
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- ١ - ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
- ٢ - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
- ٣ - كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته ههنا، وقوله تعالى ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ أَيْ وَالْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِلْعِبَادِ، وَنَفْعٌ لَهُمْ فِي المعاش والمعاد، قال الضحّاك ﴿ذِي الذكر﴾ كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذكركم﴾ أي تذكيركم (وبه قال قتادة واختاره ابن جرير رحمة الله).
وقال ابن عباس ﴿ذِي الذِّكْرِ﴾ ذِي الشَّرَفِ أَيْ ذِي الشَّأْنِ وَالْمَكَانَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ كِتَابٌ شَرِيفٌ، مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَاخْتَلَفُوا في جواب هذا القسم: فقال قَتَادَةُ: جَوَابُهُ ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: جَوَابُهُ مَا تضمنه سياق السورة بكمالها، والله أعلم، وقوله تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ أَيْ إن هذا القرآن لذكرى لِمَنْ يَتَذَكَّرُ وَعِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْكَافِرُونَ لِأَنَّهُمْ ﴿فِي عِزَّةٍ﴾ أَيِ استكباراً عنه وحمية، ﴿وَشِقَاقٍ﴾ أي ومخالفة لَهُ وَمُعَانَدَةٍ وَمُفَارَقَةٍ، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ مَا أَهْلَكَ به الأمم المكذبة قبلهم فقال تَعَالَى: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ أَيْ مِنْ أُمَّةٍ مُكَذِّبَةٍ، ﴿فَنَادَواْ﴾ أَيْ حِينَ جَاءَهُمُ العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى، وَلَيْسَ ذَلِكَ بمُجْدٍ عَنْهُمْ شَيْئًا، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: ﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ أي يهربون، قال التميمي: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾! قَالَ: لَيْسَ بِحِينِ نداء ولا نزعٍ ولا فرار، وعن ابن عباس: ليس بحين مغاث، نادوا بالنداء حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَأَنْشَدَ:
تذكَّرَ لَيْلَى لَاتَ حين تذكر
وقال محمد بن كعب: نَادَوْا بِالتَّوْحِيدِ حِينَ تَوَلَّتِ الدُّنْيَا عَنْهُمْ، وَاسْتَنَاصُوا لِلتَّوْبَةِ حِينَ تَوَلَّتِ الدُّنْيَا عَنْهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ أَرَادُوا التَّوْبَةَ فِي غَيْرِ حِينِ النِّدَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ ليس بحين فرار ولا إجابة، وعن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ وَلَا نِدَاءَ فِي غَيْرِ حِينِ النِّدَاءِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَهِيَ (لَاتَ) هِيَ (لَا) الَّتِي لِلنَّفْيِ زِيدَتْ مَعَهَا التَّاءُ، كَمَا تُزَادُ فِي ثُمَّ، فَيَقُولُونَ: ثمت، ورب، فيقولون: ربت.

وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: النَّوْصُ: التَّأَخُّرُ، وَالْبَوْصُ: التَّقَدُّمُ، ولهذا قال تبارك وتعالى: ﴿وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ أَيْ لَيْسَ الْحِينُ حِينَ فرار ولا ذهاب، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
صفحة رقم 197