هذا، أو على معنى: هذا الذي وصفته للمتقين. ثم يستأنف خبر الطاغين وما لهم عند الله تعالى.
( قوله تعالى ذكره): ﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ﴾ إلى قوله - ﴿نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
" هذا " مرفوع بالابتداء، و " حميم " الخبر. فلا تقف على هذا إلا على " أزواج ".
ويجوز أن يكون الخبر " فليذوقوه "، فتقف على " فليذوقوه " ويجوز أن يكون (خبر ابتداء محذوف، أي: الأمر هذا)، فتقف على " هذا " إن شئت. ويجوز أن يكون " هذا " في موضع نصب (بإضمار قول يفسره " فليذوقوه "، مثل): زيداً
فاضربه على هذا التأويل " فليذوقوه " وترفع " حميم وغساق "، على معنى: هو حميم، أو منه حميم.
والحميم: الذي قد انتهى حره. قاله السدي.
وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم تجمع في حياض النار فيسقونه.
قال قتادة: الغساق، ما يسيل من بين جلده ولحمه.
قال السدي: الغساق: الذي يسيل من أعينهم ودموعهم يسقونه مع الحميم.
وقال ابن زيد: هو الصديد الذي يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار، يجمع في حياض في النار فيسقونه، وقال مجاهد: الغساق: أبرد البرد.
وقال ابن عمر: هو القيح الغليظ؛ لو أن قطرة منها تهراق في المغرب لأنتنت
أهل المشرق، ولو تهراق بالمشرق لأنتنت أهل المغرب.
وقال كعب: " الغساق: عين في جهنم يسيل إليها حُمَّةُ كل ذان حُمَةٍ من حية أو عقرب فتُستنقع فيُؤتى بالآدمي فيُغمس غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام حتى يغلق جدله إلى كعبيه وعقبيه، ويجر لحمه جر الرجل ثوبه ".
وروى الخدري أن النبي ﷺ قال: " لَوْ أَنَّ دَلْواً مِنْ غَساقٍ يُهْرَاقُ في الدُّنْيَا لأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيا ".
وقيل: هو ماء قد انتهى في البرودة ضد الحميم، يحرق كما يحرق الحميم. والعرب تقول: غسقت عينه، إذا سالت.
فمن شدد جعله مثل سيال، ومن خفف جعله مثل سائل.
فهو على هذا الاشتقاق ما سيل من أجسام أهل النار. ولم يعرف الكسائي ما هو. ومن شدد جعله صفة، ومن خفف أجاز أن يكون صفة واسماً.
ثم قال تعالى: ﴿وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾.
من جمع ﴿وَآخَرُ﴾ حمله على لفظ " أزواج ". ومن وحد حمله على " شكله " ولم يقل شكلها، فالمعنى لمن جمع ﴿وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ﴾ ما ذكرنا.
وقيل: المعنى: من شكل الغساق.
وقوله: (أَزْوَاجٌ) يريد به الحميم والغساق والآخر، فذلك ثلاثة.
قال ابن مسعود: هو الزمهرير.
والمعنى: مِنْ ضَرْبِهِ ومن نحوه، ومعنى " أزواج ": أنواع وألوان.
ثم قال تعالى: ﴿هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ﴾، أي: هذه فرقة مقتحمة معكم " في النار، وذلك دخول أمة من الكفار بعد أمة.
والتقدير: يقال هذا فوج يدخل معكم في النار، فهو قول الملائكة لأهل النار حين أتوهم بفوج يُدْخِلُوَنه معهم.
ثم قال: ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾.
هذا خبر من الله جل ذكره عن قول أهل النار لما قيل لهم: " هذا فوج مقتحم معكم " فقالوا: لا مرحبا بهم. فهذا مثل قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: ٣٨].
ومعنى: ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾: لا اتسعت مداخلهم ومنازلهم في النار.
ثم قال: ﴿إِنَّهُمْ صَالُواْ النار﴾.
هذا أيضاً من قول المتقدمين في النار للداخلين عليهم، أي: قالوا لا مرحباً
بهم إنهم وأردوا النار.
وقيل: هو من قول الملائكة الذين قالوا لأهل النار: " هذا فوج مقتحم معكم إنهم صالو النار ".
ثم قال تعالى: ﴿قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾، أي: قال الفوج الداخلون على من تقدمهم لما قالوا لا مرحبا بهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، أي: لا اتسعت أماكنكم بكم.
﴿أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا﴾، أي: أنتم أوردتمونا هذا / العذاب بإضلالكم إيانا ودعائكم إيانا إلى الكفر فاتبعناكم فاستوجبنا سكنى جهنم.
ثم قال تعالى ﴿قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار﴾، أي: قال الفوج المقتحم: ربنا من قدم لنا هذا بدعائه إيانا إلى العمل الذي أوجب لنا النار فزده عذاباً ضعفاً في النار، أي: أضعف لهم العذاب الذي هُمْ فيه.
وقيل: المعنى: أضعف له العذاب مرتين: عذاباً بكفره، وعذاباً بدعائه إيانا.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار﴾، أي: وقال الكافرون الطاغون الذين تقدمت صفتهم - وقيل: هم أبو جهل والوليد بن المغيرة وذووهما - قالوا في النار: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار، أي: كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا - قيل: (عنوا بذلك صهيباً وخباباً) وبلالاً
وسلمان: قاله مجاهد.
ثم قال تعالى: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً﴾.
من ضم: فمعناه: كنا نسخرهم في الدنيا ونستذلهم، ومن كسر فمعناه: كنا نسخر منهم في الدنيا، وقيل: هما لغتان بمعنى الهُزْء والسُّخرية.
فالمعنى: أَهُمْ في النار لا نعرف مكانهم، أم لم تقع أعيننا عليهم؟
ومن قرأ بقطع الألف من " اتخذناهم " ابتدأ به، ومن وصل الألف لم يبتدئ به
لأنه صفة للرجال، هذا قول أبي حاتم.
وتكون " أم " عديلة لاستفهام مُضمَر، تقديره: أمفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار.
ويجوز أن تكون معادلة ل " ما " في قوله: " ما لنا "، كما قال تعالى: ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾ [النمل: ٢٠]، وقال: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ﴾ [القلم: ٣٦ - ٣٧]، فذلك جائز حسن.
وقد وقعت " أم " معادلة ل " مَنْ " في الاستفهام، قال الله جل ذكره:
﴿فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ﴾ [النساء: ١٠٩].
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار﴾، أي إن هذا الذي أخبرتك به من خبر أهل النار لحق هو تخاصم أهل النار.
ويجوز أن تكون " تخاصم " خبراً ثانياً ل " إن " أو بدلاً من " لحَقٌّ " أو من المضمر في " لَحَقٌّ ". فإن جعلته خبراً ثانياً (أو بدلاً " لم تقف على لحَقٌّ ". وإن
جعلته مرفوعاً على إضمار مبتدأ، أي: هو تخاصم، وقفت إذا شئت على " لحق ".
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ﴾، أي: نذير لكم من بين يدي عذاب شديد.
﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار﴾، أي: وما من معبود تجب له العبادة إلا الله الواحد، أي: المتفرد بالعبادة القهار لكل ما دونه بقُدرته.
﴿رَبُّ السماوات والأرض﴾: أي: ما لكهما ومالك ما بينهما من الخلق.
﴿العزيز﴾، أي: المنيع في نقمته.
﴿الغفار﴾ لذنوب من تاب من كفره، وأطاع ربه.
ثم قال تعالى: - ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾، أي: قل يا محمد لقومك: هذا القرآن الذي قلتم فيه: " إن هَذَا الاخْتِلاَقُ "، نبأ عظيم، أي: خبر عظيم، أنتم عنه معرضون، أي: قد كفرتم وانصرفتم عن الإيمان به والعمل بما فيه، وقيل: المعنى: هو خبر جليل، وقيل: معناه: خبر عظيم المنفعة.
ثم قال: ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، أي: قل يا محمد للمشركين الذين ينكرون ما جئتهم به ويكذبونك: ما كان لي من علم بالملائكة إذ اختصموا في آدم إذ شوِروا في خلق آدم فاختصموا فيه، وقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠]
الآيات، قاله ابن عباس وغيره.
أي: لولا (ما أوحاه) إلي ربي وأعلمني به. فإعلامي ذلك لكم دليل على صدقي ونبوتي بأن هذا القرآن من عند الله تعالى. وهذا كله معنى قوله قتادة والسدي وغيرهما.
وفي الحديث: " يَخْتَصِمُون في الْكَفَّارَاتِ وَفي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ في الْمكَارِهِ وَانْتِظَارِ الصَّلاَة بِعْدَ الصَّلاِةِ ".
قال الحسن: " لما صُعِد بالنبي ﷺ إلى السماء ليلة الإسراء به مر في سماء منهن، فإذا هو بأصوات الملائكة يختصمون، (قال لجبريل: يا جبريل، ما هذه الأصوات؟ قال: أصوات الملائكة يختصمون) في كفارات بني آدم. فقال النبي عليه اللاسم: وما يقولون فيها؟ قال: يقولون: هي نقل الأقدام إلى الجماعات (والصلوات، وإسباغ) الوضوء عند المكروهات، والتعقيب في المساجد بعد الصلوات. قال: ثم أوحى
الله تعالى إلى النبي ﷺ: " ما كان لي من علم بالملأ الأعلى " الآيتين.
وعن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال رسول الله ﷺ:
" قال لي ربي: فيمَ يختصم الملأ الأعلى / يا محمد؟ (فقلت: أنت أعلم يا رب، فقالها ثانية، فقلت: أنت أعلم يا رب. فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض. فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: في الكفارات، فقال: وما الكفارات؟ فقلت: المشي ونقل الأقدام غلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكروهات، والجلوس في المساجد خلف الصلوات قال: من فعل ذلك يعيش بخير ويموت بخير، ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه ".
وأجاز النحاس أن يكون المعنيَّ بالاختصام قريشاً لأن منهم من قال: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى. فالمعنى على هذا: ما كان لي من علم بالملائكة إذ يختصم فيهم قريش. وأجاز أن يراد بالملأ الأعلى أشراف قريش يختصمون فيما بينهم فيخبر الله نبيه ﷺ ( بما شاء من ذلك فيعلمهم النبي بذلك).