
قصة نوح عليه السلام
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
الإعراب:
فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فلنعم المجيبون نحن، كقوله تعالى:
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص ٣٨/ ٤٤] أي أيوب.
سَلامٌ عَلى نُوحٍ سَلامٌ: مبتدأ، وعَلى نُوحٍ: خبره، وجاز الابتداء بالنكرة، لأنه في معنى الدعاء، كقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين ٨٣/ ١] وقرئ سلاما بالنصب على أنه مفعول تَرَكْنا تقديره: تركنا عليه في الآخرين سلاما، أي ثناء حسنا.
البلاغة:
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ كناية، كنى بذلك عن الذكر الجميل والثناء الحسن.
المفردات اللغوية:
نادانا نُوحٌ دعانا حين أيس من قومه، فالمراد من النداء الاستغاثة، بقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر ٥٤/ ١٠]. فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ له نحن، اي فأجبناه أحسن الإجابة، والتقدير: فو الله لنعم المجيبون نحن، فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه. ونوع الجواب: أنا أهلكناهم بالغرق.
مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي الغرق أو أذى قومه، والكرب: الغم الشديد وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي أبقينا ذريته متناسلين إلى يوم القيامة، فالناس كلهم من نسله عليه السلام، وكان

له ثلاثة أولاد: سام وهو أبو العرب وفارس والروم، وحام: وهو أبو السودان، ويافث: أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج من الصين واليابان ونحوهم. روي أنه مات كل من معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أبقينا عليه ثناء حسنا بين الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، فمفعول وَتَرَكْنا محذوف، كما في الثناء السابق بقوله: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ هذا الكلام جيء به على الحكاية، والمعنى: يسلمون عليه تسليما، أي يثنون عليه ثناء حسنا ويدعون له ويترحمون عليه. وقيل: هو سلام من الله عليه إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل ذلك الجزاء الذي جازيناه نجزي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تعليل لإحسانه بالإيمان، إظهارا لجلالة قدره وأصالة أمره ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي كفار قومه.
المناسبة:
هذه الآيات شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها، فبعد ذكر ضلال كثير من الأمم السابقة في قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وقوله:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أتبعه بتفصيل قصص الأنبياء عليهم السلام، وهذه هي القصة الأولى- قصة نوح عليه السلام مع قومه، في بيان بليغ موجز.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي تالله لقد دعانا نوح عليه السلام، واستغاث بنا، ودعا على قومه بالهلاك حيث قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦] بعد أن طال دعاؤهم إلى الإيمان، فكذبوه وآذوه وهموا بقتله ولم يؤمن معه إلا القليل، مع طول المدة التي لبثها فيهم وهي ألف سنة إلا خمسين عاما، ولم يزدهم دعاؤه إلا فرارا.
فأجاب الله دعاءه أحسن الإجابة، وأهلك قومه بالطوفان.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي ص إذا

صلّى في بيتي، فمرّ بهذه الآية: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ قال:
صدقت ربنا، أنت أقرب من دعي، وأقرب من بغي، فنعم المدعو، ونعم المعطي، ونعم المسؤول، ونعم المولى، أنت ربنا، ونعم النصير».
وبعد بيان أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال، بين أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه:
١- وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي ونجينا نوحا وأهل دينه، وهم من آمن معه وهم ثمانون، من الغم الشديد وهو الغرق.
٢- وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي وجعلنا ذريته وحدهم دون غيرهم هم الباقين على قيد الحياة، وأهلكنا من كفر بدعائه، ولم نبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل، ولم يبق إلا أولاده وذريته.
والآية تفيد الحصر، وهو يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته قد فنوا.
قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك.
٣- وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا له ثناء حسنا فيمن يأتي بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أي وقلنا: عليك يا نوح سلام منا في الملائكة وعالمي الإنس والجن. أو معناه أن الذي أبقي عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن: أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم. ويؤيد التفسير الأول آية: قِيلَ: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود ١١/ ٤٨].
وعلة أنواع الإنعام السابقة ما قاله تعالى:

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله عز وجل، أو خصصنا نوحا عليه السلام بتلك النعم التي منها إبقاء ذكره الحسن في ألسنة جميع العالمين لأجل أنه كان محسنا.
وعلة إحسانه ما قاله سبحانه:
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي إن السبب في كون نوح محسنا هو كونه عبدا لله مؤمنا. وهذا دليل على أن الإيمان بالله تعالى وإطاعته أعظم الدرجات وأشرف المقامات.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي أغرقنا كفار قومه بالطوفان وأهلكناهم، ولم نبق منهم أحدا، وتلك عظة وعبرة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق ٥٠/ ٣٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة نوح عليه السلام على الآتي:
١- أجاب الله تعالى دعاء نوح عليه السلام بإهلاك قومه، فالداعي مضطر، والمدعو وهو الله عز وجل نعم المقصود المجيب.
٢- كانت النعمة العظمى هي إجابة الدعاء، وكانت مظاهر الإنعام على نوح ثلاثة: هي نجاة نوح ومن آمن معه، وجعل ذريته أصول البشر والأعراق والأجناس، وإبقاء الذكر الجميل والثناء الحسن. وقال قوم: كان لغير ولد نوح أيضا نسل، بدليل قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الإسراء ١٧/ ٣].
ومما أبقي عليه: السلام الدائم في الأنبياء والأمم، أو أن الله كافأه أيضا بالسلام منه عليه سلاما يذكر بين الأمم إلى يوم القيامة.