
ولما ابتلي بالنفس قال: إني له. ويقال: واذكر أنت يا محمد صبر عبدنا أيوب، إذ ضاق صدرك من أذى الكفار، وأمر أمتك ليذكروا صبره، ويعتبروا، ويصبروا.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ الى ٦٤]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا مَا لَنا لاَ نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
ثم قال عز وجل: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ فجعل العبد نعت إبراهيم خاصة، كأنه قال:
واذكر عبدنا قرأ ابن كثير واذكر عَبْدَنَا بغير ألف وقرأ الباقون: عِبادَنا بالألف. فمن قرأ عبدنا فمعناه: واذكر عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ فجعل العبد نعتاً لإبراهيم خاصة، فكأنه قال: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَاذكر إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ومن قرأ عِبادَنا يعني: ما بعده مع إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، ويَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ يعني: أولي القوة في العبادة، والأبصار. يعني:
ذوي البصر في أمر الله تعالى.
قوله عز وجل: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ يعني: اختصصناهم بذكر الله تعالى، وبذكر الجنة، وليس لهم همّ إلا همّ الآخرة. ويقال: معناه واذكر صبر إبراهيم، وصبر إسحاق، وصبر يعقوب، ولم يذكر صبر إسماعيل لأنه لم يبتلَ بشيء. قرأ نافع بِخالِصَةٍ بغير تنوين على معنى الإضافة. وقرأ الباقون مع التنوين. وروي عن مالك بن دينار أنه قال:
نزع الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ من حب الدنيا، وذكرها، وقد أخلصهم بحب الآخرة، وذكرها. ومن قرأ

بِخالِصَةٍ بالتنوين، جعل قوله: ذِكْرَى الدَّارِ بدلاً من خالصة. والمعنى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بذكر الدار، والدار هاهنا دار الآخرة. يعني: جعلناهم لنا خالصين، بأن جعلناهم يكثرون ذكر الدار، والرجوع إلى الله تعالى.
ثم قال عز وجل: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ يعني: المختارين للرسالة، الأخيار في الجنة.
ثم قال: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ قال مقاتل: واذكر صبر إسماعيل، وهو أشمويل بن هلفانا.
وقال غيره: هو إسماعيل بن إبراهيم. يعني: اذكر لقومك صبر إسماعيل، وصدق وعده وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ واليسع كان خليفة إلياس، وذا الكفل كفل مائة نبي أطعمهم، وكساهم، وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ هذا ذِكْرٌ يعني: هذا الذي ذكرنا من الأنبياء- عليهم السلام- في هذه السورة ذِكْرٌ يعني: بيان لعظمته وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ من هذه الأمة لَحُسْنَ مَآبٍ يعني: حسن المرجع.
ثم وصف الجنة فقال عز وجل: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ يعني: تفتح لهم الأبواب فيدخلونها. يعني: الجنة كما قال تعالى في آية أخرى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] فإذا دخلوها، وجلسوا على السرر، وكانوا مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ يعني: ألوان الفاكهة، والشراب وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ يعني: غاضات أعينهن عن غير أزواجهن أَتْرابٌ يعني: ذات أقران. أي: مستويات على سن واحد هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ يقول: إِنَّ هَذَا يعني: إنّ هذا الثواب الذي توعدون بأنه يكون لكم في يوم الحساب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، بالياء على معنى الإخبار عنهم. وقرأ الباقون:
بالتاء على معنى المخاطبة. يقول الله تعالى: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا يعني: إن هذا الذي ذكرنا لعطاؤنا للمتقين مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ يعني: لا يكون له فناء، ولا انقطاع عنهم، وهذا كما قال تعالى: لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: ٣٣] ثم قال: هذا يعني: هذا الرزق للمتقين فيتم الكلام عند قوله: هذا.
ثم ذكر ما أوعد الكفار فقال عز وجل: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ يعني: للكافرين، لبئس المرجع لهم في الآخرة.
ثم بيّن مرجعهم فقال عز وجل: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يعني: يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ يعني: فبئس موضع القرار هذا فَلْيَذُوقُوهُ يعني: هذا العذاب لهم فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وهو ماء حار قد انتهى حرّه. قرأ حمزة والكسائي، وحفص غَسَّاقٌ بتشديد السين وقرأ الباقون: بالتخفيف. وعن عاصم روايتان. رواية حفص بالتشديد، ورواية أبي بكر بالتخفيف.
فمن قرأ بالتشديد فهو بمعنى سيال، وهو ما يسيل من جلود أهل النار. ومن قرأ بالتخفيف