وَعِظَمِ عَسَاكِرِهِ. وَقِيلَ: كَانَ يَشُجُّ الْمُعَذَّبَ بَيْنَ أَرْبَعِ سَوَارِي، كُلُّ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ إِلَى سَارِيَةٍ مَضْرُوبَةٍ فِيهَا وَتَدٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَيَتْرُكُهُ حَتَّى يَمُوتَ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: كَانَ يَمُدُّهُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَيُرْسِلُ عَلَيْهِ الْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ. وَقِيلَ: يَشُدُّهُمْ بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ صَخْرَةً فَتُلْقَى عَلَيْهِ فَتَشْدَخُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ: الْأَوْتَادُ: الْجُنُودُ، يَشُدُّونَ مُلْكَهُ، كَمَا يُقَوِّي الْوَتَدُ الشَّيْءَ. وَقِيلَ: بَنَى مَنَارًا يَذْبَحُ عَلَيْهَا النَّاسَ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. أُولئِكَ الْأَحْزابُ: أَيِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، كَمَا تَحَزَّبَ قُرَيْشٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِأُولَئِكَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُمُ قَوْمُ نُوحٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِمْ وَإِعْلَاءٌ لَهُمْ عَلَى مَنْ تَحَزَّبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، أَيْ هَؤُلَاءِ الْعُظَمَاءُ لَمَّا كَذَّبُوا عُوقِبُوا، وَكَذَلِكَ أَنْتُمْ.
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ: فَوَجَبَ عِقَابُهُمْ. كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ، آذَوْا نُوحًا فَأُغْرِقُوا وَقَوْمُ هُودٍ فَأُهْلِكُوا بِالرِّيحِ وَفِرْعَوْنُ فَأُغْرِقَ وَثَمُودُ بِالصَّيْحَةِ وَقَوْمَ لُوطِ بِالْخَسْفِ وَالْأَيْكَةُ بِعَذَابِ الظُّلَّةِ. وَمَعْنَى إِنْ كُلٌّ: مَا كَانَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَحَقَّ عِقابِ: أَيْ وَجَبَ عِقَابُهُمْ، فَكَذَلِكَ يَحِقُّ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالرَّسُولِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولئِكَ الْأَحْزابُ، قَصَدَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْأَحْزَابَ الَّذِينَ جَعَلَ الْجُنْدَ الْمَهْزُومَ هُمْ هُمْ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ، وَلَقَدْ ذكرت تَكْذِيبَهُمْ أَوَّلًا فِي الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْتِثْنَائِيَّةِ، فَأَوْضَحَهُ فِيهَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْزَابِ كَذَّبَ الرُّسُلَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَدْ كَذَّبُوا جَمِيعًا، وَفِي تَكْرِيرِ التَّكْذِيبِ وَإِيضَاحِهِ بَعْدَ إِبْهَامِهِ، وَالتَّنْوِيعِ فِي تَكْرِيرِهِ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ أَوَّلًا، وَبِالِاسْتِثْنَاءِ ثَانِيًا، وَمَا فِي الِاسْتِثْنَائِيَّةِ مِنَ الْوَضْعِ عَلَى وَجْهِ التَّوْكِيدِ وَالتَّخْصِيصِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الْمُسَجَّلَةِ عَلَيْهِمْ بِاسْتِحْقَاقِ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَأَبْلَغِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَحَقَّ عِقابِ: أَيْ فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ أُعَاقِبَهُمْ حَقَّ عِقَابِهِمْ. انتهى.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٥ الى ٤٠]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
الْفَوَاقُ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا: الزَّمَانُ الَّذِي مَا بَيْنَ حَلْبَتَيِ الْحَالِبِ وَرَضْعَتَيِ الرَّاضِعِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْعِبَادَةُ قَدْرُ فَوَاقِ النَّاقَةِ».
وَأَفَاقَتِ النَّاقَةُ إِفَاقَةً: اجْتَمَعَتِ الْفِيقَةُ فِي ضَرْعِهَا فَهِيَ مُفِيقٌ وَمُفِيقَةٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَالْفِيقَةُ: اللَّبَنُ الَّذِي يَجْتَمِعُ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَيُجْمَعُ عَلَى
أَفْوَاقٍ، وَأَفَاوِيقُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَمُؤَرِّجٌ: الْفَوَاقُ، بِالْفَتْحِ: الْإِفَاقَةُ وَالِاسْتِرَاحَةُ. الْقِطُّ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّكِّ: الْقِطُّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: الْقِطُّ: الْكِتَابُ بِالْجَوَائِزِ، وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتَهُ | بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ |
قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَمَا | يُجْبَى إِلَيْهِمْ بِهَا وَالْقِطُّ وَالْعِلْمُ |
عَلَا أَعْلَاهُ. وَالسُّورُ: حَائِطُ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. الشَّطَطُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَتَخَطِّي الْحَقِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَطَطْتُ عَلَى فُلَانٍ وَأَشْطَطْتُ: جُرْتُ فِي الْحُكْمِ. التِّسْعُ: رُتْبَةٌ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٌ، وكسر التاء أشهر من الْفَتْحِ. النَّعْجَةُ: الْأُنْثَى مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَمِنَ الضَّأْنِ، وَيُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمَرْأَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
هُمَا نَعْجَتَانِ مِنْ نِعَاجِ تِبَالَةٍ | لِذِي جُؤْذَرَيْنِ أَوْ كَبَعْضٍ لَدَى هَكِرِ |
أَنَا أَبُوهُنَّ ثَلَاثٌ هُنَّهْ | رَابِعَةٌ فِي الْبَيْتِ صُغْرَاهُنَّهْ |
وَنَعْجَتِي خَمْسًا تُوَفِّيهُنَّهْ | إِلَّا فَتًى سَجْحٌ يُغَذِّيهُنَّهْ |
قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَتْ | تُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ |
أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ | مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرَا |
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ لَهُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
، أَيْ يَدِيمُونَ لَهُ الْقِيَامَ، حَكَاهُ قُطْرُبٌ.
وَأَنْشَدَ النَّابِغَةُ:
لَنَا قُبَّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفَنَائِهَا | عِتَاقُ الْمَهَارَى وَالْجِيَادِ الصَّوَافِنِ |
لَعَمْرِي لَقَدْ لَاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ | إِلَى ضَوْءِ نَارٍ فِي بِقَاعٍ تُحَرَّقُ |
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، بِنَصْبِهِمَا، عَطْفًا عَلَى الْجِبَالِ يُسَبِّحْنَ، عَطْفَ مَفْعُولٍ عَلَى مَفْعُولٍ، وَحَالٍ عَلَى حَالٍ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ هِنْدًا مجردة، ودعدا لا بسة. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْجَحْدَرِيُّ: وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ، بِرَفْعِهِمَا، مبتدأ وخبر، أو جاء مَحْشُورَةً بِاسْمِ الْمَفْعُولِ، صفحة رقم 145
لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا تَحْشِرُ شَيْئًا، إِذْ حَاشِرُهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَحَشْرُهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي لَهُ عَلَى دَاوُدَ، أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَبَلِ وَالطَّيْرِ لِأَجْلِ دَاوُدَ، أَيْ لِأَجْلِ تَسْبِيحِهِ. سَبَّحَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّعُ تَسْبِيحَهُ، وَوُضِعَ الْأَوَّابُ مَوْضِعَ الْمُسَبِّحِ. وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، أَيْ كُلٌّ مِنْ دَاوُدَ وَالْجِبَالِ وَالطَّيْرِ أَوَّابٌ، أَيْ مُسَبِّحٌ مُرْجِعٌ لِلتَّسْبِيحِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَشَدَدْنا، مُخَفَّفًا: أَيْ قَوَّيْنَا، كَقَوْلِهِ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «١». وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِشَدِّ الدَّالِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ شَامِلَةٌ لِمَا وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قُوَّةٍ وَجُنْدٍ وَنِعْمَةٍ، فَالتَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا يَظْهَرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْجُنُودِ. قِيلَ:
كَانَ يَبِيتُ حَوْلَ مِحْرَابِهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ مُسْلِمٍ يَحْرُسُونَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ وَقِيلَ: بِهَيْبَةٍ قَذَفَهَا اللَّهُ لَهُ فِي قُلُوبِ قَوْمِهِ. والْحِكْمَةَ هُنَا: النُّبُوَّةُ، أَوِ الزَّبُورُ، أَوِ الْفَهْمُ فِي الدِّينِ، أَوْ كُلُّ كَلَامٍ، وَلَقْنُ الْحَقِّ أَقْوَالٌ. وَفَصْلَ الْخِطابِ،
قَالَ عَلِيٌّ وَالشَّعْبِيُّ: إِيجَابُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَإِصَابَتُهُ وَفَهْمُهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَلِمَةُ أَمَّا بَعْدُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا وَفَصَلَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ يَفْتَتِحُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَحْمِيدِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْغَرَضِ الْمَسُوقِ إِلَيْهِ، فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: أَمَّا بَعْدُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخِطَابِ: الْقَصْدُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِصَارٌ مُخِلٌّ، وَلَا إِشْبَاعٌ مُمِلٌّ وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصْلٌ لَا نَذِرٌ وَلَا هَذِرٌ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ كَمَّلَ نَفْسَ نَبِيِّهِ دَاوُدَ بِالْحِكْمَةِ، أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ كَمَالِ خَلْقِهِ فِي النُّطْقِ وَالْعِبَادَةِ فَقَالَ: وَفَصْلَ الْخِطابِ.
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ: لَمَّا أَثْنَى تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا أَثْنَى، ذَكَرَ قِصَّتَهُ هَذِهِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ مِثْلَ قِصَّتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّعْظِيمِ لِقَدْرِهِ، وَإِنْ تَضَمَّنَتِ اسْتِغْفَارَهُ رَبَّهُ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِغْفَارِ مَا يُشْعِرُ بِارْتِكَابِ أَمْرٍ يُسْتَغْفَرُ مِنْهُ، وَمَا زَالَ الِاسْتِغْفَارُ شِعَارَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ. وَمَجِيءُ مِثْلِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا يَكُونُ لِغَرَابَةِ مَا يَجِيءُ مَعَهُ مِنَ الْقَصَصِ، كَقَوْلِهِ: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى «٢»، فَيَتَهَيَّأُ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ وَيُصْغِي لِذَلِكَ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَشْيَاءَ لَا تُنَاسِبُ مَنَاصِبَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى أَلْفَاظِ الْآيَةِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، فَالْخَبَرُ أصله
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٩.
مَصْدَرٌ، فَلِذَلِكَ تَصْلُحُ لِلْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ وَفُرُوعِهِمَا، وَهُنَا جَاءَ لِلْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِذْ تَسَوَّرُوا: إِذْ دَخَلُوا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَخَصْمٍ يُعِدُّونَ الدُّخُولَ كَأَنَّهُمْ | قُرُومٌ غَيَارَى كَلُّ أَزْهَرَ مُصْعَبِ |
وَقِيلَ: الْخَصْمُ هُنَا اثْنَانِ، وَتَجَوَّزَ فِي الْعِبَارَةِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا إِخْبَارَ مَا زَادَ عَلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي التَّثْنِيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى خَصْمَانِ: فَرِيقَانِ، فَيَكُونُ تَسَوَّرُوا وَدَخَلُوا عَائِدًا عَلَى الْخَصْمِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ الْفَرِيقَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَصْمَانِ بِمَعْنَى فَرِيقَانِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: بَغَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «١»، بِمَعْنَى: فَأَمَّا إِنَّ هَذَا أَخِي. وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَيْهِ مَلَكَانِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ التَّحَاكُمَ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْحَبَهُمَا غَيْرُهُمَا. وَأُطْلِقَ عَلَى الْجَمِيعِ خَصْمٌ، وَعَلَى الْفَرِيقَيْنِ خَصْمَانِ، لِأَنَّ مَنْ جَاءَ مَعَ مُتَخَاصِمٍ لِمُعَاضَدَةٍ فَهُوَ في سورة خَصْمٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُطْلَقَ عَلَيْهِ التَّسْمِيَةُ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، وَهُوَ إِذْ أَتَاكَ، قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَرَدَ بِأَنَّ إِتْيَانَ النَّبَأِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي عَهْدِهِ، لَا فِي عَهْدِ دَاوُدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: الْعَامِلُ فِيهِ نَبَأٌ وَرُدَّ بِمَا رُدَّ بِهِ مَا قَبْلُهُ أَنَّ النَّبَأَ الْوَاقِعَ فِي عَهْدِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَصِحُّ إِتْيَانُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا أَرَدْتَ بِالنَّبَأِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا، لَمْ يَكُنْ نَاصِبًا. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَهَلْ أَتَاكَ تَخَاصُمُ الْخَصْمِ؟ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِالْخَصْمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَإِذْ دَخَلُوا بَدَلٌ مِنْ إِذْ الْأُولَى وَقِيلَ: يَنْتَصِبُ بِتَسَوَّرُوا.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ إِنْسَانَيْنِ، فَطَلَبَا أَنْ يَدْخُلَا عَلَيْهِ، فَوَجَدَاهُ فِي يَوْمِ عِبَادَتِهِ، فَمَنَعَهُمَا، فَتَسَوَّرَا عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَانِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَّأَ زَمَانَهُ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ: يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، وَيَوْمًا لِلْقَضَاءِ، وَيَوْمًا لِلِاشْتِغَالِ بِخَوَاصِّ أُمُورِهِ، وَيَوْمًا لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَعِظُهُمْ وَيُبْكِيهِمْ.
فَجَاءُوهُ فِي غَيْرِ الْقَضَاءِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَيْهِ مِنْ فَوْقٍ، وَفِي يَوْمِ الِاحْتِجَابِ، وَالْحَرَسُ حَوْلَهُ لَا يَتْرُكُونَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَخَافَ أَنْ يُؤْذُوهُ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَزَعُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ
أهل ملكته قَدِ اسْتَهَانُوهُ حَتَّى تَرَكَ بَعْضُهُمُ الِاسْتِئْذَانَ، فَيَكُونَ فَزَعُهُ عَلَى فَسَادِ السِّيرَةِ، لَا مِنَ الدَّاخِلِينَ. وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: فَزِعَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا آخِذٌ بِرَأْسِ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ: فَزِعَ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى مِنْ تَسَوُّرِهِمْ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ جِدًّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَشْهُرٍ مَعَ أَعْوَانٍ وَكَثْرَةِ عَدَدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا قَالَا: لَمْ نَتَوَصَّلْ إِلَيْكَ إِلَّا بِالتَّسَوُّرِ لِمَنْعِ الْحِجَابِ، وَخِفْنَا تَفَاقُمَ الْأَمْرِ بَيْنَنَا، فَقَبِلَ دَاوُدُ عُذْرَهُمْ. وَلَمَّا أَدْرَكُوا مِنْهُ الْفَزَعَ قَالُوا: لَا تَخَفْ، أَيْ لَسْنَا مِمَّنْ جَاءَ إِلَّا لِأَجْلِ التَّحَاكُمِ. خَصْمانِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَوْصُولًا بِقَوْلِهِمَا: لَا تَخَفْ، بادرا بِإِخْبَارِ مَا جَاءَا إِلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَهُمْ: مَا أَمْرُكُمْ؟ فَقَالُوا: خَصْمَانِ، أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ. بَغى: أَيْ جَارَ، بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَكِنَّ الْفَتَى حَمْلَ بْنَ بَدْرٍ | بَغَى وَالْبَغْيُ مَرْتَعُهُ وَخِيَمُ |
إِنَّ هَذَا أَخِي: هُوَ قَوْلُ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا، وَأَخِي عَطْفُ بَيَانٍ عِنْدَ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَبَدَلٌ أَوْ خَبَرٌ لَإِنَّ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَالْأُخُوَّةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ، إِذْ هُمَا مَلَكَانِ، لَكِنَّهُمَا لَمَّا ظَهَرَا فِي صُورَةِ إِنْسَانَيْنِ تَكَلَّمَا بِالْأُخُوَّةِ، وَمَجَازُهَا أَنَّهَا إِخْوَةٌ فِي الدِّينِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الصُّحْبَةِ وَالْمُرَافَقَةِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الشَّرِكَةِ وَالْخُلْطَةِ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخَوَاتِ تَقْتَضِي مَنْعَ الِاعْتِدَاءِ، وَيُنْدَبُ إِلَى الْعَدْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، بِكَسْرِ التَّاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
نَعْجَةً، بِفَتْحِ النُّونِ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ هُرْمُزَ: بِكَسْرِ النُّونِ، وَهِيَ لُغَةٌ لبعض بني تميم.
قِيلَ: وَكَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنِ الزَّوْجَةِ. فَقالَ أَكْفِلْنِيها: أَيْ رُدَّهَا فِي كَفَالَتِي. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: اجْعَلْهَا كِفْلِي، أَيْ نَصِيبِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطِنِيهَا وَعَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:
تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: ضُمَّهَا إِلَيَّ حَتَّى أَكْفُلَهَا. وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قَالَ صفحة رقم 148
الضَّحَّاكُ: إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ أَفْصَحَ مِنِّي، وَإِنْ حَارَبَ كَانَ أَبْطَشَ مِنِّي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ أَوْجَهَ مِنِّي وَأَقْوَى، فَإِذَا خَاطَبْتُهُ كَانَ كَلَامُهُ أَقْوَى مِنْ كَلَامِي، وَقُوَّتُهُ أَعْظَمَ مِنْ قُوَّتِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَاءَنِي مِحْجَاجٌ لَمْ أَقْدِرْ أَنْ أُورِدَ عَلَيْهِ مَا أَرُدُّهُ بِهِ. وَأَرَادَ بِالْخِطَابِ: مُخَاطَبَةَ الْمُحَاجِّ الْمُجَادِلِ، أَوْ أَرَادَ خَطِيبَ الْمَرْأَةِ، وَخَطَبَهَا هُوَ فَخَاطَبَنِي خِطَابًا: أَيْ غَالَبَنِي فِي الْخِطْبَةِ، فَغَلَبَنِي حَيْثُ زُوِّجَهَا دُونِي وَقِيلَ: غَلَبَنِي بِسُلْطَانِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ خِلَافَهُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ بِبِلَادِنَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ سَيْرِي بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمْتُهُ فِي أَنْ يَسْأَلَ لِي رَجُلًا حَاجَةً، فَقَالَ لِي: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ طَلَبَ السُّلْطَانِ للحاجة غضب لَهَا؟ فَقُلْتُ: أَمَّا إِذَا كَانَ عَدْلًا فَلَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَطَلْحَةُ: وَعَزَنِي، بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: حَذَفَ الزَّايَ الْوَاحِدَةَ تَخْفِيفًا، كَمَا قَالَ أَبُو زبيد:
أحسن به فهز إِلَيْهِ شُوسُ وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَعَازَّنِي، بِأَلِفٍ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ: أَيْ وَغَالَبَنِي. وَالظَّاهِرُ إِبْقَاءُ لَفْظِ النَّعْجَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ كَوْنِهَا أُنْثَى الضَّأْنِ، وَلَا يُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمَرْأَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ كَانَ صَادِرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، عَلَى سَبِيلِ التَّصْوِيرِ لِلْمَسْأَلَةِ وَالْفَرْضِ لَهَا مَرَّةً غَيْرَ تَلَبُّسٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَمَثَّلُوا بِقِصَّةِ رَجُلٍ لَهُ نَعْجَةٌ، وَلِخَلِيطِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، فَأَرَادَ صَاحِبُهُ تَتِمَّةَ الْمِائَةِ، فَطَمِعَ فِي نَعْجَةِ خَلِيطِهِ، وَأَرَادَ انْتِزَاعَهَا مِنْهُ وَحَاجَّهُ فِي ذَلِكَ مُحَاجَّةَ حَرِيصٍ عَلَى بُلُوغِ مُرَادِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ وَالتَّمْثِيلُ أَبْلَغُ فِي الْمَقْصُودِ وَأَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ.
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ: لَيْسَ هَذَا ابْتِدَاءً مِنْ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِثْرَ فَرَاغِ لَفْظِ الْمُدَّعِي، وَلَا فُتْيَا بِظَاهِرِ كَلَامِهِ قَبْلَ ظُهُورِ مَا يَجِبُ، فَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ، أَيْ لَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُ، لَقَدْ ظَلَمَكَ. وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُحْكَ فِي الْقُرْآنِ اعْتِرَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا، إِذْ لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ إِلَّا بَعْدَ إِجَابَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ مِنْ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمُدَّعِي مَخَايِلَ الضَّعْفِ وَالْهَضِيمَةِ، فَحَمَلَ أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ مَظْلُومٌ، كَمَا تَقُولُ، فَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَاسْتَعْجَلَ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ ظَلَمَكَ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الشَّاكِي قَالَ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ؟
فَأَقَرَّ فَقَالَ لَهُ: لَئِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَى الْحَقِّ لَأَكْسِرَنَّ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ، وَقَالَ لِلثَّانِي: لَقَدْ
ظَلَمَكَ
فَتَبَسَّمَا عِنْدَ ذَلِكَ وَذَهَبَا، وَلَمْ يَرَهُمَا لِحِينِهِ، وَرَأَى أَنَّهُمَا ذَهَبَا نَحْوَ السَّمَاءِ بِمَرْأًى مِنْهُ.
وَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَضَمَّنَ السُّؤَالَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ، أَيْ بِإِضَافَةِ نَعْجَتِكِ عَلَى سَبِيلِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِإِلَى.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ: هَذَا مِنْ كَلَامِ دَاوُدَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَمَانَهُ كَانَ فِيهِ الظُّلْمُ وَالِاعْتِدَاءُ كَثِيرًا. وَالْخُلَطَاءُ: الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ خَلَطُوا أَمْوَالَهُمْ، الْوَاحِدُ خَلِيطٌ. قَصَدَ دَاوُدُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمَوْعِظَةَ الْحَسَنَةَ، وَالتَّرْغِيبَ فِي إِيثَارِ عَادَةِ الْخُلَطَاءِ الصُّلَحَاءِ الَّذِينَ حَكَمَ لَهُمْ بِالْقِلَّةِ، وَأَنْ يُكَرِّهَ إِلَيْهِمُ الظُّلْمَ، وَأَنْ يُسَلِّيَ الْمَظْلُومَ عَنْ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ خَلِيطِهِ، وَأَنَّ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْخُلَطَاءِ أُسْوَةً. وقرىء: لَيَبْغِيَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ النُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَأَصْلُهُ: لَيَبْغِيَنْ، كَمَا قَالَ:
أَضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا يُرِيدُ: اضْرِبَنْ، وَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ ذَلِكَ القسم، وجوابه خبر لأن. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، يَكُونُ ليبغي خبرا لأن. وقرىء: لَيَبْغِ، بِحَذْفِ الْيَاءِ كَقَوْلِهِ:
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ أَيْ: تَفِدِي عَلَى أحد القولين. وقَلِيلٌ: خبره مقدّم، وما زَائِدَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّعَجُّبِ، وَهُمْ مُبْتَدَأٌ. وَظَنَّ داوُدُ: لَمَّا كَانَ الظَّنُّ الْغَالِبُ يُقَارِبُ الْعِلْمَ، اسْتُعِيرَ لَهُ، وَمَعْنَاهُ: وَعَلِمَ دَاوُدُ وَأَيْقَنَ أَنَّا ابْتَلَيْنَاهُ بِمُحَاكَمَةِ الْخَصْمَيْنِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَجِيءَ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ. وَقَالَ: لَسْنَا نَجِدُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ بَيْنَ مُعْتَقَدَيْنِ غَلَبَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَتُوقِعُهُ الْعَرَبُ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى الْحَوَاسِّ وَدَلَالَةِ الْيَقِينِ التَّامِّ، وَلَكِنْ يَخْلِطُ النَّاسُ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ: ظَنَّ بِمَعْنَى أَيْقَنَ، وَطَوَّلَ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي ذَلِكَ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَنَّاهُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو رجاء، والحسن:
بخلاف عنه، شَدُّ التَّاءِ وَالنُّونِ مُبَالَغَةً وَالضَّحَّاكُ: أَفْتَنَّاهُ، كَقَوْلِهِ:
لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهِيَ بِالْأَمْسِ أَفْتَنَتْ وَقَتَادَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ يُخَفِّفُ التَّاءَ وَالنُّونَ، وَالْأَلِفُ ضَمِيرُ الْخَصْمَيْنِ.
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ، رَاكِعًا: حَالٌ، وَالْخُرُورُ: الْهَوَى إِلَى الْأَرْضِ. فَإِمَّا أَنَّهُ عَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ، وَإِمَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَ أَحْوَالِ الْخُرُورِ، أَيْ رَاكِعًا لِيَسْجُدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ سَاجِدًا حَتَّى يَرْكَعَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَخَرَّ مِنْ رُكُوعِهِ، أَيْ
سَجَدَ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاكِعًا. وَقَالَ قَوْمٌ: يُقَالُ خَرَّ لِمَنْ رَكَعَ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْأَرْضِ. وَالَّذِي يُذْهَبُ إِلَيْهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ الْمُتَسَوِّرِينَ الْمِحْرَابَ كَانُوا مِنَ الْإِنْسِ، دَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْمَدْخَلِ، وَفِي غَيْرِ وَقْتِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ، وَأَنَّهُ فَزِعَ مِنْهُمْ ظانا أنهم يغتالونه، إذ كَانَ مُنْفَرِدًا فِي مِحْرَابِهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ. فَلَمَّا اتَّضَحَ لَهُ أَنَّهُمْ جَاءُوا فِي حُكُومَةٍ، وَبَرَزَ مِنْهُمُ اثْنَانِ لِلتَّحَاكُمِ، كَمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنَّ دُخُولَهُمْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمِنْ تلك الجهة إنقاذ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَنْ يَغْتَالُوهُ، فَلَمْ يَقَعْ مَا كَانَ ظَنُّهُ، فَاسْتَغْفَرَ مِنْ ذَلِكَ الظَّنِّ، حَيْثُ أُخْلِفَ وَلَمْ يَكُنْ يَقَعُ مَظْنُونُهُ، وَخَرَّ سَاجِدًا، أَوْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَغَفَرَ لَهُ ذَلِكَ الظَّنَّ وَلِذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ سِوَى قَوْلِهِ: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، وَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَايَا، لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ضَرُورَةَ أَنْ لَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَطَلَتِ الشَّرَائِعُ، وَلَمْ نَثِقْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ يَمُرُّ عَلَى مَا أَرَادَهُ تَعَالَى، وَمَا حَكَى الْقَصَّاصُ مِمَّا فِيهِ غَضٌّ عَنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ طَرَحْنَاهُ، وَنَحْنُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَنُؤْثِرُ حُكْمَ الْعَقْلِ فِي كُلِّ شُبْهَةٍ | إِذَا آثَرَ الْأَخْبَارَ جُلَّاسُ قَصَّاصِ |
جَعْلُهُ تَعَالَى دَاوُدَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى مَكَانَتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَهُ وَاصْطِفَائِهِ، وَيَدْفَعُ فِي صَدْرِ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ شَيْئًا مِمَّا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ. وَاحْتَمَلَ لَفْظُ خَلِيفَةٍ أَنْ صفحة رقم 151
يَكُونَ مَعْنَاهُ: تَخْلُفُ مَنْ تَقَدَّمَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَنْ يُعْلِيَ قَدْرَكَ بِجَعْلِكَ مَلِكًا نَافِذَ الْحُكْمِ، وَمِنْهُ قِيلَ: خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. وَاسْتُدِلَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى احْتِيَاجِ الْأَرْضِ إِلَى خَلِيفَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ، بَلْ لُزُومُهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَالْإِجْمَاعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يُقَالُ خَلِيفَةُ اللَّهِ إِلَّا لِرَسُولٍ. وَأَمَّا الْخُلَفَاءُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَلِيفَةُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمَا يَجِيءُ فِي الشِّعْرِ مِنْ تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمْ خَلِيفَةَ اللَّهِ فَذَلِكَ تَجَوُّزٌ، كَمَا قَالَ قَيْسُ الرُّقَيَّاتِ:
خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي بَرِّيَّتِهِ | حَقَّتْ بِذَاكَ الْأَقْلَامُ وَالْكُتُبُ |
وَلَمَّا ذِكْرُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ الْإِضْلَالُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ذَكَرَ عِقَابَ الضَّالِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَضِلُّونَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَضَلَّهُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى صَارُوا ضَالِّينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَأَبُو حَيْوَةَ: بِضَمِّ الْيَاءِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ لَا يضل إلا ضال فِي نَفْسِهِ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أوضح. وبِما نَسُوا: مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَهُمْ، وَنَسُوا: تَرَكُوا، ويَوْمَ: يجوز أن يكون منصوب بِنَسُوا، أَوْ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَهُمْ، وَيَكُونَ النِّسْيَانُ عِبَارَةً عَنْ ضَلَالِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَانْتَصَبَ باطِلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ مُبْطِلِينَ، أَوْ ذَوِي بَاطِلٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. مَعْنًى بَاطِلًا: عَبَثًا.
ذلِكَ: أَيْ كَوْنُ خَلْقِهَا بَاطِلًا، ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ مَظْنُونُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ، وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينِ بِأَنَّ خالق السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُمْ مِنْ حَيْثُ أَنْكَرُوا الْمَعَادَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ ظَانُّونَ أَنَّ خَلْقَ ذَلِكَ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ، وَأَنَّ خَلْقَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَبَثٌ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ «١». فَنَبَّهَ عَلَى المعاد
وَالرُّجُوعِ إِلَى جَزَائِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِ، عَامَلِ الصَّالِحَاتِ، وَالْمُفْسِدِ مِنَ التَّبَايُنِ، وَأَنَّهُمَا لَيْسَا سِيَّيْنِ، وَقَابَلَ الصَّلَاحَ بِالْفَسَادِ، وَالتَّقْوَى بِالْفُجُورِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَقِيلَ فِي قوم من مشركي قُرَيْشٍ قَالُوا: نَحْنُ لَنَا فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا لَنَا فِي الدُّنْيَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مُعَيَّنِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلِيًّا وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ بن الحارث، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعُتْبَةَ وشيبة والوليد بن عتبة وَوَصَفَ كُلًّا بِمَا نَاسَبَهُ. والاستفهام بأم فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي عِنْدَ اللَّهِ مَنْ أَصْلَحَ وَمَنْ أَفْسَدَ، وَلَا مَنِ اتَّقَى وَمَنْ فَجَرَ، وَكَيْفَ تَكُونُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَنْ أَطَاعَ وَمَنْ عَصَى؟ إِذَنْ كَانَ يَبْطُلُ الْجَزَاءُ، وَالْجَزَاءُ لَا مَحَالَةَ وَاقِعٌ، وَالتَّسْوِيَةُ مُنْتَفِيَةٌ.
وَلَمَّا انْتَفَتِ التَّسْوِيَةُ، بَيْنَ مَا تَصْلُحُ بِهِ لِمُتْبِعَةِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ، وَارْتِفَاعُهُ عَلَى إضمار متبدأ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
مُبارَكٌ، عَلَى الصِّفَةِ. وقرىء: مُبَارَكًا، عَلَى الْحَالِ اللَّازِمَةِ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَشَدِّ الدَّالِ، وَأَصْلُهُ لِيَتَدَبَّرُوا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ بِهَذَا الْأَصْلِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَالْأَصْلُ: لِتَتَدَبَّرُوا بِتَاءَيْنِ، فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهَا، أَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ أَمِ التَّاءُ الَّتِي تَلِيهَا؟ وَاللَّامُ فِي لِيَدَّبَّرُوا لَامُ كَيْ، وَأَسْنَدَ التَّدَبُّرَ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ التَّفَكُّرُ فِي الْآيَاتِ، وَالتَّأَمُّلُ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ. وَأَسْنَدَ التَّذَكُّرَ إِلَى أُولِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ ذَا الْعَقْلِ فِيهِ مَا يَهْدِيهِ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ عَقْلُهُ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَا يُذَكِّرُهُ فَيَتَذَكَّرَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ، أَيْ سُلَيْمَانُ. وقرىء: نَعِمْ عَلَى الْأَصْلِ، كَمَا قَالَ:
نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْقَوْمِ الشُّطُرُ أَثْنَى تَعَالَى عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ، أَوْ لِكَثْرَةِ تَسْبِيحِهِ. إِذْ عُرِضَ، النَّاصِبُ لِإِذْ، قِيلَ: أَوَّابٌ، وَقِيلَ: اذْكُرْ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: عُرِضَتْ عَلَيْهِ آلَافٌ مِنَ الْخَيْلِ تَرَكَهَا أَبُوهُ لَهُ، وَقِيلَ: أَلْفٌ وَاحِدٌ، فَأُجْرِيَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ عَشِيًّا، فَتَشَاغَلَ بِحُسْنِهَا وَجَرْيِهَا وَمَحَبَّتِهَا عَنْ ذِكْرٍ لَهُ، فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيَّ. فَطَفِقَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهَا وَعَرَاقِيبَهَا بِالسَّيْفِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ الذُّهُولِ عَنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ، فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ أَسْرَعَ مِنْهَا الرِّيحَ. وَقَالَ قَوْمٌ،
مِنْهُمُ الثَّعْلَبِيُّ: كَانَتْ بِالنَّاسِ مَجَاعَةٌ، وَلُحُومُ الْخَيْلِ لَهُمْ حَلَالٌ، فَعَقَرَهَا لِتُؤْكَلَ عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ، وَنَحْرِ الْهَدْيِ عِنْدَنَا. انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَلْفَاظٌ فِيهَا غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ كَفَيْنَا عَنْهُ. وَالْخَيْرُ فِي قَوْلِهِ حُبَّ الْخَيْرِ: أَيْ هَذَا الْقَوْلُ يُرَادُ بِهِ الْخَيْلُ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْخَيْلَ الْخَيْرَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ، وَانْتَصَبَ حُبَّ الْخَيْرِ، قِيلَ: عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِتَضَمُّنِ أَحْبَبْتُ مَعْنَى آثَرْتُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ التَّشْبِيهِيِّ، أَيْ أَحْبَبْتُ الْخَيْلَ كَحُبِّ الْخَيْرِ، أَيْ حُبًّا مِثْلَ حُبِّ الْخَيْرِ. وَقِيلَ:
عُدِّيَ بِعَنْ فَضَمِنَ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِهَا، أَيْ أَنَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، أَوْ جَعَلْتُ حُبَّ الْخَيْرِ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ الْهَمْدَانِيُّ فِي كِتَابِ التِّبْيَانِ أَنَّ أَحْبَبْتُ بِمَعْنَى:
لَزِمْتُ، مِنْ قَوْلِهِ:
مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إِذْ أَحَبَّا وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَحْبَبْتُ: سَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَبَّ الْبَعِيرُ إِذَا أُعْيِيَ وَسَقَطَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: حَبَّ الْبَعِيرُ: بَرَكَ، وَفُلَانٌ: طَأْطَأَ رَأْسَهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: بَعِيرٌ مُحِبٌّ، وَقَدْ أَحَبَّ إِحْبَابًا، إِذَا أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ كَسْرٌ، فَلَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَمُوتَ. قَالَ ثَعْلَبٌ:
يُقَالُ لِلْبَعِيرِ الْحَسِيرِ مُحِبٌّ، فَالْمَعْنَى: قَعَدْتُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَحُبَّ الْخَيْرِ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي تَوارَتْ عَائِدٌ عَلَى الصَّافِناتُ، أَيْ دَخَلَتِ اصْطَبْلَاتِهَا، فَهِيَ الْحِجَابُ. وَقِيلَ: حتى تورات فِي الْمُسَابَقَةِ بِمَا يَحْجُبُهَا عَنِ النَّظَرِ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ الْعَشِيِّ عَلَيْهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عُرِضَ عَلَى سُلَيْمَانَ الْخَيْلُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِّي فِي صَلَاتِي، فَأَزَالُوهَا عَنْهُ حَتَّى دَخَلَتْ فِي الِاصْطَبْلَاتِ فَقَالَ هُوَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ، أَيِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ ذِكْرِ رَبِّي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَشَغَلَنِي ذَلِكَ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَيْلِ حَتَّى أُدْخِلَتِ اصْطَبْلَاتِهَا، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ يَمْسَحُ أَعْرَافَهَا وَسُوقَهَا مَحَبَّةً لَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ: مَسْحُهُ بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ لَمْ يَكُنْ بِالسَّيْفِ بَلْ بِيَدَيْهِ تَكْرِيمًا لَهَا وَمَحَبَّةً، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: بَلْ غَسْلًا بِالْمَاءِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: إِنَّ هَذَا الْمَسْحَ كَانَ فِي السُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ بِوَسْمِ حَبْسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ مَنَاصِبَ الْأَنْبِيَاءِ، لَا الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِلْجُمْهُورِ، فَإِنَّ فِي قِصَّتِهِ مَا لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بالنسبة للأنبياء.
وحَتَّى تَوارَتْ: غَايَةٌ، فَالْفِعْلُ يَكُونُ قَبْلَهَا مُتَطَاوِلًا حَتَّى تَصِحَّ الْغَايَةُ، فَأَحْبَبْتُ:
مَعْنَاهُ أَرْدْتُ الْمَحَبَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ؟ قُلْتُ:
بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَالَ رُدُّوهَا عَلَيَّ، فَأَضْمَرُوا ضَمِيرَ مَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَمَاذَا قَالَ سُلَيْمَانُ؟ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ مُقْتَضٍ لِلسُّؤَالِ اقْتِضَاءً ظَاهِرًا. ثُمَّ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَفْظًا فِيهِ غَضٌّ مِنَ النُّبُوَّةِ فَتَرَكْتُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْإِضْمَارِ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، إِذْ الْجُمْلَةُ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ حِكَايَةِ الْقَوْلِ وَهُوَ: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَجُمْلَةُ رُدُّوها عَلَيَّ مَحْكِيَّتَانِ بِقَالَ، وَطَفِقَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لِلشُّرُوعِ فِي الفعل، وحذف غيرها لِدَلَالَةِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ، أَيْ فَطَفِقَ يَمْسَحُ مَسْحًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَسْحاً: وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مِسَاحًا، عَلَى وَزْنِ قِتَالٍ، وَالْبَاءُ فِي بِالسُّوقِ زَائِدَةٌ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ «١».
وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ وَرَأْسَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَائِدَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالسُّوقِ، بِغَيْرِ هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ فُعْلٍ، وَهُوَ جَمْعُ سَاقٍ، عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، كَأُسْدٍ وَأَسَدٍ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْهَمْزِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، لَكِنْ وَجْهُهَا فِي الْقِيَاسِ أَنَّ الضَّمَّةَ لَمَّا كَانَتْ تَلِي الْوَاوَ وَقُدِّرَ أَنَّهَا عَلَيْهَا فَهُمِزَتْ، كَمَا يَفْعَلُونَ بِالْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ. وَوَجْهُ هَمْزِ السُّوقِ مِنَ السَّمَاعِ أَنَّ أَبَا حَبَّةَ النُّمَيْرِيَّ كَانَ يَهْمِزُ كُلَّ وَاوٌ سَاكِنَةٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، وَكَانَ يَنْشُدُ:
حُبُّ الْمُؤْقِدِينَ إِلَى مُؤْسَى انْتَهَى. وَلَيْسَتْ ضَعِيفَةً، لِأَنَّ السَّاقَ فِيهِ الْهَمْزَةُ، وَوَزْنُ فَعْلٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا الْوَاوُ، رَوَاهُمَا بَكَّارٌ عَنْ قُنْبُلٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالسَّاقِ مُفْرَدًا، اكْتَفَى بِهِ عَنِ الْجَمْعِ لِأَمْنِ اللَّبْسِ. وَمِنْ غَرِيبِ الْقَوْلِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رُدُّوهَا عَائِدٌ عَلَى الشَّمْسِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَذِهِ الْخَيْلِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَكَاذِبَةٍ، سَوَّدُوا الْوَرَقَ بِذِكْرِهَا.
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً: نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَإِلْقَاءِ الْجَسَدِ أَقْوَالًا يَجِبُ بَرَاءَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا، يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي كُتُبِهِمْ، وَهِيَ مِمَّا لا يحل نقلها، وأما هِيَ مِنْ أَوْضَاعِ الْيَهُودِ وَالزَّنَادِقَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ الْفِتْنَةَ مَا هِيَ، وَلَا الْجَسَدَ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ كَوْنُهُ لَمْ يَسْتَثْنِ
فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمِلْ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَجَاءَتْهُ بِشِقِّ رَجُلٍ»
. قال
رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ».
فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً هُوَ هَذَا، وَالْجَسَدُ الْمُلْقَى هُوَ الْمَوْلُودُ شِقُّ رَجُلٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: مَرِضَ سُلَيْمَانُ مَرَضًا كَالْإِغْمَاءِ حَتَّى صَارَ عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا كَأَنَّهُ بِلَا رُوحٍ.
وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُ كَفَّارُ قُرَيْشٍ وَغَيْرُهُمْ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ وَقِصَّةَ سُلَيْمَانَ وَقِصَّةَ أَيُّوبَ لِيَتَأَسَّى بِهِمْ، وَذَكَرَ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الزُّلْفَى وَالْمَكَانَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَذْكُرَ مَنْ يَتَأَسَّى بِهِ مِمَّنْ نَسَبَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَيْهِ مَا يَعْظُمُ أَنْ يُتَفَوَّهَ بِهِ وَيَسْتَحِيلَ عَقْلًا وُجُودُ بَعْضِ مَا ذَكَرُوهُ، كَتَمَثُّلِ الشَّيْطَانِ بِصُورَةِ نَبِيٍّ، حَتَّى يَلْتَبِسَ أَمْرُهُ عند الناس، ويعتقدون أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَصَوِّرَ هُوَ النَّبِيُّ، وَلَوْ أَمْكَنَ وُجُودُ هَذَا، لَمْ يُوثَقْ بِإِرْسَالِ نَبِيٍّ، وَإِنَّمَا هَذِهِ مَقَالَةٌ مُسْتَرَقَةٌ مِنْ زَنَادِقَةِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ سَلَامَةَ أَذْهَانِنَا وَعُقُولِنَا مِنْهَا. ثُمَّ أَنابَ: أَيْ بَعْدِ امْتِحَانِنَا إِيَّاهُ، أَدَامَ الْإِنَابَةَ وَالرُّجُوعَ.
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي: هَذَا أَدَبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ هَضْمًا لِلنَّفْسِ وَإِظْهَارًا لِلذِّلَّةِ وَالْخُشُوعِ وَطَلَبًا لِلتَّرَقِّي فِي الْمَقَامَاتِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً»
، وَالِاسْتِغْفَارُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيْ مَا يَطْلُبُ الْمُسْتَغْفِرُ بِطَلَبِ الْأَهَمِّ فِي دِينِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَمْرُ دُنْيَاهُ، كَقَوْلِ نُوحٍ فِي مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «١» الْآيَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ طَلَبَ الْمُلْكِ كَانَ بَعْدَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ أَقَامَ فِي مُلْكِهِ عِشْرِينَ سَنَةً قَبْلَ هَذَا الِابْتِلَاءِ، وَأَقَامَ بَعْدَهَا عِشْرِينَ سَنَةً، فَيُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ فِي مُلْكٍ قَبْلَ الْمِحْنَةِ، ثُمَّ سَأَلَ بَعْدَهَا مُلْكًا مُقَيَّدًا بِالْوَصْفِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقَيْدِ، فَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَقَتَادَةُ: إِلَى مُدَّةِ حَيَاتِي، لَا أَسْلُبُهُ ويصير إلى غيري. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
إِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ قَصْدًا جَائِزًا، لِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَرْغَبَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِيمَا لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ، لَا سِيَّمَا بِحَسَبِ الْمَكَانَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَنْبَغِي، إِنَّمَا هِيَ لَفْظَةٌ مُحْتَمَلَةٌ لَيْسَتْ تَقْطَعُ فِي أَنَّهُ لَا يُعْطِي اللَّهُ نَحْوَ ذَلِكَ الْمُلْكِ لِأَحَدٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاشِئًا فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ وَوَارِثًا لَهُمَا فَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ رَبِّهِ مُعْجِزَةً، فَطَلَبَ عَلَى حَسَبِ إِلْفِهِ مُلْكًا زائدا على الممالك
زِيَادَةً خَارِقَةً لِلْعَادَةِ بَالِغَةً حَدَّ الْإِعْجَازِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، قَاهِرًا لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ، وَلَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً حَتَّى تَخْرِقَ الْعَادَاتِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي.
وَقِيلَ: كَانَ مُلْكًا عَظِيمًا، فَخَافَ أَنْ يُعْطَى مِثْلَهُ أَحَدٌ، فَلَا يُحَافِظُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ فِيهِ، كَمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ «١». وَقِيلَ: مُلْكًا لَا أُسْلَبُهُ، وَلَا يَقُومُ فِيهِ غَيْرِي مَقَامِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ فِيمَا اخْتَصَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ مَصَالِحَ فِي الدِّينِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ بِأَحْبَابِهِ غَيْرُهُ، وَأَوْجَبَتِ الْحِكْمَةُ اسْتِيهَابَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَوْهِبَهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ أَنْ لَا يَضْبُطَهُ عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ عِبَادِهِ. أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: مُلْكًا عَظِيمًا، فَقَالَ:
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إِلَّا عَظَمَةَ الْمُلْكِ وَسَعَتِهِ، كَمَا تَقُولُ لِفُلَانٍ:
مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَالِ، وَرُبَّمَا كَانَ لِلنَّاسِ أَمْثَالُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّكَ تُرِيدُ تَعْظِيمَ مَا عِنْدَهُ. انْتَهَى.
وَلَمَّا بَالَغَ فِي صِفَةِ هَذَا الْمُلْكِ الَّذِي طَلَبَهُ، أَتَى فِي صِفَتِهِ تَعَالَى بِاللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَقَالَ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ: أَيِ الْكَثِيرُ الْهِبَاتِ، لَا يَتَعَاظَمُ عِنْدَهُ هِبَةٌ. وَلَمَّا طَلَبَ الْهِبَةَ الَّتِي اخْتَصَّ بِطَلَبِهَا، وَهَبَهُ وَأَعْطَاهُ مَا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِفْرَادِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: الرِّيَاحُ بِالْجَمْعِ، وَهُوَ أَعَمُّ لِعَظَمِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْرَدُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ. تَجْرِي: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً، أَيْ جَارِيَةً، وَأَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِقَوْلِهِ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ.
بِأَمْرِهِ أَيْ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ جَرْيَهَا. رُخاءً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: مُطِيعَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَيِّبَةً. حَيْثُ أَصابَ: أَيْ حَيْثُ قَصَدَ وَأَرَادَ، حَكَى الزَّجَّاجُ عَنِ الْعَرَبِ. أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ: أَيْ قَصَدَ. وَعَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَصَدَاهُ لِيَسْأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ: أَيْنَ تُصِيبَانِ؟ فقال: هَذِهِ طَلِبَتُنَا. وَيُقَالُ: أَصَابَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا، وَأَنْشَدَ الثَّعْلَبِيُّ:
أَصَابَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ | فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصِلِ |
أَصَابَ: أَرَادَ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِلُغَةِ هَجَرَ. وَالشَّياطِينَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الرِّيحِ وكُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ: بَدَلٌ، وَأَتَى ببنية الْمُبَالَغَةِ، كَمَا قَالَ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ «١» الْآيَةَ، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
أَلَا سُلَيْمَانُ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ | قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ |
وَجَيْشُ الْجِنِّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ | يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ |
فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ | كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى الرُّشْدِ |
وَمَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ مُعَاقَبَةً | تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ |
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَهَبَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَأَقْدَرَهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ جِمَاعِهِنَّ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ هُنَا ذِكْرُ النِّسَاءِ، وَلَا مَا أُوتِيَ مِنَ الْقُدْرَةِ على ذلك، وبِغَيْرِ حِسابٍ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ عَطاؤُنا، أَيْ هَذَا عَطَاؤُنَا جَمًّا كَثِيرًا لَا تَكَادُ تَقْدِرُ عَلَى حَصْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حِسابٍ مِنْ تَمَامِ فَامْنُنْ. أَوْ أَمْسِكْ: أَيْ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ فِي إِعْطَاءِ مَنْ شِئْتَ أَوْ حِرْمَانِهِ، وَفِي إِطْلَاقِ مَنْ شِئْتَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ إِيثَاقِهِ.
وَخَتَمَ تَعَالَى قِصَّتَهُ بِمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ وَالِدِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحُسْنَ مَآبٍ، بالنصب عطفا على الزلفى. وقرأ الحسن،