آيات من القرآن الكريم

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ

سبحانه بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وإنما هو من الشيطان، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير: قال الصعقة من الشيطان، وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ عليهم القرآن كله فإن رمى بنفسه فهو صادق، فهذه أخبار ناعية على بعض المتصوفة صعقهم وتواجدهم وضرب رؤوسهم الأرض عند سماع القرآن ويقول مشايخهم: إن ذلك لضعف القلوب عن تحمل الوارد وليس فاعلو ذلك في الكمال كالصحابة أهل الصدر الأول في قوة التحمل فما هو إلا دليل النقص بدليل أن السالك إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك ويقولون: ليس في الآية أكثر من إثبات الاقشعرار واللين وليس فيها نفي أن يعتريهم حال آخر بل في الآية إشعار بأن المذكور حال الراسخين الكاملين حيث قال سبحانه:
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية حتى يعلموا بها فلا يلزم من كون حالهم ما ذكر ليس إلا على فرض دلالتها على الحصر كون حال غيرهم كذلك ثم إنه متى كان الأمر ضروريا كالعطاس لا اعتراض على من يتصف به، وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك، وهذا غاية ما يقال في هذا المجال ونحن نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا بما تفضل به على أصحاب نبيه ﷺ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ الإشارة إلى الكتاب الذي شرح أحواله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أي من يشاء الله تعالى هدايته بأن يوفقه سبحانه للتأمل فيما في تضاعيفه من شواهد الحقية ودلائل كونه من عنده عزّ وجلّ، وجوز أن يكون ضمير يَشاءُ لمن والمعنى يهدي به الله تعالى من يشاء هداية الله تعالى وليس بذاك.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي يخلق سبحانه فيه الضلال لإعراضه عما يرشده إلى الحق بسوء استعداده فَما لَهُ مِنْ هادٍ يخلصه من ورطة الضلال، وقيل: الإشارة بذلك إلى المذكور من الاقشعرار واللين والمعنى ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه تعالى يهدي بذلك الأثر من يشاء من عباده ومن يضلله أي ومن لم يؤثر فيه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره فما له من هاد أي من مؤثر فيه بشيء قط وهو كما ترى.
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تباين حال المهتدي والضال، والكلام في الهمزة والفاء والخبر كالذي مر في نظائره، ويقال هنا على أحد القولين: التقدير أكلّ الناس سواء فمن شأنه أن يتقي بوجهه الذي هو أشرف أعضائه يوم القيامة العذاب السيء الشديد لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه فالوجه على حقيقته وقد يحمل على ذلك من غير حاجة إلى حديث كون اليد مغلولة تصويرا لكمال اتقائه وجده فيه وهو أبلغ، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر:

صفحة رقم 249

يلقى السيوف بوجهه وبنحره ويقيم هامته مقام المغفر
وجوز أن يكون الوجه بمعنى الجملة والمبالغة عليه دون المبالغة فيما قبله. وقيل الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به الاتقاء بالوجه لا وجه له لأنه مما لا يتقى به، ولا يخلو عن خدش، وإضافة سوء إلى العذاب من إضافة الصفة إلى الموصوف ويَوْمَ الْقِيامَةِ معمول يتقي كما أشرنا إلى ذلك. وجوز أن يكون من تتمة سوء العذاب، والمعنى أفمن يتقي عذاب يوم القيامة كالمصر على كفره، وهو وجه حسن والوجه حينئذ كما في الوجه السابق إما الجملة مبالغة في تقواه وإما على الحقيقة تصويرا لكمال تقواه وجده فيها وهو أبلغ. والمتبادر إلى الذهن المعنى السابق، والآية قيل نزلت في أبي جهل وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ عطف على يتقي أي ويقال لهم من جهة خزنة النار، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق والتقرر وقيل الواو للحال والجملة حال من ضمير يَتَّقِي بإضمار قد أو بدونه، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعلة الأمر في قوله تعالى: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي وبال ما كنتم تكسبون في الدنيا على الدوام من الكفر والمعاصي.
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي أي كذب الذين من قبلهم من الأمم السالفة فَأَتاهُمُ الْعَذابُ المقدر لكل أمة منهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم إتيانه منها لأن ذلك أشد على النفس فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي الذل والصغار فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء وغير ذلك من فنون النكال، والفاء تفسيرية مثلها في قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ [الأنبياء: ٧٦] وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم أَكْبَرُ لشدته وسرمديته لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كانوا من شأنهم أن يعلموا شيئا لعلموا ذلك واعتبروا به وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ العظيم الشأن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر أمور دينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي كي يتذكروا ويتعظوا أو مرجوا تذكرهم واتعاظهم، والرجاء بالنسبة إلى غيره تعالى والتعليل أظهر قُرْآناً عَرَبِيًّا حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة أعني عربيا وإلا فقرآنا جامدا لا يصلح للحالية وهو أيضا عين ذي الحال فلا يظهر حاله فالحال في الحقيقة عَرَبِيًّا وقرآنا للتمهيد ونظيره جاء زيد رجلا صالحا، قيل وذلك بمنزلة عربيا محققا.
وجوز أن يكون منصوبا بمقدر تقديره أعني أو أخص أو أمدح ونحوه، وأن يكون مفعول يَتَذَكَّرُونَ وهو كما ترى غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اختلال فيه بوجه من الوجوه وهو أبلغ من مستقيم لأن عوجا نكرة وقعت في سياق النفي لما في غير من معناه، والاستقامة يجوز أن تكون من وجه دون وجه ونفي مصاحبة العوج عنه يقتضي نفي اتصافه به بالطريق الأولى فهو أبلغ من غير معوج، والعوج بالكسر يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة والعوج بالفتح يقال فيما يدرك بالحس، وعبر بالأول ليدل على أنه بلغ إلى حد لا يدرك العقل فيه عوجا فضلا عن الحس، وتمام الكلام مر في الكهف. وقيل المراد بالعوج الشك واللبس، وروي ذلك عن مجاهد وأنشدوا قول الشاعر:
وقد أتاك يقين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب
ولا استدلال به على أن العوج بمعنى الشك لأن عوج اليقين هو الشك لا محالة، والقول في وجه الاستدلال أن الشاعر فهم هذا المعنى من الآية لأنه اقتباس وإذا فهمه الفصيح مع صحة التجوز كان محملا تعسف ظاهر لأنه لم يتبين أنه اقتبسه منها ولو سلم يكون محتملا لما يحتمله العوج في النظم الذي لا عوج فيه، وقد يقال: مراد من قال أي

صفحة رقم 250

لا لبس فيه ولا شك نفي بعض أنواع الاختلال، وعلى ذلك ما روي عن عثمان بن عفان من أنه قال: أي غير مضطرب ولا متناقض وما قيل أي غير ذي لحن.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال: غير ذي عوج غير مخلوق
ولعله إن صح الخبر تفسير باللازم فتأمل. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ علة أخرى مترتبة على الأولى.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ إيراد لمثل من الأمثال القرآنية بعد بيان أن الحكمة في ضربها هو التذكر والاتعاظ بها وتحصيل التقوى، والمراد بضرب المثل هاهنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها وجعلها مثلها، ومَثَلًا مفعول ثان لضرب ورَجُلًا مفعوله الأول أخر عن الثاني للتشويق إليه وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل أو مَثَلًا مفعول ضرب ورَجُلًا إلخ بدل منه بدل كل من كل.
وقال الكسائي: انتصب رَجُلًا على إسقاط الخافض أي مثلا في رجل وقيل غير ذلك وقد تقدم الكلام في نظيره.
وفِيهِ خبر مقدم وشُرَكاءُ مبتدأ ومُتَشاكِسُونَ صفته والنكرة وإن وصفت يحسن تقديم خبرها.
والجملة صفة رَجُلًا والرابط الهاء أو الجار والمجرور في موضع الصفة له وشُرَكاءُ مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على الموصوف، وقيل فِيهِ صلة شركاء وهو مبتدأ خبره متشاكسون، وفيه أنه ليس لتقديمه نكتة ظاهرة.
والمعنى ضرب الله تعالى مثلا للمشرك حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل من معبودية عبوديته عبدا يتشارك فيه جماعة متشاجرون لشكاسة أخلاقهم وسوء طبائعهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحيره وتوزع قلبه وَرَجُلًا أي وضرب للموحد مثلا رجلا سَلَماً أي خالصا لِرَجُلٍ فرد ليس لغيره سبيل إليه أصلا فهو في راحة عن التحير وتوزع القلب وضرب الرجل مثلا لأنه أفطن لما شقي به أو سعد فإن الصبي والمرأة قد يغفلان عن ذلك.
وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والزهري والحسن بخلاف عنه والجحدري وابن كثير وأبو عمرو «سالما» اسم فاعل من سلم أي خالصا له من الشركة. وقرأ ابن جبير «سلما» بكسر السين وسكون اللام، وقرىء «سلما» بفتح فسكون وهما مصدران وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة.
وقرىء «ورجل سالم» برفعهما أي وهناك رجل سالم، وجوز أن لا يقدر شيء ويكون رجل مبتدأ وسالم خبره لأنه موضع تفصيل إذ قد تقدم ما يدل عليه فيكون كقول امرئ القيس:

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول
وقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا انكار واستبعاد لاستوائهما ونفي له على أبلغ وجه وآكده وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما أو يتلعثم في الحكم بتباينهما ضرورة أن أحدهما في لوم وعناء والآخر في راحة بال ورضاء، وقيل ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين والآخر في أسفل سافلين، وأيا ما كان فالسر في إبهام الفاضل والمفضول الإشارة إلى كمال الظهور عند من له أدنى شعور.
وانتصاب مَثَلًا على التمييز المحول عن الفاعل إذ التقدير هل يستوي مثلهما وحالهما، والاقتصار في التمييز على الواحد لبيان الجنس والاقتصار عليه أولا في قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا وقرىء «مثلين» أي هل يستوي مثلاهما وحالاهما، وثني مع أن المقصود من التمييز حاصل بالإفراد من غير لبس لقصد الإشعار بمعنى زائد وهو اختلاف النوع، وجوز أن يكون ضمير يستويان للمثلين لأن التقدير فيما سبق مثل رجل ومثل رجل أي هل يستوي المثلان مثلين وهو على نحو كفى بهما رجلين وهو من باب- لله تعالى دره فارسا- ويرجع ذلك إلى هل يستويان

صفحة رقم 251

رجلين فيما ضرب من المثال ولما كان المثل بمعنى الصفة العجيبة التي هي كالمثل كان المعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية، وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى وأنها نعمة جليلة تقتضي الدوام على حمده تعالى وعبادته أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء صنع جميل ولطف تام منه عزّ وجلّ مستوجب لحمده تعالى وعبادته، وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره أو ليسوا من ذوي العلم فلا يعلمون ذلك فيبقون في ورطة الشرك والضلال، وقيل المراد أنهم لا يعلمون أن الكل منه تعالى وأن المحامد إنما هي له عزّ وجلّ فيشركون به غيره سبحانه فالكلام من تتمة الْحَمْدُ لِلَّهِ ولا اعتراض، ولا يخفى أن بناء الكلام على الاعتراض كما سمعت أولى، وقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة. وفي البحر أنه لما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل أخبر سبحانه بأن مصير الجميع بالموت إلى الله تعالى وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو عزّ وجلّ الحكم العدل فيتميز هناك المحق والمبطل.
وقال بعض الأجلة: إنه لما ذكرت من أول السورة إلى هنا البراهين القاطعة لعرق الشركة المسجلة لفرط جهل المشركين وعدم رجوعهم مع جهده ﷺ في ردهم إلى الحق وحرصه على هدايتهم اتجه السؤال منه عليه الصلاة والسلام بعد ما قاساه منهم بأن يقول ما حالي وحالهم؟ فأجيب بأنك ميت وأنهم ميتون الآية.
وقرأ ابن الزبير وابن أبي إسحاق وابن محيصن وعيسى واليماني وابن أبي غوث وابن أبي عبلة «إنك مائت وإنهم مائتون» والفرق بين ميت ومائت أن الأول صفة مشبهة وهي تدل على الثبوت ففيها إشعار بأن حياتهم عين الموت وأن الموت طوق في العنق لازم والثاني اسم فاعل وهو يدل على الحدوث فلا يفيد هنا مع القرينة أكثر من أنهم سيحدث لهم الموت، وضمير الخطاب على ما سمعت للرسول ﷺ قال أبو حيان: ويدخل معه عليه الصلاة والسلام مؤمنو أمته، وضمير الجمع الغائب للكفار وتأكيد الجملة في إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ للإشعار بأنهم في غفلة عظيمة كأنهم ينكرون الموت وتأكيد الأولى دفعا لاستبعاد موته عليه الصلاة والسلام، وقيل للمشاكلة، وقيل إن الموت مما تكرهه النفوس وتكره سماع خبره طبعا فكان مظنة أن لا يلتفت إلى الإخبار به أو أن ينكر وقوعه ولو مكابرة فأكد الحكم بوقوعه لذلك ولا يضر في ذلك عدم الكراهة في بعض لخصوصية فيه كسيد العالمين ﷺ ثُمَّ إِنَّكُمْ على تغليب المخاطب على الغيب.
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي مالك أموركم تَخْتَصِمُونَ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات واجتهدت في دعوتهم إلى الحق حق الاجتهاد وهم قد لجوا في المكابرة والعناد ويعتذرون بالأباطيل مثل أَطَعْنا سادَتَنا [الأحزاب: ٦٧] ووَجَدْنا آباءَنا [الأنبياء: ٥٣، الشعراء: ٧٤] وغَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا [المؤمنون: ١٠٦] والجمع بين يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ لزيادة التهويل ببيان أن اختصامهم ذلك في يوم عظيم عند مالك لأمورهم نافذ حكمه فيهم ولو اكتفى بالأول لاحتمل وقوع الاختصام فيما بينهم بدون مرافعة وبمرافعة لكن ليست لدى مالك لأمورهم، والاكتفاء بالثاني على تسليم فهم كون ذلك يوم القيامة معه بدون احتمال لا يقوم مقام ذكرهما لما في التصريح بما هو كالعلم من التهويل ما فيه، وقال جمع: المراد بذلك الاختصام العام فيما جرى في الدنيا بين الأنام لا خصوص الاختصام بينه عليه الصلاة والسلام وبين الكفرة الطغام، وفي الآثار ما يأبى الخصوص المذكور.

صفحة رقم 252

أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن عساكر عن إبراهيم النخعي قال: نزلت هذه الآية إِنَّكَ مَيِّتٌ إلخ فقالوا: وما خصومتنا ونحن إخوان فلما قتل عثمان بن عفان قالوا هذه خصومة ما بيننا وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ كنا نقول: ربنا واحد وديننا واحد فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا.
وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مروديه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:
لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبل إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها نزلت فينا، وفي رواية أخرى عنه بلفظ نزلت علينا الآية ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ وما ندري فيم نزلت قلنا: ليس بيننا خصومة فما التخاصم حتى وقعت الفتنة فقلت: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه.
وأخرج أحمد وعبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وصححه. وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قلت: يا رسول الله أينكر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب قال: نعم ينكر ذلك عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه قال الزبير: فو الله إن الأمر لشديد.
وزعم الزمخشري أن الوجه الذي يدل عليه كلام الله تعالى هو ما ذكر أولا واستشهد بقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ إلخ وبقوله سبحانه: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ إلخ لدلالتهما على أنهما اللذان تكون الخصومة بينهما، وكذلك ما سبق من قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا إلخ. وتعقب ذلك في الكشف فقال: أقول قد نقل عن جلة الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنهم فهموا الوجه الثاني أي العموم بل ظاهر قول النخعي قالت الصحابة: ما خصومتنا ونحن إخوان يدل على أنه قول الكل فالوجه إيثار ذلك.
وتحقيقه أن قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ كلام مع الأمة كلهم موحدهم ومشركهم وكذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا ورجلا بل أكثرهم دون بل هم كالنص على ذلك فإذا قيل: إنك ميت وجب أن يكون على نحو يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطلاق: ١] أي إنكم أيها النبي والمؤمنون وأبهم ليعم القبيلين ولا يتنافر النظم فقد روعي من مفتتح السورة إلى هذا المقام التقابل بين الفريقين لا بينه عليه الصلاة والسلام وحده وبين الكفار ثم إذا قيل: ثُمَّ إِنَّكُمْ على التغليب يكون تغليبا للمخاطبين على جميع الناس فهذا من حيث اللفظ والمساق الظاهر ثم إذا كان الموت أمرا عمه والناس جميعا كان المعنى عليه أيضا، وأما حديث الاختصام والطباق الذي ذكره فليس بشيء لأنه لعمومه يشمله شمولا أوليا كما حقق هذا المعنى مرارا. والتعقيب بقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ التنبيه على أنه مصب الغرض وأن المقصود التسلق إلى تلك الخصومة، ولا أنكر أن قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ يدل على أن الاختصام يوم القيامة ولكن أنكر أن يختص باختصام النبي ﷺ وحده والمشركين بل يتناوله أولا وكذلك اختصام المؤمنين والمشركين واختصام المؤمنين بعضهم مع بعض كاختصام عثمان رضي الله تعالى عنه يوم القيامة وقاتليه، وهذا ما ذهب إليه هؤلاء وهم هم رضي الله تعالى عنهم انتهى، وكأنه عنى بقوله ولا أنكر إلخ رد ما يقال إن عِنْدَ رَبِّكُمْ يدل على أن الاختصام يوم القيامة، وقد صرح في النظم الجليل بذلك فيكون تأكيدا مشعرا بالاهتمام بأمر ذلك الاختصام فليس هو إلا اختصام حبيبه ﷺ مع أعدائه الطغام، ووجه الرد أنه ان سلم أن فائدة

صفحة رقم 253

الجمع ما ذكر فلا نسلم استدعاء ذلك لاعتبار الخصوص بل يكفي للاهتمام دخول اختصام الحبيب مع أعدائه عليه الصلاة والسلام فتأمله، ثم أنت تعلم أنه لو لم يكن في هذا المقام سوى الحديث الصحيح المرفوع لكفى في كون المراد عموم الاختصام فالحق القول بعمومه وهو أنواع شتى، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية:
يخاصم الصادق الكاذب والمظلوم الظالم والمهتدي الضال والضعيف المستكبر،
وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: «أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها يشهدان عليها بما كان لزوجها وتشهد يداه ورجلاه بما كان لها ثم يدعي الرجل وخادمه بمثل ذلك ثم يدعي أهل الأسواق وما يوجد ثم دانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلمه وسيئات هذا الذي ظلمه توضع عليه ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال أوردوهم إلى النار فو الله ما أدري يدخلونها أو كما قال الله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها
وأخرج البزار عن أنس قال: «قال رسول الله ﷺ يجاء بالأمير الجائر فتخاصمه الرعية»

وأخرج أحمد والطبراني بسند حسن عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله ﷺ أوّل خصمين يوم القيامة جاران»
ولعل الأولية إضافية لحديث أبي أيوب السابق.
وجاء عن ابن عباس اختصام الروح مع الجسد أيضا بل أخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله ﷺ ليختصمن يوم القيامة كل شيء حتى الشاتان فيما انتطحا».
«تم الجزء الثالث والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع والعشرون وأوله فَمَنْ أَظْلَمُ

صفحة رقم 254

الجزء الرابع والعشرون

صفحة رقم 255
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية