قوله (تعالى ذكره): ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا/﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين﴾.
أي: قال المؤمن ليس نحن بميتين إلا موتتنا/ (الأولى في الدنيا). ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ قال ذلك سروراً منه واغتباطاً منه بما أعطاه الله من كرامته.
ثم قال: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم﴾ أي: إن ما أعطانا الله من أنا لا نعذب ولا نموت لهو النجاء العظيم.
قال قتادة: هذا قول أهل الجنة.
﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون﴾ أي: لمثل هذا الذي أُعْطِيَ هذا المؤممن من الكرامة في الآخرة فليعمل في الدنيا لأنفسهم العاملون.
قال قتادة: آخر كلام المؤمن: " لهو الفوز العظيم "، ثم قال الله جل ذكره: " لمثل هذا فليعمل العاملون ".
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ أي: الذي تقدم من ذكر النعيم للمؤمنين خير أم ما أعد الله لأهل النار من الزقوم. والنزول: الرزق
الذي له سعة، ومعناه في الأصل: أنه الطعام الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه. ولما ذكر الله هذه الآية، قال المشركون: كيف ينبت الشجر في النار، والنار تحرق الشجر؟ فقال الله جل ذكره: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾ يعني المشركين الذين قالوا في ذلك ما قالوا، ثم أخبرهم الله بصفة هذه الشجرة، فقال (جل ذكره): ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم﴾.
قال قتادة: غُذِّيت بالنار ومنها خُلِقت.
قال السدي: قال أبو جهل لما نزلت هذه الآية: إن شرجة الزقوم: أتعرفونها في كلام (العرب)؟ أنا آتيكم بها، فدعا جاريته فقال: إيتني بزبد وبتمر، فقال: دونكم تزقموا فهذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد ﷺ، فأنزل الله تعالى ذكره تفسير هذا: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً﴾ إلى آخر الآيات. فالظالمون هنا أبو جهل
وأصحابه. وهي مشتقة من التزقم، وهو البلع على جهد وشدة، فقيل لها شجرة الزقوم أنهم يتزقمونها (أي) يبتلعونها من شدة جوعهم، فيبتلعونها على جهد وتقف على حلوقهم يختنقون بها لخشونتها ومرارتها وكراهتها ونتنها فيتعذبون بها على أن تصل إلى أجوافهم فيملؤون بطونهم من ذلك من شدة الجوع ثم لا ينفعهم ذلك ولا يجدون له نفعاً ولا لذة.
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ أي: طلعها في قبحه وسماجته كرؤوس الشياطين، وهذا تمثيل لأنهم لم يكونوا يرون الشياطين، ولكن من شأن العرب أنها إذا بلغت في صفة القبح والسماجة قالت: كأنه رأس شيطان، فخوطبوا بما يعقلون وما يجري بينهم ويفهمون.
وقيل: بل مُثِّل لهم الطلع بما يعرفون، وذلك أن ضرباً من الحيات قباح الصور والمناظر يقال لها شيطان، فشبهت لهم الطلع (بذلك).
(وقيل): الشياطين نبت باليمن قبيح المنظر، يقال له: الأَسْتَنُ والشيطان شبه الطلع به، وطلعها ثمرها كأنه أول ما يخرج.
ثم قال (تعالى): ﴿فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا﴾ أي: فإن هؤلاء المشركين لآكلون من هذه الشجرة فمالئون منها البطون، ثم إن لهم على ما يأكلون منها لشوباً من حميم، أي: خلطاً من ماء قد انتهى حره.
وحميم فعيل مصروف عن مفعول، والشوب مصدر شاب طعامه إذا خلطه يشوبه شَوْباً وَشَابَةً وَشِيَاباً.
وقال ابن عباس: لشوباً لمزجاً.
وقال قتادة: لمزاجاً.
وقال السدي: حميم يشاب لهم بغساق بما يغسق أعينهم وصديد من قيحهم ودمائهم.
ثم قال (تعالى): ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم﴾.
قال قتادة: فهم (في) عناء وعذاب من نار جهنم، وتلا: " يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيم - انٍ ".
قال بعض المفسرين: هذا النص يدل على إنهم في وقت أكلهم للزقوم وشربهم للحميم ليسوا في النار المتوقدة، هم في عذاب آخر، ثم يردون إلى الجحيم، والجحيم النار المتوقدة.
قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثم تلا: " أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمّئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ".
ثم قال (تعالى): ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ﴾ أي: وجودهم على الضلال
والكفر بالله وعبادة الأصنام.
﴿فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ أي: فهم مسرعون في اتباع ما كان عليه أباؤهم من الكفر.
قال مجاهد/ وقتادة: ﴿يُهْرَعُونَ﴾ يسرعون.
وقال ابن زيد: يستعجلون.
قال (الفراء: الإهراع: الإسراع فيه شبيه) بالرعدة.
قال المبرد: المُهْرَعُ المُستحث. يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها.
وحكى الزجاج: هُرِع وأُهْرِع/ إذا استُحث وأزعِج، كأنهم يزعجون من الإسراع إلى اتباع آبائهم.
ثم قال (تعالى): ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين﴾ أي: ولقد ضل عن الإيمان والرشد قبل مشركي قريش أكثر الأمم الخالية.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ﴾ أي: في الأمم الخالية رسلاً منذرين تنذرهم بأس الله وعقابه على الكفر والتكذيب، فكذبوهم، وحذف فكذبوهم لدلالة الكلام عليه.
ثم قال: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين﴾ أي: فَتَأَمَّل يا محمد كيف كان عقابة الأمم الذين قبلك إذ كَذَّبوا رسلهم كيف أهلكهم الله فصيرهم عبرة لمن اغتر وعظة لمن اتعظ.
ثم قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي: إلا من آمن بالرسل من الأمم فأخلص لله العمل والإيمان بما جاء به الرسل. هذا على قراءة من كسر اللام. ومن فتحها
فمعناه: إلا من آمن بالرسل، وأخلصه الله في سابق علمه الإيمان والتصديق فوفقه له.
ثم قال (تعالى): ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ أي: نادى فقال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦]، وبقوله: ﴿دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ [نوح: ٥] وما بعده، فلنعم المجيبون كنا له إذ دعانا فأجبناه وأهلكنا قومه.
﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ أي: من الأذى والمكروه الذي كان فيه (من الكافرين) من قومه.
وقيل: من الطوفان والغرق قاله السدي.
ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين﴾ أي: هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه، وذلك أن الناس كلهم من ذرية نوح بعد الغرق.
قال ابن المسيب: فجميع الخلق من ذرية سام وحام ويافت.
[ورواه سمرة بن جندب عن النبي ﷺ قال: " هُمُ البَاقِينَ " هم حَام وسَام ويَافت] ". فالعرب كلهم والروم والفرس من ولد سام، وجميع أجناس السودان من السند والهند والزغاو النؤبة وغيرهم من البربر من ولد حام، والصقالية والترك ويأجوج ومأجوج من ولد ثافت، والخير في ولد سام ".
ثم قال: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾.
قال قتادة: أبقى الله عليه الثناء (الحسن) في الآخرين، وهو قول السدي.
وقيل: في " الآخرين ": أمة محمد ﷺ، لأنها آخر الأمم فهي تثني على نوح
وتصلي عليه وتترحم عليه.
ثم قال (تعالى): ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين﴾ أي: يقال: سلام على نوح، (أي): أبقينا عليه في الآخرين أن يقال ذلك، يعني أن في أمة محمد ﷺ، ولذلك رفع " سلام " لأنه محكي.
وقيل: التقدير: " في الآخرين " تم الكلام، ثم ابتدأ " سلام " على نوح ابتداء وخبر.
وفي حرف ابن مسعود: " سَلاماً " بالنص، أعمل فيه تركنا فنصبه، ومعناه في الرفع أمنة من الله لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء.
قال أبو إسحاق معناه: وتركنا عليه أن يُصلى عليه إلى يوم القيامة. وقل: (معناه): أبقينا (عليه) الثناء الحسن في الآخرين.
ثم قال: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي: إنا كما فعلنا بنوح ومن آمن معه