
وقرأ حمزة والكسائي: «والليسع»، كأنه أدخل لام التعريف على الْيَسَعَ، فأجراه مجرى ضيغم ونحوه، وهي قراءة علي بن أبي طالب والكوفيين. وقرأ الباقون: «واليسع»، قال أبو علي: الألف واللام فيه زائدتان غير معرفتين كما هي في قول الشاعر: [الكامل]
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا | ولقد نهيتك عن بنات الأوبر |
هذا ذِكْرٌ يحتمل معنيين: أحدهما أن يشير إلى مدح من ذكر وإبقاء الشرف له، فيتأيد بهذا التأويل قول من قال آنفا: إن الدَّارِ يراد بها الدار الدنيا. والثاني: أن يشير بهذا إلى القرآن، إذ هو ذكر للعالم.
و «المآب» : المرجع حيث يؤوبون. وجَنَّاتِ بدل من «حسن» ومُفَتَّحَةً نعت للجنات.
والْأَبْوابُ مفعول لم يسم فاعله، والتقدير عند الكوفيين: مفتحة لهم أبوابها، ولا يجوز ذلك عند أهل البصرة، والتقدير عندهم: الأبواب منها، وإنما دعا إلى هذا الضمير أن الصفة لا بد أن يكون فيها عائدا على الموصوف. وقاصِراتُ الطَّرْفِ قال قتادة معناه: على أزواجهن. وأَتْرابٌ معناه أمثال، وأصله في بني آدم أن تكون الأسنان واحدة، أي مست أجسادهم التراب في وقت واحد.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «يوعدون» بالياء من تحت، واختلفا في سورة: (ق)، فقرأها أبو عمرو بالتاء من فوق. وقرأ الباقون في السورتين بالتاء من فوق. والنفاذ: الفناء والانقضاء.
قوله عز وجل:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٥ الى ٦١]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١)
التقدير: الأمر هذا، ويحتمل أن يكون التقدير: هذا واقع ونحوه. والطاغي: المفرط في الشر، مأخوذ من طغا يطغى، والطغيان هنا في الكفر. و «المآب» : المرجع، وجَهَنَّمَ بدل من قولهم:
لَشَرَّ. ويَصْلَوْنَها معناه: يباشرون حرها. والْمِهادُ ما يفترشه الإنسان ويتصرف فيه.
وقوله: هذا فَلْيَذُوقُوهُ يحتمل أن يكون هذا ابتداء، والخبر حَمِيمٌ ويحتمل أن يكون التقدير: الأمر هذا فليذوقوه، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بفعل يدل عليه فَلْيَذُوقُوهُ وحَمِيمٌ على هذا خبر ابتداء مضمر. قال ابن زيد: الحميم، دموعهم تجتمع في حياض فيسقونها وقرأ جمهور الناس: «وغساق» بتخفيف السين، وهو اسم بمعنى السائل، يروى عن قتادة أنه ما يسيل من صديد أهل النار. ويروى عن السدي أنه ما يسيل من عيونهم. ويروى عن كعب الأحبار أنه ما يسيل من حمة عقارب النار، وهي يقال مجتمعة عندهم. وقال الضحاك: هو أشد الأشياء بردا. وقال عبد الله بن صفحة رقم 510

بريدة: هو أنتن الأشياء، ورواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «وغسّاق» بتشديد السين، بمعنى سيال وهي قراءة قتادة وابن أبي إسحاق وابن وثاب وطلحة، والمعنى فيه على ما قدمناه من الاختلاف غير أنها قراءة تضعف، لأن غساقا إما أن يكون صفة فيجيء في الآية حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وذلك غير مستحسن هنا، وأما أن يكون اسما، فالأسماء على هذا الوزن قليلة في كلام العرب كالفياد ونحوه وقرأ جمهور الناس: «وآخر» بالإفراد، وهو رفع بالابتداء، واختلف في تقدير خبره، فقالت طائفة تقديره: ولهم عذاب آخر. وقالت طائفة: خبره: أَزْواجٌ لأن قوله:
أَزْواجٌ ابتداء ومِنْ شَكْلِهِ خبره، والجملة خبر «آخر». وقالت طائفة: خبره أَزْواجٌ، ومِنْ شَكْلِهِ في موضع الصفة. ومعنى مِنْ شَكْلِهِ: من مثله وضربه، وجاز على هذا القول أن يخبر الجمع الذي هو أزواج عن الواحد من حيث ذلك الواحد درجات ورتب من العذاب وقوى وأقل منه. وأيضا فمن جهة أخرى على أن يسمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل، قالوا: عرفات لعرفة: وشابت مفارقه فجعلوا كل جزء من المفرق مفرقا، وكما قالوا: جمل ذو عثانين ونحو هذا، ألا ترى أن جماعة من المفسرين قالوا إن هذا الآخر هو الزمهرير، فكأنهم جعلوا كل جزء منه زمهريرا.
وقرأ أبو عمرو وحده: «وأخر» على الجمع، وهي قراءة الحسن ومجاهد والجحدري وابن جبير وعيسى، وهو رفع بالابتداء وخبره أَزْواجٌ، ومِنْ شَكْلِهِ في موضع الصفة، ورجح أبو عبيد هذه القراءة وأبو حاتم بكون الصفة جمعا، ولم ينصرف «أخر» لأنه معدول عن الألف واللام صفة، وذلك أن حق أفعل وجمعه أن لا يستعمل إلا بالألف واللام، فلما استعملت «أخر» دون الألف واللام كان ذلك عدلا لها، وجاز في «أخر» أن يوصف بها النكرة كقوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٤- ١٨٥] بخلاف جمع ما عدل عن الألف واللام، كسحر ونحوه في أنه لا يجوز أن يوصف به النكرة، لأن هذا العدل في «أخر» اعتد به في منع الصرف ولم يعتد به في الامتناع من صفة النكرة كما يعتدون بالشيء في حكم دون حكم، نحو اللام في قولهم: «لا أبا لك، لأن اللام المتصلة بالكاف اعتد بها فاصلة للإضافة، ولذلك جاز دخول لا، ولم يعتد بها في أن أعرب أبا بالحروف وشأنه إذا انفصل ولم يكن مضافا أن يعرب بالحركات فجاءت اللام ملغاة الحكم من حيث أعرب بالحرف، كأنه مضاف وهي معتد بها فاصلة في أن جوزت دخول لا.
وقرأ مجاهد: «من شكله» بكسر الشين. وأَزْواجٌ معناه: أنواع، والمعنى لهم حميم وغساق وأغذية أخر من ضرب ما ذكره ونحوه أنواع كثيرة.
وقوله تعالى: هذا فَوْجٌ هو ما يقال لأهل النار إذا سيق عامة الكفار وأتباعهم لأن رؤساءهم يدخلون النار أولا، والأظهر أن قائل ذلك لهم ملائكة العذاب، وهو الذي حكاه الثعلبي وغيره، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض، فيقول البعض الآخر: لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا سعة مكان ولا خير يلقونه.
والفوج: الفريق من الناس.
وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ حكاية لقول الأتباع حين سمعوا قول الرؤساء: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ معناه بإغوائكم، أسلفتم لنا ما أوجب هذا، فكأنكم فعلتم بنا هذا.