وقوله تعالى: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ.. تنبيه عظيم على فضيلة العلم وفضل العلماء.
وقوله سبحانه: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ يدل على أن إدراك التفاوت بين العلماء والجهال ومعرفته لا يكون إلا من أولي الألباب، أي العقول السليمة.
قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء؟ فأجاب العالم بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم، لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع، فلا جرم تركوه «١».
نصائح للمؤمنين في العبادة ووعدهم ووعيد عبدة الأصنام
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٠ الى ٢٠]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
الإعراب:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ حَسَنَةٌ: مبتدأ، وخبره: الجار والمجرور قبله، وفِي يتعلق ب أَحْسَنُوا إذا أريد بالحسنة: الجنة، وب حَسَنَةٌ إذا أريد بالحسنة ما يعطى للعبد في الدنيا، مما يستحب فيها، والوجه الأول أوجه، لأن الدنيا ليست بدار جزاء.
قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي اللَّهَ: منصوب ب أَعْبُدُ ومُخْلِصاً: حال من ضمير أَعْبُدُ أو من ضمير قُلِ ودِينِي مفعول مُخْلِصاً وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها أَنْ: مصدرية في موضع نصب بدل من مفعول اجْتَنَبُوا تقديره: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت. ولَهُمُ الْبُشْرى لَهُمُ: في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو الَّذِينَ والْبُشْرى مرفوع ب لَهُمُ لوقوعه خبرا للمبتدأ.
البلاغة:
فَوْقِهِمْ وتَحْتِهِمْ بينهما طباق.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ جناس اشتقاق.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أسلوب تهكمي، لأن إطلاق الظلة على النار المحرقة تهكم.
فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ.. وضع فيه الظاهر موضع ضمير الَّذِينَ اجْتَنَبُوا للدلالة على مبدأ اجتنابهم والتمييز بين الحق والباطل.
مَنْ فِي النَّارِ وضع فيه الظاهر موضع الضمير، للدلالة على أنه واقع في العذاب.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ مقابلة بين حال أهل النار وحال أهل الجنة.
أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مجاز مرسل، أطلق المسبب (دخول جهنم) وأراد السبب (الكفر والضلال)، لأن الضلال سبب لدخول النار.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ عذاب ربكم بلزوم طاعته. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة، وقيل: حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية. وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فمن تعسر عليه الإحسان بالطاعة في وطنه، فليهاجر إلى مكان يتمكن فيه من الطاعة وترك المنكرات ومخالطة الكفار. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مشاق الطاعة من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لأجل الطاعة. أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير مكيال ولا ميزان.
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء، موحدا له. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ بأن أكون. أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمة. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظمة ما فيه. قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي من الشرك، وهو أمر بالإخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصا له دينه، بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص خائفا على المخالفة من العقاب، قطعا لأطماعهم، ولذا رتب عليه قوله:
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ غيره، وهذا تهديد لهم. الْخاسِرِينَ أي الكاملين في الخسران الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ بالضلال وَأَهْلِيهِمْ بالإضلال، ونوع الخسارة: التخليد في النار وعدم الوصول إلى الجنة. الْمُبِينُ البيّن الواضح ظُلَلٌ طبقات من النار، جمع ظلّة.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ذلك العذاب هو الذي يخوف به عباده المؤمنين ليتقوه، بدليل نهاية الآية: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ.
الطَّاغُوتَ البالغ غاية الطغيان، فهو مشتق من الطغيان للمبالغة، والتاء فيه مزيدة للتأكيد مثل رحموت وملكوت (واسع الرحمة والملك) والطاغوت: كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها. أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال من الطاغوت. وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أقبلوا ورجعوا.
لَهُمُ الْبُشْرى بالجنة والثواب. هَداهُمُ اللَّهُ لدينه. أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟ حَقَّ ثبت ووجب، وتُنْقِذُ تخرج، والهمزة للإنكار، والكلام جملة شرطية معطوفة على محذوف، دل عليه الكلام تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب، فأنت تنقذه. والمعنى: لا تقدر على هدايته، فتنقذه من النار.
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن أطاعوه. غُرَفٌ جمع غرفة وهي الحجرة. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت تلك الغرف. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد، منصوب بفعله المقدر، لأن
قوله: لَهُمْ غُرَفٌ في معنى الوعد. لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ الوعد، لأن الخلف نقص، وهو على الله تعالى محال.
سبب النزول:
نزول الآية (١٧- ١٨) :
فَبَشِّرْ عِبادِ:
أخرج جويبر عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ الآية، أتى رجل من الأنصار النبي ص، فقال: يا رسول الله، إني لي سبعة مماليك، وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكا، فنزلت فيه الآية:
فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
نزول الآية (١٧) :
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ: أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر، كانوا في الجاهلية يقولون: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ:
زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.
المناسبة:
بعد نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم، أمر الله تعالى رسوله ص بأن ينصح المؤمنين بجملة نصائح تتضمن الأمر بالتقوى والاستمرار بالطاعة، والأمر بإخلاص الدين لله في العبادة، حتى تكون خالية من الشرك والرياء، والتحذير من خسارة النفس والأهل لئلا يصلوا نار جهنم، ثم ذكر الله تعالى تهديده ووعيده لعبدة الأصنام، وأردفه بوعد المبتعدين عن عبادتها وعن كل ألوان الشرك، ليقترن الوعد بالوعيد، والترهيب بالترغيب، كما هي عادة القرآن.
التفسير والبيان:
قُلْ: يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا، اتَّقُوا رَبَّكُمْ قل أيها الرسول: يا عباد الله
الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا، اتقوا عذاب ربكم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والاستمرار على طاعته وتقواه.
وعلة الأمر:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في الدنيا وهي الصحة والعافية والظفر والغنيمة والعزة والسلطان، وفي الآخرة وهي الجنة والمثوبة الطيبة الجزيلة. وتنكير حَسَنَةٌ للتعظيم للدلالة على كمالها.
ثم رغبهم في الهجرة للتمكن من التقوى والطاعة، فقال:
وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ أي إذا لم تتمكنوا من التقوى في بلد، فهاجروا إلى حيث تمكن طاعة الله، والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، وجاهدوا، واعتزلوا الأوثان ومستنقعات الكفر، أسوة بالأنبياء والصالحين، كما قال تعالى:
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء ٤/ ٩٧].
ثم ذكر أجرهم على الهجرة والصبر على مفارقة الأوطان، فقال:
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي إنما يوفيهم الله أجرهم في الجنة في مقابلة صبرهم على الهجرة وترك الأوطان بغير حساب، أي بغير كيل ولا وزن، وبما لا يقدر على حصره وحسبانه حاصر وحاسب.
وهذا دليل على أن مجرد الإيمان بالقلب أو إعلان الإسلام دون تقوى ولا عمل بأوامر الله واجتناب نواهيه لا يكفي إطلاقا.
ثم ضم تعالى إلى الأمر بالتقوى الأمر بالإخلاص في العبادة والطاعة، فقال:
قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده، إخلاصا خاليا من الشرك والرياء وغير ذلك. وهذا وإن كان
أمرا للرسول ص، فهو لوم على عبادة الأوثان، من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة».
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي وأمرت بأن أكون أول المسلمين من هذه الأمة في مخالفة دين الآباء الوثنيين، وتوحيد الله، وأول من انقاد لله تعالى من أهل العصر أو القوم، لأنه أول من خالف عبّاد الأصنام.
قُلْ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي قل لهؤلاء المشركين عبدة الأوثان: إني أخشى إن عصيت ربي بترك إخلاص العبادة له وتوحيده، وترك الدعوة المعادية للشرك وتضليل أهله عذاب يوم شديد الهول، وهو يوم القيامة. وهذا تعريض بهم بطريق الأولى والأحرى.
ثم أكد الأمر بالإخلاص في الطاعة للدلالة على أنه يعبد الله وحده، ولترسيخ المعنى في الأذهان، فقال: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين مرة أخرى: أمرني ربي أن أعبده وحده لا شريك له «١»، وأن يكون تعبّدي خالصا لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما، فلا أعبد غيره، لا استقلالا، ولا على جهة الشركة.
ثم هددهم وأوعدهم قائلا:
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ أي اعبدوا ما أردتم أن تعبدوه من غير الله، من الأوثان والأصنام، فسوف تجازون بعملكم، وهذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ والتبرؤ منهم.
ثم حذرهم من عاقبة الخسران يوم القيامة قائلا:
قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي قل لهم أيها الرسول: إنما الخاسرون كل الخسران هم الذين خسروا أنفسهم بالضلال والشرك والمعاصي، وخسروا أتباعهم من الأهل حيث أضلوهم وأوقعوهم في العذاب الدائم يوم القيامة، وهذا هو الخسران البيّن الظاهر الواضح، فلا خسران أعظم منه، إذ لا مجال لتعويض الخسارة.
ثم وصف حالهم في النار لبيان نوع الخسران فقال:
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي لهم أطباق متراكمة من النار الملتهبة عليهم، من فوقهم ومن تحتهم، أي أن النار محيطة بهم من كل جانب، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف ٧/ ٤١] وقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٥٥].
وسمى ما تحتهم ظللا، لأنها تظلل من تحتها من أهل النار، ففي كل طبقة من طبقات النار طائفة من طوائف الكفار.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ، يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أي ذلك العذاب الشديد الذي يخبر به الله خبرا كائنا لا محالة ليرهب به عباده، لينزجروا عن المعاصي والمآثم والمحارم، فيا عبادي اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي. وهذا التحذير والتنبيه نعمة عظمي صادرة من فيض رحمة الله وفضله، حتى لا يفاجأ الناس بالعذاب، ومن أنذر فقد أعذر.
وبعد إيراد هذا الوعيد لعبدة الأصنام، ذكر الله تعالى وعده لمن اجتنب عبادتها، فقال:
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ، لَهُمُ الْبُشْرى أي والذين أعرضوا عن عبادة الأصنام والشيطان، وأقبلوا على عبادة الله معرضين عما سواه، لهم البشارة العظمى بالثواب الجزيل، وهو الجنة، إما على ألسنة الرسل، أو حين الموت أو عند البعث. وهي بشارة شاملة لمن نزلت الآية في حقهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والآية كقوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[يونس ١٠/ ٦٤].
والطاغوت «١» : يطلق على الواحد والجمع، ويشمل عبادة الأوثان والشيطان، لأن الشيطان هو الآمر بتلك العبادة والمزيّن لها، فهو سبب الكفر والعصيان.
فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي بشر بالجنة أيها الرسول عبادي المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، والذين يستمعون القول الحق، من كتاب الله وسنة رسوله، فيفهمونه، فيتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملون بما فيه، كما قال تعالى لموسى عليه السلام: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الأعراف ٧/ ١٤٥].
وهذا مدح لهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل.
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة هم الذين وفقهم للصواب في الدنيا والآخرة، وهم ذوو العقول الصحيحة والفطر المستقيمة.
ثم بيّن تعالى أضداد المذكورين قائلا:
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي أأنت مالك أمر الناس، فمن وجب عليه العذاب لإعراضه وعناده، فأنت تخلصه من النار؟
والمعنى: إنك لا تقدر على هدايته، فتنقذه من عذاب النار. والآية تسلية لرسول الله ص، لأنه كان حريصا على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من كان من أهل الضلالة والهلاك، لا تستطيع هدايته.
ثم أعاد الله تعالى الإخبار عن جزاء المتقين السعداء للحض على التقوى، فقال:
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ أي لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لهم في الجنة غرف مبنية محكمة البناء، وهي القصور الشاهقة ذات الطبقات المزخرفات العالية، لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، والنار دركات بعضها تحت بعض، والجنة تجري فيها من تحت تلك الغرف أنهار عذبة الماء، وفي ذلك كمال بهجتها وزيادة رونقها، ثم أكد تعالى حسن هذا الجزاء، فأخبر أنه وعد من الله وعده للمتقين المؤمنين، ووعد الله حق ثابت، لا ينقض ولا يخلف.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أمر الله المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى: وهي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، مما يدل على أن الإيمان وحده لا يكفي، كما يدل على أن الإيمان يبقى مع المعصية.
٢- للتقوى فوائد جلّى، فللمتقين حسنة في الدنيا من صحة وعافية ونصر
وسلطان وجاه وغنى، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير الدائم.
٣- لا عذر للمقصرين في الإحسان والطاعة، فمن صد عن طاعة الله في بلد، فعليه المهاجرة إلى بلد آخر يتمكن فيه من الاشتغال بالطاعات والعبادات، اقتداء بالأنبياء والصالحين في هجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.
والمقصود من الآية وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ الترغيب في الهجرة من مكة حيث كانت واجبة في صدر الإسلام، والصبر على مفارقة الأوطان.
٤- الصبر: هو الرضا بمفارقة الأوطان والأهل، واحتمال البلايا وفجائع الدنيا في طاعة الله تعالى. وثواب الصبر مفتوح غير مقيد بحدود، فكل من رضي بما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجره. وهذا يشابه ثواب الصوم،
لقوله ص عن ربه فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «الصوم لي وأنا أجزي به».
عن الحسين رضي الله عنهما قال: سمعت جدي رسول الله ص يقول: «أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا» ثم تلا النبي ص:
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
قال النحاس: لفظ صابر يمدح به، وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت: صابر على كذا.
ثم إن الأجر على الصبر إنما هو بحسب الوعد من الله، لا بحسب الاستحقاق.
٥- أمر الله تعالى رسوله ص مرتين في هذه الآيات للتأكيد بإخلاص
العبادة والطاعة لله وحده لا شريك له، دون أن تكون مشوبة بشائبة الشرك أو الرياء أو غير ذلك. وأمة الرسول ص من بعده مأمورة بذلك، لأن أمر الرسول ص أمر للأمة، والبدء به تعليم وإرشاد وجعله قدوة لأمته.
كذلك أمر الله تعالى رسوله ص بأن يكون أول المسلمين من هذه الأمة، وكان ذلك فعلا، فإنه كان أول من خالف دين آبائه، وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إلى ذلك.
وأمر الرسول ص أيضا بأن يخاف عذاب يوم القيامة.
وكل هذه الأوامر تعريض بالمشركين وتعليم وإرشاد للمؤمنين.
٦- قوله تعالى: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ليس إباحة ولا إذنا وإقرارا لعبادتهم الأصنام، وإنما هو أمر تهديد ووعيد وتقريع، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠] وقوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [الأنعام ٦/ ١٣٥].
٧- إن الخسارة الكبرى التي لا تعوض للمشركين والكافرين هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بسبب الضلال عن الدين الحق، والإضلال للأتباع عن دين الله. قال ابن عباس: ليس من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. ومن عمل بطاعة الله، كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠].
٨- للكفار عذاب يحيط بهم من كل جانب في نار جهنم يوم القيامة. وهو عذاب شديد، لذا خوّف الله به عباده المؤمنين وأولياءه المتقين، فيا أولياء الله، اتقوا الله ربّكم من هذا العذاب، بإخلاص التوحيد والطاعة. وهذا وعيد شديد لعبدة الأصنام.
٩- وعد الله بالجنة المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الأوثان والشياطين الذي زين لهم تلك العبادة، والذين أنابوا إلى الله، أي رجعوا بالكلية إلى عبادته وطاعته.
وهؤلاء فعلا هم الذين انتفعوا بعقولهم، وهم الذين ميّزوا بين الحق والباطل، وبين الحسن والقبيح، ففهموا أوامر الله، واتبعوا كتاب الله وسنة رسوله ص.
١٠- الهداية بيد الله تعالى وحده، لذا خاطب الله رسوله ص مسليا له:
أفأنت تنقذ من النار من حقت عليه كلمة العذاب؟ ويلاحظ أن الهداية والضلال من خلق الله تعالى وإيجاده، كخلق جميع أعمال الإنسان، أما تحصيلهما واكتسابهما واختيارهما فمن العبد، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف ١٨/ ١٧].
١١- لما بيّن الله تعالى أن للكفار ظللا من النار من فوقهم ومن تحتهم، بيّن أن للمتقين غرفا فوقها غرف، أي علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية كبناء منازل الأرض، لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض.
والجنة مزدانة بأبهى أنواع الجمال، فهي تجري من تحت غرفها الأنهار، أي هي جامعة لأسباب النزهة، وقد وعد الله بها عباده الأتقياء وعدا محققا كائنا لا شك فيه، كما أوعد الكافرين بالنار، وإن الله لا يخلف الميعاد الذي وعد به الفريقين.