٤- الآية هذه: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ رد واضح على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد.
٥- قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذّ (سرعة القراءة)، إذ لا يصح التدبر مع الهذّ. وقال الحسن البصري: تدبر آيات الله اتباعها.
٦- القرآن الكريم ذكرى وعظة لأولي الألباب، أي أصحاب العقول الراجحة، فالعاقل هو المستفيد من آي القرآن، والقرآن هو الذي يذكره بضرورة التوبة والإنابة إلى الله إذا زاغ أو انحرف.
قصة سليمان عليه السلام
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٠ الى ٤٠]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
الإعراب:
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ المقصود بالمدح محذوف، وهو سليمان أو داود، وهو إلى سليمان أقرب.
الصَّافِناتُ الْجِيادُ الأول نائب فاعل عُرِضَ والثاني صفته، والْجِيادُ: جمع جواد، أو جمع جائد.
حُبَّ الْخَيْرِ منصوب على أنه مفعول به، والمعنى: أنه آثر حب الخير، لا أنه أحبّ حبّا، أو منصوب على المصدر، بوضع حُبَّ الاسم موضع الاحباب الذي هو المصدر، والوجه الأول أوجه.
حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي الشمس، وإنما أضمر لدلالة الحال، مثل كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن ٥٥/ ٢٦] أي الأرض، لدلالة الحال، وإن لم يجر لها ذكر.
البلاغة:
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ المسح هنا حقيقة أي مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها، وقيل: المسح كناية عن العقر والذبح.
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بينهما طباق، لأنهما بمعنى أعط من شئت، وامنع من شئت.
المفردات اللغوية:
نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان، إذ ما بعده تعليل للمدح وهو أواب أَوَّابٌ رجّاع إلى الله بالتسبيح والذكر في جميع الأوقات، أو بالتوبة بِالْعَشِيِّ ما بعد الزوال عُرِضَ عَلَيْهِ على سليمان الصَّافِناتُ القائمات، أو القائمة على ثلاث وطرف الحافر الرابع، أي يرفع إحدى يديه أو رجليه، ويقف على مقدم حافرها، مع القوائم الأخرى، وهو من الصفات المحمودة في الخيل، لا يكاد يكون إلا في العرب الخلّص، مأخوذ من صفن يصفن صفونا. الْجِيادُ جمع جواد، وهو الذي يسرع في عدوه أو جريه، والجواد من الناس: السريع البذل. والمعنى: أن الخيول إذا استوقفت سكنت، وإن ركضت سبقت، وكانت ألف فرس عرضت عليه، كالعرض العسكري اليوم.
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي آثرت أو أردت حب الخير وهو هنا الخيل، وأصل الخير: المال الكثير، ويحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها،
قال ص فيما أخرجه أحمد عن جابر: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».
عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي أحببت الخيل وحصل حبها عن ذكر ربي وأمره، لا عن الشهوة والهوى. وليس المراد كما يذكر القصاصون: أنه آثر رؤية الخيل عن صلاة العصر حتى غابت الشمس تَوارَتْ بِالْحِجابِ اختفت وغابت الشمس، واستترت بما يحجبها عن الأبصار. والحجاب:
بالحاجز أو بالليل.
رُدُّوها عَلَيَّ ردوا الخيل الصافنات علي استمتاعا بالنعمة، أي كفاها ركضا وعدوا فَطَفِقَ مَسْحاً شرع يمسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها، وليس المعنى: جعل يذبحها ويعقرها بالسيف لتفويت صلاة العصر عليه، فهذا لا يليق بالنبوة. بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي بسيقانها وأعناقها، فيربّت عليها ويدللها ويمسح نواصيها بيده، لا أنه ذبحها وعرقب أرجلها تقربا إلى الله تعالى، حيث اشتغل بها عن الصلاة، وتصدق بلحمها، فعوضه الله خيرا منها وأسرع، وهي الريح تجري بأمره كيف شاء، فهذا من الإسرائيليات الدخيلة.
فَتَنَّا سُلَيْمانَ ابتليناه واختبرناه بمرض، وقال البيضاوي: وأظهر ما قيل فيه: ما
روي مرفوعا أنه قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل، فو الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لجاهدوا فرسانا» «١».
ومن الإسرائيليات في تفسير الابتلاء: أن الله ابتلاه بسلب ملكه، وذلك لتزوجه بامرأة عشقها، وكانت تعبد الصنم في دار من غير علمه، وكان ملكه في خاتمه، فنزعه مرة عند إرادة الخلاء ووضعه عند امرأته المسماة بالأمينة، على عادته، فجاءها جنّي في صورة سليمان، فأخذه منها.
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح، وقيل: الجسد: هو نصف الإنسان الذي ولدته امرأته، وقيل: هو ذلك الجني، وهو صخر أو غيره، جلس على كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير وغيرها، فخرج سليمان في غير هيئته، فرآه على كرسيه، وقال للناس: أنا سليمان، فأنكروه. وهذان التفسيران المقولان غير صحيحين في الظاهر والثاني منهما من تتمة القصة الدخيلة من الإسرائيليات.
ثُمَّ أَنابَ رجع تائبا إلى الله من ترك الأفضل وهو عدم تعليق الأمر بمشيئة الله، وهذا عظيم على نبي، لأن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صدر عني من الذنب وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي امنحني ملكا لا يكون لأحد من بعدي أن يملك مثله.
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ جعلناها منقادة لأمره رُخاءً لينة مع قوتها وشدتها، فلا تزعزع ولا تعصف حَيْثُ أَصابَ قصد وأراد وَالشَّياطِينَ أي وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر لاستخراج الدر واللؤلؤ منه وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي وآخرين منهم مشدودين في القيود والسلاسل، وهم مردة الشياطين.
هذا عَطاؤُنا أي هذا ما أعطيناك من الملك العظيم الذي طلبته، من السيطرة على الريح والشياطين وتسخيرهم فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ فأعط من شئت، وامنع من شئت بِغَيْرِ حِسابٍ لا حساب عليك في ذلك الإعطاء أو الإمساك، فلا يقال لك: كم أعطيت ولم منعت؟
لَزُلْفى قربة في الآخرة وَحُسْنَ مَآبٍ وحسن مرجع، وهو الجنة.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية- قصة سليمان بن داود عليهما السلام، فيها تعداد النعم التي أنعم الله بها على سليمان، كما أنعم على أبيه داود من قبل، ليشكر المحسن، ويتعظ المسيء الذي يرى في قصتي داود وسليمان عظة وعبرة، فإنهما ملكا ملكا عظيما، لم يحجبهما عن شكر الله، وعبادته وطاعته، وتقدير نعمه الكثيرة، فأين ملكهما من زعامة قريش وأمثالهم؟!.
التفسير والبيان:
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي وآتينا داود ابنا نبيا، كما قال عز وجل: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل ٢٧/ ١٦] وإلا فقد كان له بنون غيره، وهذا الابن ما أحقّه بالمدح والثناء، فهو نعم العبد، لأنه توّاب رجّاع إلى الله، كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل في أكثر الأوقات.
روى ابن أبي حاتم عن مكحول قال: لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له: يا بني ما أحسن؟ قال: سكينة الله والإيمان، قال: فما أقبح؟ قال: كفر بعد إيمان، قال: فما أحلى؟ قال: روح الله بين عباده- أي رحمته- قال: فما
أبرد؟ قال: عفو الله عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض، قال داود عليه السلام: فأنت نبي.
ثم ذكر الله واقعتين لسليمان من وقائع توبته فقال:
الواقعة الأولى:
قصة عرض الخيل: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ أي اذكر أيها الرسول مادحا حين عرض على سليمان عليه السلام في مملكته وسلطانه بعد العصر آخر النهار الخيول الصافنات (أي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة) والجياد: السراع في العدو، لينظر إليها ويتعرف أحوالها ومدى صلاحيتها لمهامها، وليستمتع بما أنعم الله عليه منها.
فَقالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي قال سليمان: إنني أحببت هذه الخيل وآثرتها عن غيرها حبا حصل عن ذكر ربي وأمره، لا بهواي وشغفي، وكانت ذات أعداد كثيرة، تعدو حتى غابت عني بسبب الغبار وبعد المسافة. وبه يتبين أن حبه لها لم يكن إلا امتثالا لأمر الله بربط الخيل للجهاد في سبيل الله، وتقوية دينه، وتثبيت دعائمه، وقد كان ذلك مندوبا إليه في دينهم.
هذا هو التفسير المتعين الذي يتفق مع مركز النبوة وشرف الرسالة ودلالة الحال في تعداد النعم لا النقم على سليمان، فلا يصح التفسير بشيء يتنافى مع هذا، لا سيما وقد أمر الله تعالى نبينا ص أن يتأسى بداود وسليمان، كما في مطلع الآيات. واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ...
ثم أعاد سليمان عرض الصافنات أمامه قائلا:
رُدُّوها عَلَيَّ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي أعيدوا هذه الخيل
إلي، فلما عادت جعل يمسح بيده سيقانها وأعناقها ونواصيها، تشريفا لها وتكريما وتدليلا وسرورا بها، وتفحصا لأحوالها وإصلاح ما قد يطلع عليه من عيوبها، لأنها عدة الجهاد، ووسيلة الحرب، لرد العدوان، ودفع غارات المعتدين. وقال أكثر المفسرين: معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها، أي قطعها، لأنها شغلته عن صلاة العصر. وهذا بعيد على نبي شاكر نعم ربه، يعاقب ما ليس أهلا للعقاب.
الواقعة الثانية:
إلقاؤه جسدا على كرسيه: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ أي تالله لقد اختبرنا سليمان عليه السلام باختبار آخر، وهو الفتنة في جسده، كما اختار الرازي، حيث ابتلاه الله بمرض شديد في جسمه، حتى نحل جسمه، وأصبح هزيلا، ثم أناب، أي رجع إلى حال الصحة «١».
وبعض المفسرين كما ذكرت عن البيضاوي وكذا أبو حيان «٢» يفسر هذه الفتنة بما عزم عليه من الطواف على سبعين من نسائه، تأتي كل واحدة بفارس مجاهد في سبيل الله، دون أن يقول: إن شاء الله، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، هو الذي ألقي على جسده، فالجسد الملقى هو المولود شق رجل.
وقيل: إن الملقى شيطان، وهذا قول باطل من الزنادقة. قال ابن كثير:
وهذا وغيره من الإسرائيليات، وهي من المنكرات، من أشدها ذكر النساء «٣».
(٢) البحر المحيط: ٧/ ٣٩٧
(٣) تفسير ابن كثير: ٤/ ٣٥ وما بعدها.
قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي قال سليمان: ربّ اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله، وهذا من سمو الإحساس بالخطيئة، فقد تكون شيئا لا يخلو عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأن الأنبياء أبدا في مقام هضم النفس، وإظهار الذلة والخضوع، كما
قال ص فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ وامنحني ملكا عظيما لا يتأتى لأحد غيره مثله، إنك يا ربّ أنت الكثير الهبات والعطايا، فأجب دعائي.
قال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة، ووارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربّه معجزة، فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك، زيادة خارقة للعادة، بالغة حدّ الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي.
وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى مثله أحد، فلا يحافظ على حدود الله فيه «١».
فأجاب الله تعالى دعاءه وأعطاه نعما خمسة، فقال:
١- فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ أي فذلّلنا له الرّيح، وجعلناها منقادة لأمره، تجري ليّنة طائعة في قوّة وسرعة، دون عواصف مضطربة ولا أعاصير، تحمله إلى أي جهة قصد وأراد. ووصف الرّيح هنا بكونها رخاء لا يتعارض مع آية أخرى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ [الأنبياء ٢١/ ٨١] لأن المراد بالعاصفة هنا القوية الشديدة، لا الهائجة
المضطربة، فهي في قوة الرياح العاصفة، لكنها كانت طيّبة غير خطرة، أو أنها كانت بحسب الحاجة، ليّنة مرة، وعاصفة أخرى.
٢- وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي وذلّلنا له أيضا الشياطين تعمل بأمره، إما في بناء المباني الشاهقة، وإما في الغوص في البحار لاستخراج الدرر واللآلئ والمرجان، وإما في أعمال أخرى.
٣- وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي وسخرنا له شياطين آخرين هم مردة الشياطين، سخّروا له حتى قرنهم في القيود والسلاسل، قمعا لشرّهم، وعقابا لهم.
٤- هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ هذه نعمة رابعة هي حرية التصرف فيما أعطاه الله إياه من الملك العظيم، والثراء والغنى، والسيطرة على الريح والشياطين وتسخيرهم، فقد أذن له ربّه بأن يمنح من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا حساب عليه في ذلك الإعطاء أو الإمساك، فلا يقال له: كم أعطيت، ولم منعت؟
٥- وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أي وإن له في الآخرة لقربة وكرامة عند الله، وحسن مرجع، وهو الجنة، وفيض ثواب، فهو ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- من مزيد فضل الله على عبده داود عليه السلام أن وهبه ولدا ورث عنه الملك والنبوة.
٢- ومن نعم الله على عبده سليمان عليه السلام أنه أنعم عليه بالخيل
الصّافنات الجياد، التي تعدّ عدّة الحرب، وآلة القتال المهمة في مواجهة الأعداء، وكان عددها ألف فرس يجاهد عليها في سبيل الله تعالى.
٣- لقد أحبها سليمان عليه السلام، لأنها حققت له تنفيذ أوامر ربّه في ربطها للجهاد، فكان يعرضها أمامه في عرض عسكري مهيب، يرهب العدو، وكانت تمتاز بسرعة الجري أو العدو، حتى إنها غابت عنه بسبب شدة الغبار وبعد المسافة.
٤- لم يقتصر سليمان عليه السلام على عرضها أمامه للمرة الأولى، وإنما طلب إعادتها إليه، فشرع في مسح سيقانها ونواصيها بيده، تكريما لها، وتفحّصا لأحوالها حتى يعالج ما قد يكون بها من عيوب.
٥- امتحن الله تعالى سليمان عليه السلام بالمرض، كما يمتحن عباده المؤمنين، قيل: كان ذلك بعد عشرين سنة من ملكه، ثم ملك بعد الاختبار عشرين سنة أخرى، كما ذكر الزمخشري.
واشتدّ به المرض حتى أصبح لشدّة ضعفه- كما تقول العرب: لحما على وضم، وجسما بلا روح، ثم عاد إلى صحته وحالته الأولى.
وطلب المغفرة من ربّه على ما قد يكون من ذنب في تقديره كان سببا لمرضه، وهذا من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فقد يكون ترك الأفضل والأولى عند أصحاب السمو والدرجة العالية، وعلى رأسهم الأنبياء، بمثابة ذنب عندهم، وهو عند غيرهم ليس بذنب.
٦- أجاب الله دعاء سليمان عليه السلام، فأمده بنعم عظمي، هي: تسخير الرّيح له، تحمله إلى أي مكان أراد، وتسخير الشياطين للخدمة في مجالات الحياة المختلفة من بناء وغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، والتسلّط على مردة الشياطين، حتى يقيّدهم بالأغلال والسلاسل، كفّا لشرّهم ومنع أذاهم.