع لهم وهو يؤول لما ذكر قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ أي أيشفعون حال تقدير عدم ملكهم شيئا من الأشياء وعدم عقلهم إياه، وحاصله أيشفعون وهم جمادات لا تقدر ولا تعلم فالهمزة داخلة على محذوف والواو للحال والجملة حال من فاعل الفعل المحذوف. وذهب بعضهم إلى أنها للعطف على شرطية قد حذفت لدلالة لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ إلخ عليها أي أيشفعون لو كانوا يملكون شيئا ويعقلون ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون، والمعنى على الحالية أيضا كأنه قيل: أيشفعون على كل حال، وقال بعض المحققين من النحاة: إنها اعتراضية ويعني بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام متعلقا به معنى مستأنفا لفظا على طريق الالتفات كقوله:
فأنت طلاق والطلاق ألية وقوله:
ترى كل من فيها وحاشاك فانيا وقد تجيء بعد تمام الكلام
كقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»
وفي احتياج أداة الشرط في مثل هذا التركيب إلى الجواب خلاف وعلى القول بالاحتياج هو محذوف لدلالة ما قبل عليه وتحقيق الأقوال في كتب العربية.
وجوز أن يكون مدخول الهمزة المحذوف هنا الاتخاذ أي قل لهم أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى ولا يعقلون قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لعله كما قال الإمام رد لما يجيبون به وهو أن الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم، والمعنى أنه تعالى مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع مرتضى والشفيع مأذونا له وكلاهما مفقودان هاهنا، وقد يستدل بهذه الآية على وجود الشفاعة في الجملة يوم القيامة لأن الملك أن الاختصاص الذي هو مفاد اللام هنا يقتضي الوجود فالاستدلال بها على نفي الشفاعة مطلقا في غاية الضعف.
وقوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استئناف تعليلي لكون الشفاعة جميعا له عزّ وجلّ كأنه قيل: له ذلك لأنه جل وعلا مالك الملك كله فلا يتصرف أحد بشيء منه بدون إذنه ورضاه فالسماوات والأرض كناية عن كل ما سواه سبحانه، وقوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عطف على قوله تعالى: لَهُ مُلْكُ إلخ وكأنه تنصيص على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة وإيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه عزّ وجلّ.
وجوز أن يكون عطفا على قوله تعالى: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ وجعله في البحر تهديدا لهم كأنه قيل: ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم ويخيب سعيكم في عبادتهم، وتقديم إِلَيْهِ للفاصلة وللدلالة على الحصر إذ المعنى إليه تعالى لا إلى أحد غيره سبحانه لا استقلالا ولا اشتراكا ترجعون وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي مفردا بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم، وقيل: أي إذا قيل لا إله إلا الله اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي انقبضت ونفرت كما في قوله تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء: ٧٦] وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فرادى أو مع ذكر الله عزّ وجلّ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى، وقد بولغ في بيان حالهم القبيحة حيث بين الغاية فيهما فإن الاستبشار أن يمتلىء القلب سرورا حتى ينبسط له بشرة الوجه، والاشمئزاز أن يمتلىء غيظا وغما ينقبض عنه أديم الوجه كما يشاهد في وجه العابس المحزون، وإِذا الأولى شرطية محلها النصب على الظرفية وعاملها الجواب عند الأكثرين وهو اشْمَأَزَّتْ أو الفعل الذي يليها وهو ذُكِرَ عند أبي حيان وجماعة، وليست مضافة إلى الجملة التي تليها عندهم، وكذا إِذا الثانية فالعامل فيها إما ذُكِرَ بعدها وإما يَسْتَبْشِرُونَ وإِذا الثالثة فجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط كالفاء، فعلى القول بحرفيتها لا يعمل فيها شيء وعلى القول باسميتها وأنها ظرف زمان أو مكان عاملها هنا خبر المبتدأ بعدها، وقال الزمخشري: عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة تقديره فاجاؤوا وقت الاستبشار فهي مفعول به، وجوز أن تكون فاعلا على معنى فاجأهم وقت الاستبشار، وهذا الفعل المقدر هو جواب إذا الثانية فتتعلق به بناء على قول الأكثرين من أن العامل في إذا جوابها، ولا يلزم تعلق ظرفين بعامل واحد لأن الثاني منهما ليس منصوبا على الظرفية.
نعم قيل على الزمخشري: إنه لا سلف له فيما ذهب إليه، وأنت تعلم أن الرجل في العربية لا يقلد غيره، ومن العجيب قول الحوفي إن إِذا الثالثة ظرفية جيء بها تكرارا لإذا قبلها وتوكيدا وقد حذف شرطها والتقدير إذا كان ذلك هم يستبشرون، ولا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، والآية في شأن المشركين مطلقا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه فسر الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بأبي جهل بن هشام والوليد بن عقبة وصفوان وأبيّ بن خلف، وفسر الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ باللات والعزى وكأن ذلك تنصيص على بعض أفراد العام. وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن الآية حكت ما كان من المشركين يوم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ [النجم: ١] عند باب الكعبة: وهذا أيضا لا ينافي العموم كما لا يخفى، وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون