
وقال المتنبي:
وقيدت نفسي في ذراك محبة | ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا |
متى أنا للدار المريحة ضاعن | فقد طال في دار الفناء مقامي |
وقد ذقتها ما بين شهد وعلقم | وخبرتها من صحة وسقام |
ألم تر ريب الدهر في كل ساعة | له عارض فيه المنية تلمع |
أيا باني الدنيا لغيرك تبتني | ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع |
أرى المرء وثابا على كل فرحة | وللمرء يوما لا محالة مصرع |
قال تعالى «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ» في معرض الأنبياء المبتلين أمثالك يا محمد «إِذْ نادى رَبَّهُ» لما اشتد به البلاء فقال يا رب «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ» اتعاب كثيرة ومشقات «وَعَذابٍ ٤١» أضربي لا طاقة لي عليه يا رب فأعني فأجابه بقوله جل جلاله «ارْكُضْ» اضرب الأرض «بِرِجْلِكَ» فضربها فنبعت ماء فقال له ربه «هذا» الماء لك منه «مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ٤٢» تشرب منه فاغتسل فذهب صفحة رقم 317

ما فيه ظاهرا من آثار المرض، وشرب فذهب ما فيه من آلامه الداخلية «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ» أي مثل ما فقد له منهم من المال والولد «وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» على سبيل التفضل «رَحْمَةً مِنَّا»
وجزاء لصبره على ابتلائنا وثباته على عبادتنا «وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ٤٣» العقول السليمة والبصائر الحاذقة، ليعلموا أن من صبر على بلائي ولم يضجر وشكر نعمائي ولم يفرح، أعامله معاملة أخصّائي، ثم بين له المخرج من صلفه كما سيأتي في القصة بعد مفصلة في الآية ٨٤ من الأنبياء في ج ٢، وكذلك قصص الأنبياء الآتي ذكرهم فراجعها، ثم قال له «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً» حزمة حشيش صغيرة بملء اليد.
«فَاضْرِبْ بِهِ» امرأتك التي حلفت عليها أن تجلدها «وَلا تَحْنَثْ» بيمينك لأن البرّ به واجب.
مطلب التخفيف وكفارة اليمين بحيلة في محله الملائم:
وقد حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها شكرا لصبرها عليه مدة مرضه الحكم الشرعي اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده مائة سوط فجمعها بيده وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك والليث بن سعد وأحمد لا يبرّ، وقال مجاهد: هذا خاصّ بأيوب عليه السلام. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا ضربه بها ضربة واحدة فأصابه كل سوط على حدة فقد برّ بيمينه، استدلالا بهذه الآية. وقال ابن عباس وعطاء ابن أبي رباح إنه يبرّ مطلقا بقطع النظر عن خصوص السبب. وهذا هو الأوفق بالقاعدة وهي العبرة للعام ما لم يقيّد، وهذا إذا استوعبت يد الضارب المائة سوط لا المائة قصلة من الحشيش لأنها خاصة ولا يسقط بها الحنث، ويشترط ان يصيب جسد المضروب كل واحد منها وإلا لا، وسنأتي على بحث كفارة اليمين وما يتعلق بها في الآية ٩٢ من المائدة في ج ٣. قال تعالى مبينا سبب إعطائه ضعفي أهله رماله وولده وتخفيف الكفارة عليه بقوله «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً» على بلائنا ولم يشك منه ولم يضجر ولم يتوسل بغيرنا على كشفه ولذلك أجبنا دعوته وزدناه على ما طلب لأنه أظهر لعدوه إبليس وللناس أنه يعبدنا لذاتنا لا للمال والولد والأهل وغيرها، وإنما أفتيناه بتخفيف الكفارة لأنه حلف عليها من أجلنا بسبب المحنة

التي قدرناها عليه «نِعْمَ الْعَبْدُ» أيوب الصابر الشاكر «إِنَّهُ أَوَّابٌ ٤٤» رجاع إلينا كثير الأيادي على غيرنا «وَاذْكُرْ» يا أكمل الرسل «عِبادَنا» الصابرين الشاكرين أمثال أيوب «إِبْراهِيمَ» إذ امتحناه بإلقائه بالنار واختبرنا وفاءه بالعهد حينما ألقي فيها، إذ جاءه جبريل ليغيثه فقال: إني عاهدت ربي أن لا أسأل غيره. وقد قال له سله ليكشف عنك فقال: علمه بحالي يغني عن سؤالي «وَإِسْحاقَ» إذ ابتلي بالذبح وهذا على القول بأنه هو الذبيح وليس بشيء كما سنبينه في الآية ٨٨ من يوسف في ج ٢ ولعله ابتلي ببلاء آخر لم نعلمه أو بما كان على أبيه وأخيه إسماعيل عليهم السلام «ويعقوب» إذ ابتلي بفقد ولده وغشاوة بصره من البكاء عليه «أُولِي الْأَيْدِي» القوة العاملة على الطاعة والعبادة والجهاد والصبر على المصائب وعدم الاستعانة بغير الله، وفي هذه الآية تنديد على أولي البطالة والكسالى بأمر الدين والدنيا لأن الله يبغض العبد البطال وكتبت الأيدي بالياء ويجوز حذفها بلا حاذف كياء (يسر) في الآية ٤ من الفجر المارة وقوله «وَالْأَبْصارِ ٤٥» جمع بصيرة لا جمع بصر لأن البصيرة تجمع على أبصار وبصائر والمراد بها هنا والله أعلم القوة العالمية والمعرفة الحاذفة اللتين يصدر عنهما معرفة الله والعلم بخصائص مكوناته فهؤلاء وأمثالهم «إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ» لعبادتنا «بِخالِصَةٍ» أي خصلة خالصة لا شوب فيها «ذِكْرَى الدَّارِ ٤٦» الدائمة وهي الآخرة أي اصطفيناهم ليذكروا الناس في الآخرة فيعملوا لها يزهدوهم في الدنيا لئلا يتوغلوا فيها «وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا» بسبب صبرهم وشكرهم وتفاديهم في سبيلنا وقيامهم بأوامرنا «لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ٤٧» المصفّين من الأدناس المختارين من جنسهم «وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ» المبتلين الصابرين أيضا «وكلّ» منهم عندنا «مِنَ الْأَخْيارِ ٤٨» إذ كل منهم امتحن واختبر فرضي وشكر وسنأتي على قصة كل منهم بانفراده عند ذكره إن شاء الله كي لا تتكرر وقد عدد الله تعالى جمعا من رسله المصابين بالبلاء بأجسادهم وأهلهم ومن قومهم تسلية لحضرة محمد صلّى الله عليه وسلم وتشجيعا له على تحمل أذى قومه وجفاهم له والصبر على سوء أخلاقهم معه إرشادا لأن يسلك طريقهم ويقتفي أثرهم ويفكر بما كان على
صفحة رقم 319