فإنما سألوا تعجيل حظهم من العذاب، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. فهو مثل قولهم: " ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ﴾ [الأنفال: ٣٢] " الآية.
وقال السدي: إنما سألوا تعجيل رؤية حظهم من الجنة ورؤية منازلهم ليعلموا حقيقة ما يعدهم به محمد ﷺ.
وقال ابن جبير: سألو تعجيل حظهم من الجنة يتنعمون به في الدنيا.
وقيل: إنما سألو تعجيل رزقهم قبل وقته.
وقيل: إنما سألو تعجيل كتبهم التي تؤخذ بالإيمان والشمائل، لينظروا أبأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم، فيعلمون أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار، استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله جل ذكره.
هذا قوله تعالى ذكره: ﴿اصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ - إلى قوله - ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ منسوخ بالأمر بالقتال، أمر الله جل ذكره نبيه ﷺ بالصبر على قول المشركين والاحتمال منهم، وقد علم تعالى أنه سيأمرهم بقتالهم في وقت آخر، فينسخ الآخر الأول.
ثم قال: ﴿واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد﴾، أي: ذا القوة والبطش الشديد في ذات الله تعالى والصبر على طاعته.
يقال: أيد وآد للقوة كما يقال: العيب والعاب
قال قتادة: " أُعْطِيَ داود قوة في العباد وفقهاً في الإسلام، وذُكِرَ أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.
وقوله: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، أي: رَجَّاع عما يكره الله تعالى إلى ما يرضاه أواب وهو فعَّال للتكثير من آب يئوب إذا رجع.
قال مجاهد: أواب: رجاع عن الذنوب.
قال قتاجة: كان مطيعاً لله تعالى كثير الصلاة.
وقال السدى: الأوَّاب: المسبح.
ويروى أنه قام ليلة إلى الصباح فكأنه أُعْجِبَ بذلك فقيل لضفدع كلميه في أصل مِحْرَابِه، فقالت له: يا داود، تَعْجَبُ لقيام ليلة! هذا مقامي منذ عشرين سنة شكراً لله تعالى حين سلَّم / بيضي.
قال وهب: كان داود قد قسم الدهر أثلاثا، فيصير: يوم للعبادة، ويوماً للقضاء بين الناس، ويوما لقشاء حوائج أهله.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق﴾، أي: يسجن مع داود من وقت العصر إلى الليل، ومن صلاة الصبح إلى وقت صلاة الضحى.
يقال: أشرقت الشمس: إذا أضاءت وصفت، وشرقت إذا طلعت.
قال قتادة: كان داود إذا سبح سبحت الجبال معه.
واستدل ابن عباس على نص صلاة الضحى في القرآن بهذه الآية ﴿بالعشي والإشراق﴾، لأنه من أشرقت الشمس إذا وصفت وأضاءت. فإذا صلى داود
العصر وسبَّحَ سبحت الجبال معه، وإذا صلى الضحى (سبح وسبحت) الجبال معه.
﴿والطير مَحْشُورَةً﴾، أي: وسخرنا الطير مجموعة تسبح معه.
﴿كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾، أي: رجاع لأمره ومطيع له. فالهاء لداود وقيل: إلهاء لله تعالى. والمعنى كل لله مطيع، مسبح له. فكل " في القول الأولى للطير، وفي هذا الثاني: يجوز أن يكون للطير، ويجوز أن يكون لداود والجبال والطير.
ورُوي أنه كان إذا سبح أجابته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه.
وقال قتادة: محشورة: مسخرة.
ثم قال: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾.
قال السدي: كان حرسه في كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وذكر ابن عباس أن الله جل ذكره شدد ملكه هيبة لقضية قضاها في بنى إسرائيل وذلك أن رجلاً استعدى على رجل من عظمائهم فاجتمعا عند داود، فقال المُسْتَعْدَى: إن هذا غصبني بقراً لي. فسأل الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الآخر البيِّنة فلم تكن له بينة، فقال لهما: قُوَما حتى أنظر في أمركما فقاما.
فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي ستُعدي عليه. فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأَوْحَى إليه مرة أخرى أن يقتُلَه، وأوحى إليه ثالثة (أن يقتله) أو تأتيه العقوبة من الله تعالى، فأرسل داود إلى الرجل أن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك، فقال الرجل: تقتلني بغير بينة ولا تثبت! فقال له داود: نعم، والله لأنفِّذْنَ أمرالله عز جل فيك. فلما عرف الرجل أنه قاتله قاله له: لا تعجل عليّ حتى أخبرك، إني والله ما أُخِذْتُ بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت وَلَدَ هذا فقتلته فبذلك قُتِلْتُ. فأمر به داود، فَقُتِلَ. فاشتدت هيبته في بني إسرائيل لذلك وشد الله به ملكه.
ثم قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكمة﴾.
قال السدى: هي النبوة.
وقال قتادة: الحكمة: السُّنَّة.
وقوله: ﴿وَفَصْلَ الخطاب﴾.
قال ابن عباس ومجاهد والسدي: فصل الخطاب: الفهم في علم القضاء.
وقال ابن زيد: أعطي فصل ما يتخاطب الناس به بين يديه في الخصومات.
وقال شريح فصل الخطاب: الشاهدان على المدعي، واليمين على المنكر، وهو قول قتادة.
وقال الشعبي: يمين وشاهد، وعن الشعبي: هو: أما بعد.
ثم قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾، أي: وهل أتاك يا محمد خبر الخصم.
والخصم هنا يراد به الملكان، لكن لا تظهر فيه تثنية ولا جمع لأنه مصدر من خصمته خصماً. والأصل فيه: وهل أتاك نبأ ذوي الخصم ويجوز أن يثنى ويجمع، ودل على ذلك قوله: خصمان.
وقوله: ﴿إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾، أي إذ دخلوا عليه من غير بابه. والمحراب: مقدم كل شيء ومجلسه وأشرفه.
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ﴾، أي: لما دخلوا على داود المحراب.
﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾، أي: فراعه دخولهما من غير مدخل الناس عليه. وقيل: إنما فزع
لأنهما دخلا عليه ليلاً من غير وقت نظره بين الناس. ﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى﴾، أي: قال الملكان: لا تخف منا نحن خصمان.
﴿بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ﴾، أي: تعدَّى أحدنا على صاحبه.
﴿فاحكم بَيْنَنَا بالحق﴾، أي: فاقض بيننا بالعدل.
﴿وَلاَ تُشْطِطْ﴾، أي: لا تجر، وقال قتادة ولا تمل، وقال السدى: لا تخف.
وقرأ الحسن وأبو رجاء: " ولا تَشْطُطْ " بفتح التاء وضم الطاء الأولى. بمعنى: ولا تبعد عن الحق. يقال: أَشَطَّ يُشِطُّ إذا جار في القول والحكم، وشَطّ يَشُطُّ إذا بَعُد.
ثم قال تعالى: ﴿واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط﴾ /، أي: وارشدنا إلى قصد الطريق المستقيم في الحق.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾، الآية.
هذا مثل ضربه الملكان لداود، وذلك أن داود كان له تسع وتسعون امرأة، وكانت للرجل الذي أعزاه داود حتى قُتل، امرأة واحدة، فلما قتل تزوجها فيما ذكر.
قال وهب بن منبه: إن هذا أخي، أي على ديني.
والعرب تُكَنِّي عن المرأة بالنعجة والشاة.
وقرأ الحسن بفتح التاء من " تَسع وتَسعين " وهي لغة قليلة.
وقرأ ابن مسعود: " تِسْعٌ وتَسِعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى " على التأكيد، كقولهم: رجل ذَكَر؟.
ولا يؤنث بهذا التأنيث إلا ما تأنيثه وتذكيره في نفسه كالرجل والمرأة، فإن كان تأنيثه وتذكيره في اسمه (لم يُقَلْ) فيه أنثى ولا ذكر، نحو: دار، وملحفة، وشبه ذلك.
وقيل: عنى بذلك أنها حسنة. فأنثى تدل على أنها حسنة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾، أي: أنزل عنها وضُمَّها إليَّ.
قال ابن زيد: أكفلنيها: أعطنيها، أي: طلقها لي أنكحها.
﴿وَعَزَّنِي فِي الخطاب﴾، أي: صار أعزَّ مني في مخاطبته إياي لأنه إن تكلم فهو أبين مني، وإن بطش كان أشد مني فقهرني وغلبني.
قال قتادة: وعزني في الخطاب: ظلمني وقهرني.
وقرأ ابن مسعود: " وَعَازَّنِي ".
يقال: عَازَّه (إذا غالبه، وَعَزَّهُ): إذت غلبه، ومنه قولهم: " مَنْ (عَزَّ بَزَّ).
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ﴾، أي:
قال داود للمتكلم منهما: لقد ظلمك صاحبك بسؤاله إيله أن يضم نعجتك إلى نعاجه.
﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾، أي: وإن كثيراً من الشركاء
ليَتَعَدَّى بعضهم على بعض ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ - إلى قوله - ﴿الصافنات الجياد﴾
أي: وأيقن داود أنما اختبرناه.
﴿فاستغفر رَبَّهُ﴾، أي: سائل ربه المغفرة.
﴿وَخَرَّ رَاكِعاً﴾، أي: ساجداً لله.
﴿وَأَنَابَ﴾، أي: رجع عن خيئته وتاب منها.
وكان سبب اختيار الله تعالى له - فيما ذكر ابن عباس - أن داود قال: يا رب، قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لَوَدِدْتُ أنك أعطيتني مثله. فقال الله جل ذكره له: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم، قال: نعم، فأقام ما شاء الله أن يُقيم وطال ذلك حتى كاد أن ينساه. فبينما هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة كانت في المحراب، فذهب ليأخذها، فطارت. فاطَّلع من الكوة فرأى امرأة تغتسل. فنزل نبي الله ﷺ من المحراب وأرسل إليها، فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السَّرِيَّةِ أن يُؤَمِّرَهُ على السرايا لِيَهْلَكَ زوجها، ففعل. فكان يصاب أصحابه وينجو وربما نصروا. وإن الله لما رأى الذي وقع فيه داود أراد أن يستنفذه، فبينما داود ذات يوم في محرابه إذ تسور عليه الخصمان من قبل وجهه.
فلما رأهما وهو يقرأ فَزِعَ وسكت، وقال: لقد استُضعفت في مُلكي حتى إن الناس يتسورون علي في محرابي، قالا له: لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض فلم
يكن لنا بد من أن نأتيكما فاسمع منا. قال أحدهما. ﴿إِنَّ هَذَآ أَخِي﴾ - إلى ﴿وَعَزَّنِي فِي الخطاب﴾.
قال له داود: أنت كنت أحوجَ إلى نعجتك منه، لقد ظلمك بسؤاله إياك نعجتك ونسي نفسه ﷺ. فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك، فتبسم أحدهما إلى الآخرة فرآه داود أنه فتن، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب أربعين ليلة حتى نبتت الخضرة من عينينه ثم شدد الله له ملكه.
روى ابن أبي الدنيا أن وهب بن منبه قال: لم يرفع داود عليه السلام رأسه من السجود حتى قال له الملكان: أول أمرك ذنب وآخره معصية، ارفع رأسك، فرفع رأسه.
وعن وهب أنه قال: لما رفع داود رأسه من (السجدة رفع رأسه) وقد زَمِنَ ورعش. قال: فاعتزل نساءه ثم بكى حتى خددت الدموع وجهه.
وقال عطاء الخراساني: " إن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها، فكان
إذا رآها اضطربت يداه.
وقال وهب بن منبه: كتب داود في كفه: داود الخطاء.
وقال يحيى بن أبي كثير لما أصاب داود الخطيئة نفرت / الوحوش من حوله، فنادى: إلهي، رُدَّ عليَّ الوحش كي آنس بها فرد الله تبارك وتعالى عليه الوحش فَأَحَطْنَ به وأصغين بأسماعهن نحوه. قال: روفع صوته يقرأ الزبور ويبكي على نفسه فنادته هيهات هيهات يا داود، ذهبت الخطيئة بحلاوة صوتك.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " مَثَلُ عَيْنَيْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَثَلُ الْقِرْبَتَيْنِ تَنْظِفَانِ بِالمَاءِ. لَقَدْ خَدَّدَتِ الدُّمُوعُ وَجْهَ دَاودَ خَديدَ المَاءِ في الأرْضِ ".
وروى أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: قالو: لو جُمِعت دموع أهل الأرض إلى دموع آدم ﷺ لكانت دمخوع آدم أكثر، ولو جمعت دموع أهل الأرض ودموع آدم إلى دموع ابن آدم الذي قتل أخاه لكانت دموع ابن آدم أكثر، ولو جمعت دموع أهل الأرض، ودموع آدم، ودموع ابن آدم إلى دموع يعقوب لكانت دموع يعقوب أكثر، ولو جمعت دموع أهل الأرض ودموع آدم ودموع ابن آدم ودموع يعقوب إلى دموع داود لكانت دموع داود أكثر.
قال سعيد: " كان داود يجلس على ستة أفرشة فيبكي فيبل الأول فيُرْفع حتى يبللها كلها، كلما كلما بَلَّ واحداً رُفِع؛ وإن كان ليؤتى بالإناء ليشرب فما يفرغ منه حتى يتدفق من دموعه وروى إسماعيل بن عبيد الله: إن داود النبي ﷺ كان يعاتب في
كثرة البكاء، فيقول: ذروني أبكي قبل يوم البكاء، قبل تحريق العظام واشتعال اللحى، وقبل وقبل أن يؤمر بي
﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].
قال محمد بن المنكدر مكث آدم ﷺ في الأرض أربعين سنة ما يبدي عن واضحة ولا ترقئ له جمعة. فقالت له حواء: إنَّا قد استوحشنا إلى أصوات الملائكة فادع ربك فيسمعنا أصواتهم. فقال لها: ما زلت مستحياً من ربي تعالى أن أرفع طرفي إلى أديم السماء مما صنعت.
وقال محمد بن خوات: إن داود النبي ﷺ لما أطال البكاء على نفسه، قيل له: اذهب إلى قبر زوج المرأة فاستوهبه ما صنعت، فأتى القبر، وأَذِنَ الله لصاحب القبر أن يتكلم، فناداه: أنا داود ولك عندي مظلمة، قال: قد غفر تهالك، قال: فنصرف داود وقد طابت نفسه، فأوحى الله تعالى إليه أن ارجع فبين له الذي صنعت فرجع، فأخبره، فناداه صاحب القبر يا داود، هكذا يفعل الأنبياء!
قال بكر بن عبيد الله المزُني: مكث داود النبي عليه السلام ساجداً أربعين يوماً يبكي على خطيئته حتى نبت البقل من دموعه، ثم زفر زفرة فهاج العودة فاحترق،
فنودي أظمآن أنت فَتُسقَى؟ أجائع فتطعم؟ أعادي فتُكسى؟ قال: لا، ولكن خطيئتي أثقلت ظهري، فلم يُرْجَعُ إليه بشيء، فازداد بكاء حتى انقطع صوته، فكان لا يُسمع له إلاّ كهيئة الأنين، فعند ذلك غُفِرَ له.
وقال الحسن: بكاء داود عليه السلام بعد ما غُفرت له الخطيئة أكثر من بكائه قبل المغفرة، فقيلك له: قد غُفر لك يا نبي الله؟! قال: فكيف بالحياء من الله تعالى.
قال كعب: كان داود عليه السلام يختار مجالسة المساكين، ويُكثر البكاء ويقول: رب اغفر للمساكين والخطائين حتى تغفر لي معهم، وكان قبل ذلك يدعو على الخطائين.
قال أبو عبد الرحمن الحبلي: ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد خطيئته حتى مات.
ورُوي أنه كان إذا ذكر عقاب الله تعالى تلعت أوصاله، فإذا ذكر
رحمة الله تراجعت.
وروى أشهب عن مالك أنه قال: بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريباً من داود وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها، فكانت قرب يده، ثم طارت فَاَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغسل ولها شعر طويل.
فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجداً حتى نبت العشب من دموع عينيه.
ويراد بالركوع في هذا الموضع: السجود.
قال السدي: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوماً يقضي فيه بين الناس ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه تعالى، ويوماً يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب: فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم. فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب قال: يا رب، إن الخير قد ذهب / به آبائي، فأعطني مثل ما أعطيتهم.
فأوحى الله إليه أن آباءك ابتلوا ببلاء لم تبتل به، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه فصبر، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف، وإنك لم تبتل
أنت من ذلك الشيء. فقال: ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم.
قال: فأوحى الله تعالى إليه أنك مبتلى فاحترس، قال: فمكث ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي قال: فمد يده ليأخذه فتنحى، فتبعه قتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة فنظر أين (يقع فيبعث) في أثره، قال: فأبصر امرأة تغتسل في سطح لها، فرأى امرأة من أجمل الناس خَلْقاً، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به. قال: فزاده ذلك فيها رغبة. قال: فسأل عنها فأخبر أن لها زوجاً وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا). قال: فبعثه ففتح له قال: فكتب إليه بذلك. قال فكتب إليه ثالثة فبعثه فقتل. قال: وتزوج امرأته، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيراً حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فتسوروا عليه المحراب. قال: فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين قال: ﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ فقالا: ﴿لاَ تَخَفْ﴾ لا تخف، إنما نحن ﴿خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ﴾ - إلى قوله -
﴿سَوَآءِ الصراط﴾، قال: قصّا قصتكما قال: فقال أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، وهو يريد أخذ نعجتي فيكمل بها نعاجه مائة!
فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي (تسعاً وتسعين) نعجة ولأخي هذا نعجة واحدة. قال: فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة؟! قال: (وهو كاره). قال: إذا (لا ندعك) وذلك. قال: ما أنت على ذلك بقادر. قال: فإن ذهبت تروم ذلك (أو لم ترد ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يريد طرف الأنف، وأصل الأنف، والجبهة قال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منه هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امراة ولم يكن لاوريا إلا امرأة واحدة، (فلم تزل) تعرضه للقتل حتى قُتل، وتزوجت امراته. قال: فنظر داود الرجلين فلم ير شيئاً فعرف ما قد وقع فيه فخر ساجداً. - وهو موضع السجود عند مالك.
وروي أن رجلاً من الأنصار - على عهد النبي ﷺ - كان يصلي من الليل مستتراً بشجرة وهو يقرأ " ص "، فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة، فسمعها وهي تقول: اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجراً، وارزقني بها شكراً، وضع عني بها وزراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته.
فلما أصبح الرجل ذكر ذلك لرسول الله ﷺ. فقال رسول الله: نحن أحق أن يقول ذلك. فكان ﷺ إذا سجد يقول ذلك.
قال عقبة بن عامر الجهني: من قرأ (ص) ولم يسجد فيها فلا عليه ألا يقرأ بها.
قال: فبكى أربعين يوماص لا يرفع رأسه إلا لحاجة، ثم يقع ساجداً يبكي حتى نبت العشب من دموع عينيه، قال: فأوحى الله تعالى إليه بعد أربعين يوماً: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك. قال: يا رب، كيسف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء، إذا جاء أوريا يوم القيامة آخذ رأسك بيمينه، أو بشماله، تشخب أوداجه دماً، يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟
قال: فأوحى الله تعالى إليه: إذا كان ذلك (دعوت أوريا).
فاستوهبتك منه، فيهبك لي، فأثيبه بذلك الجنة. قال: رب، الآن علمت أنك قد غفرت لي. قال: فلما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض ﷺ.
وقيل: اسم الرحل أوريا بن حيان.
وقال الحسن: جزأ داود الدهر أربعة أجزاء: يوماص لنسائه، ويوماً لعبادة ربه، ويوماً لقضاء بني إسرائيل، ويوماً لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه.
قال: فلما كان يوم بني إسرائيل، قال: ذَكَرُوا فقالو: هل أتى على الإنسان يوم / لا يصيب فيه ذنباً؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك.
فلما كان يوم عبادته أغلق أبوابه وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكب على التوراة.
فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون (حَسَنْ، قد وقعت بين يديه، فأهوى إلها ليأخذها، قال: فطارت فوقعت غير بعيدة من غير أن تؤيسه من نفسها. قال: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها. قال: فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها فزاده ذلك إعجاباً بها. وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسر إلى مكان كذا وكذا - مكانٌ إذا صار إليه لم يرجع - قال: ففعل، فأصيب، فخطبها، فتزوجها.
قال قتادة: بلغنا أنها أم سليمان.
قال الحسن: فبينما هو في المحراب إذ تسور الملكان عليه - وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب - ففزع منهم حين تسوروا المحراب، فقالا: لا تخف، خصمان يغى بعضنا على بعض. وذكر نحو الحديثين المتقدمين.
وقيل: إن خطيئته هي قوله: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه من غير ثبت بينة ولا إقر ار من الخصم ولا سؤال لخصمه: هل كان هذا هكذا أو لم يكن. وهو قول شاذ.
وقال ابن الأعرابي: قال كعب: سجد داود نبي الله ﷺ أربعين ليلة لم يرفع رأسه حتى رقأ دمعه ويبس رأسه.
فكان من آخر دعائه وهو ساجد أنه قال: يا رب رزقتني العافية، فسألتك البلاء، فلما ابتليتني لم أصبر فلم تعذبني فأنا أهل ذلك، وإن تغفر لي فأنت أهل ذلك - يقولها في نفسه - فعلم الله تعالى ما قال فإذا جبريل عليه السلام على رأسه قائم يقول له: يا داود، إن الله تعالى ما قال فإذا جبريل عليه السلام على رأسه قائم يقول له: يا داود، إن الله قد غفر لك فارفع رأسك فلم يتلفت إليه، وناجى ربه وهو ساجد فقال: يا رب، وكيف تغفر لي وأنت الحكم العدل، وقد فعلت بالرجل ما فعلت؟ قال: فنزل الوحي عليه: صدقت يا داود أنا الحكم العدل، ولكن إذا كان يوم القيامة دفعتك إلى أوريا سلماً، ثم استوهبتك منه، فيهبك لي، فأثيبه الجنة. قال داود: الآن أعلم أنك قد غفرت لي. قال: فذهب داود يرفع رأسه فاذا هو يابس لا يستطيع. قال: فمسحه جبريل عليه السلام بريشة فانبسط. قال: فأوحى الله تعالى إليه بعد ذلك: يا داود: قد أحللت لك امرأة أوريا فتزوجها، فتزوجها داود ﷺ، فولدت له سليمان عليه السلام، لم تلد قبله شيئاً ولا بعده.
قال كعب: فوالله لقد كان داود بعد ذلك ليظل صائماً في اليوم الحار فيقرب إليه الشراب فإذا قربه إلى فيه ذكر خطيئته فيبكي في الشراب حتى يفيض ثم يرده ولا يشربه.
وروى الأوزاعي عن بعض أهل المدينة أنه قال: مثل عيني كمثل القربتين تنظفان الماء، لقد خدد الدمع في وجهه كخديد الماء في الأرض.
ويروى أن داود بات لربه تعالى مصلياً حتى أصبح فذهب إلى نهر ليتوضأ، فقال: الحمد لله، لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد إياه من أهل الأرض.
فكَلَّمَه ضفدع من الماء فقالت: جلا يا أبا سليمان، فوالله إن لي لثلاثاً من الدهر ما جمعت بين فقمي تسبيحاً لله.
وروي عن ابن مسعود وابن عباس أن داود عليه السلام ما زاد على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك، فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه.
ثم قال تعالى: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾، أي ذلك الذنب.
﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى﴾، أي: لقربة يوم القيامة. قال الضحاك: لمنزلة رفيعة.
ثم قال: ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾، أي: حسن مصير.
قال السدي: حسن منقلب.
وقال الضحاك: يبعث داود النبي عليه السلام وذكر خطيئته، ووجلُه منها في قلبه، منقوشةٌ في كفه. فإذا رأى أهاويل الموقف لم يجد منها متعوذاً وامحرزاً إلا برحمة الله تبارك وتعالى قربه، فيلجأ إليه تبارك وتعالى، فيشار إليه أن هاهنا عن يسار العرش، ثم يعلق فيقال وقربه، فيلجأ إليه تبارك وتعالى، فيشار إليه أن هاهنا عن يسار العرش، ثم يعلق فيقال له: هاهنا عن يمين العرش.
وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾.
وقال مالك بن دينار: يقال داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش، ثم يقول: يا داود، مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به / في الدنيا.
فيقول يا رب، كيف وقد سلبتنيه؟! فيقول: إني سأرده عليك.
قال: فيدفع داود بصوت يستفرغ به نعيم أهل الجنان.
﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾: تمام حسن.
ثم قال تعالى: ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾، فغفرنا له ذلك الذنب، وقلنا له: يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض، أي استخافناك في الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكماً بين أهل الأرض.
﴿فاحكم بَيْنَ الناس بالحق﴾، أي: بالعدل والإنصاف.
﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى﴾، أي: لا توثر هواك في قضائك على العدل فتجور في الحكم فيضلك هواك عن سبيل الله.
﴿إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾، أي: يميلون عن الحق الذي أمر الله به.
﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ﴾، أي: يوم القيامة.
﴿بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب﴾، أي: بتركهم العمل ليوم القيامة.
قال عكرمة: هذا من التقديم والتأخير.
والتقدير عنده: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا أي: بما تركوا أمر الله والقضاء بالعدل.
فالعامل في " يوم " في القول الأول: " نسوا " هو مفعول به والعامل فيه في القول الثاني " لهم " وهو ظرف.
وكان ابن عباس يسجد عند قوله: " وأناب "، ويقول: ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠].
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾، أي: عبثاً ولعباً بل خُلِقَا ليُعمل فيهما بالطاعة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ﴾، أي: خلق السماء والأرض وما بينهما لغير حساب ولا بعث ولا عمل، هو ظن الذين كفروا فويل لهم من النار.
ثم قال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض﴾. هذا رد لقول الكفار، لأنهم كانوا يقولون: ليست ثمَّ عقوبة ولا نار، فالكافر والعاصي يَسْعَدَان باللذات، والمطيع يشقى، ومصيرهما إلى شيء واحد فرد الله عليه بأنه لم يجعل المتقين كالفجار في الآخرة، ولا الصالح كالمفسد.
ثم قال: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾، (أي: هذا القرآن كتاب أنزله الله إليك يا
محمد مبارك) على من آمن به، أنزله: ﴿ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب﴾ ليعتبروا آياته وليتذكر به أولوا العقول.
ثم قال: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ﴾، أي: وُلِدَ إليه.
﴿نِعْمَ العبد﴾، أي: ممدوح في طاعة ربه.
﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، أي: رجاع إلى طاعة الله تعالى تواب إليه سبحانه، وقيل: الأواب: الكثير الذكر.
وقال ابن عباس: الأواب: المسبح.
وقال قتادة: مطيعاً كثير الصلاة.
وقال ابن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
وقيل: هو الذي يذكر ذنبه في الخلاء، ثم يتوب منه ويستغفر.
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد﴾، أي: هو تواب في هذا الوقت.
والصافنات: جمع صافن من الخيل، والأنثى: صافنة.
والصافن: الذي يجمع بين يديه، ويثني طرف سنبك إحدى رجليه.
وقيل: هو الذي يجمع بين يديه.