
ثم بين أن فيما قصه القرآن عليهم من الأمثال والمواعظ عبرة لهم لو كانوا يعقلون فقال:
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين بالله أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا، ليتعظوا ويزدجروا ويقلعوا عما هم عليه مقيمون من الكفر بربهم، بكلام عربى لا لبس فيه ولا اختلاف، ليفهموا ما فيه من مواعظ، ويعتبروا بما فيه من حكم، فيتقوا ما حذّرهم فيه من بأسه وسطوته، وينيبوا إليه ويفردوه بالعبادة، ويتبرءوا من الآلهة والأنداد.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
تفسير المفردات
ضرب المثل: تشبيه حال عجيبة بأخرى وجعلها مثلا لها، متشاكسون: أي مختلفون يتنازعون لسوء طباعهم وشكاسة أخلاقهم، سلما لرجل: أي خالصا لسيد واحد، والميت (بالتشديد) من لم يمت وسيموت، والميت (بالتخفيف) من قد مات وفارقته الروح، قال الخليل أنشد أبو عمرو:
وتسألنى تفسير ميت وميّت | فدونك قد فسرت إن كنت تعقل |
فمن كان ذا روح فذلك ميّت | وما الميت إلا من إلى القبر يحمل |

المعنى الجملي
بعد أن ذكر الحكمة في ضرب الأمثال للناس، وهى أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم، ويرعووا عن غيهم وضلالهم- أردفه ذكر مثل يرشد إلى فساد مذهب المشركين وقبح طريقتهم ووضوح بطلانها، ثم أعقبه ببيان أن الناس جميعا سيموتون ثم يعرضون على ربهم، وهناك يستبين المحق والمبطل، والضال والمهتدى.
فلا داعى إلى الجدل والخلاف بينك وبينهم.
الإيضاح
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟) أي ضرب الله مثلا لقومك وقال لهم: ماذا تقولون في عبد مملوك قد امتلكه شركاء، بينهم اختلاف وتنازع فهم يتجاذبونه في حاجهم وهو خائر في أمره إذا هو أرضى أحدهم أغضب الباقين، وإذا احتاج إليهم في مهمّ رده كل منهم إلى الآخرين، فهو في عذاب دائم وتعب مقيم، ومملوك آخر له مخدوم واحد يخدمه مخلصا وهو يعينه على مهماته، ويقضى له سائر حاجاته، فأىّ العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا؟
- الجواب لا يحتاج إلى بيان- هكذا حال المشرك الذي يعبد آلهة شتى يبقى ضالّا حائرا لا يدرى أىّ تلك الآلهة يعبد؟ ولا على أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفده؟ أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلّفه، عارف ما يرضيه وما يسخطه- لا شك أن البون بين حاليهما شاسع.
وقوله (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا) أي هل تستوى صفتاهما وحالاهما؟
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي بعد أن بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد، وثبت أن لا إله إلا هو- ثبت أن الحمد لله لا لغيره.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر الناس لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره فيشركوا به سواه.

ولما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل، أخبر سبحانه بأن مصير الجميع إلى الله، وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحكم العدل، وهناك يتميز المحق من المبطل قال:
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي إنك ستموت وهم سيموتون، ثم تختصمون عند ربكم، فتحتجّ أنت عليهم بأنك قد بلّغت فكذّبوا، ويعتذرون هم بما لا طائل تحته، وبما لا يدفع عنهم لوما ولا تقريعا، ويقول التابعون للرؤساء: أطعناكم فأضللتمونا، ويقول السادة: أغوانا الشيطان وآباؤنا الأولون.
عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» رواه البخاري.
وعن أبى هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
إن المفلس من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتى قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» أخرجه مسلم.
وعن أبى سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفّقنا لما فيه رضاك.
تم هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثلاث بقين من ذى القعدة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث ٥ جمع الناس للحساب والجزاء ٦ البعث ممكن وليس بمستحيل ١٠ القرآن يدل على أن جميع الكواكب سائرة ١٣ لكل من الشمس والقمر مدار يسبح فيه ١٥ السفن البرية والسفن الهوائية ١٩ تأتى الساعة بغتة والناس لا يشعرون ٢٠ خروج الخلق من الأجداث ٢٢ ما يتمتع به أهل الجنة من مآكل ومشارب ٢٣ شهادة الأيدى والأرجل على المجرمين يوم القيامة ٣٠ ما ينبغى للرسول أن يكون شاعرا ٣٢ عاقبة من أعرض عن النظر في آيات ربه ٣٤ تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه ٣٦ دليل القدرة في الأنفس والآفاق ٣٩ تنزيهه سبحانه عما لا يليق به ٤٢ قسمه تعالى بملائكته بأن الإله واحد ٤٤ الدنيا بيت فرشه الأرض وسقفه السماء ٤٥ الدليل على الحشر والنشر وقيام الساعة

الصفحة المبحث ٤٧ مقالتهم في القرآن ٤٩ يحشر الظالمون مع من على شاكلتهم في المعاصي ٥١ يوم القيامة يتخاصم الأتباع والرؤساء من أهل الضلال ٥٦ وصف خمور الجنة ٥٩ سمر أهل الجنة في الجنة ٦٠ اغتباط المؤمنين بما آتاهم ربهم من النعيم ٦٣ وصف شجرة الزقوم ٦٤ تقليد الأبناء للآباء ٦٥ تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن قومهم ليسوا ببدع في الأمم ٦٨ تقريع إبراهيم لقومه على عبادة الأصنام ٧١ عدول قومه عن الحجاج إلى استعمال القوة ٧٣ طاعة إسماعيل لأبيه في ذبحه تنفيذا للرؤيا ٧٦ الذبيح إسحاق أم إسماعيل؟
٧٨ نعم الله على موسى وهارون ٨١ قصص لوط عليه السلام ٨٢ قصص يونس عليه السلام ٨٤ توبيخ المشركين على نسبة البنات إليه سبحانه ٩٣ مجمل ما حوته هذه السورة ٩٤ سورة ص ٩٦ عجب المشركين من قول الرسول: إن الإله واحد ٩٨ الأسباب التي تمنع في زعمهم أن يكون محمد نبيا ١٠٤ قصص داود عليه السلام

١٠٧ قضية من قضايا داود التي حكم فيها ١١٠ الرد على المفسرين فيما قالوه في قصص داود ١١٤ الحكمة في خلق هذا الكون ١١٥ ليس من العدل مساواة البرّ بالفاجر في الجزاء ١١٧ عرض سليمان للصافنات الجياد والحكمة في ذلك ١١٩ تسخير الريح لسليمان عليه السلام ١٢٣ داء أيوب عليه السلام ودواؤه ورفض ما قيل في ذلك نقلا عن اليهود ١٣٠ وصف نعيم المتقين في مآكلهم ومشاربهم ١٣٣ محاورة بين رؤساء الضلال وأتباعهم ١٣٥ الرسول منذر لا مسيطر ١٣٦ الأدلة التي ترشد إلى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ١٤١ اعتذار المشركين على عبادة الأصنام ١٥٠ تهديد المشركين على أفعالهم القبيحة ١٥٢ أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم أن ينصح المؤمنين بنصائح ١٥٣ للصابرين أجرهم بغير حساب ١٥٦ بشرى من يسمعون القول فيتبعون أحسنه ١٥٨ صفات الدنيا الموجبة للنفرة منها ١٥٩ وجوب الإقبال على طاعة الله ١٦٠ ضرب القرآن الأمثال للناس ١٦٤ أصيب الأمم الماضية بضروب من العذاب في الدنيا قبل الآخرة
صفحة رقم 168
الجزء الرابع والعشرون
[تتمة سورة الزمر]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الرابع والعشرون