مسئولية المشركين في الآخرة وأسبابها
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٢ الى ٣٧]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)
الإعراب:
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ما: استفهامية، مبتدأ، ولَكُمْ: خبره، ولا تَناصَرُونَ: جملة في موضع نصب على الحال من الضمير المجرور في لَكُمْ مثل: مالك قائما.
يَسْتَكْبِرُونَ موضع الجملة إما منصوب على أنه خبر «كان» وجملتها في موضع رفع خبر إن، وإما مرفوع على أنه خبر «إن» و «كان» ملغاة.
البلاغة:
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أسلوب تهكمي في الهداية، لأنها تكون إلى طريق النعيم، لا إلى صراط الجحيم.
عَنِ الْيَمِينِ استعارة لجهة الخير أو للقوة والشدة أو لجهة الدين.
إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ إيجاز بالحذف، أي قولوا: لا إله إلا الله، وحذف لدلالة السياق عليه.
المفردات اللغوية:
احْشُرُوا يقال للملائكة: اجمعوا، من الحشر: وهو الجمع. الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك فهم المشركون، وهو أمر من الله للملائكة بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف.
وَأَزْواجَهُمْ أمثالهم وأشباههم، فيحشر عابد الصنم مع عبدة الصنم، وعابد الكواكب مع عبدتها، وأصحاب الخمر معا، وأصحاب الزنى معا. وقيل: أزواجهم: قرناؤهم من الشياطين. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يحشر المعبودون من غير الله من الأصنام والأوثان وغيرها، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، وهو عام مخصوص بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٠١].
فَاهْدُوهُمْ دلوهم وعرفوهم طريقها ليسلكوه. إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ طريق النار.
وَقِفُوهُمْ احبسوهم في الموقف أو عند الصراط «١» إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم وأعمالهم.
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص من العذاب كحالكم في الدنيا، وهذا يقال لهم توبيخا وتقريعا. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون خاضعون لعجزهم، وأصل الاستسلام:
طلب السلامة، ويلزمه الانقياد عرفا. وهذا أيضا يقال لهم.
يَتَساءَلُونَ يتلاومون ويتخاصمون، فيسأل بعضهم بعضا للتوبيخ. وقالُوا قال الأتباع للمتبوعين. عَنِ الْيَمِينِ عن أقوى الوجوه، وعن جهة الخير التي نأمنكم منها، لحلفكم أنكم على الحق، فصدقناكم واتبعناكم. والمعنى: أنكم أضللتمونا. قالُوا قال المتبوعون لهم. بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي إنكم كنتم في الأصل غير مؤمنين، فلم يحدث منا الإضلال الذي يؤدي إلى الرجوع عن الإيمان إلينا. مِنْ سُلْطانٍ تسلط عليكم، وقوة وقهر، نقهركم على متابعتنا.
طاغِينَ مختارين الطغيان والضلال مثلنا، ومتجاوزين الحد في العصيان.
فَحَقَّ عَلَيْنا وجب علينا جميعا. قَوْلُ رَبِّنا بالعذاب، وهو: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. إِنَّا لَذائِقُونَ إنا جميعا لذائقون العذاب بذلك القول. فَأَغْوَيْناكُمْ دعوناكم إلى الغيّ والضلال. غاوِينَ ضالين. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ هذا قول الله تعالى، فإنهم يوم القيامة جميعا الأتباع والمتبوعون مشتركون في العذاب، لاشتراكهم في الغواية.
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمشركين غير هؤلاء، أي نعذبهم، سواء التابع منهم والمتبوع.
إِنَّهُمْ كانُوا.. أي إن هؤلاء. يَسْتَكْبِرُونَ عن كلمة التوحيد أو على من يدعوهم إليها. لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا ص. بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ رد من الله تعالى عليهم، فإن هذا النبي ص جاء بالقرآن المشتمل على الوعد والوعيد، وإثبات الآخرة. والمعنى: إن ما جاء به من التوحيد حق ثبت بالبرهان، وتوافق عليه المرسلون.
المناسبة:
بعد إثبات وجود الله وعلمه وقدرته ووحدانيته، وإثبات القيامة، ذكر تعالى أحوال الكفار في الآخرة حيث يساقون إلى نار جهنم، دون أن يجدوا لهم نصيرا وعونا يخلصهم من العذاب، ثم يتلاومون فيما بينهم، ويتخاصم الأتباع والمتبوعون، ولكنهم جميعا متساوون في العذاب، بسبب إعراضهم استكبارا عن كلمة التوحيد في الدنيا، وافترائهم على الرسول ص بأنه لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ مع أنه جاء بالحق الثابت الذي لا محيد عنه وهو التوحيد الذي دعا إليه المرسلون جميعا.
التفسير والبيان:
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ يأمر الله الملائكة بجمع أصناف ثلاثة في موقف الحساب: وهم الظالمون المشركون، وأزواجهم أمثالهم وأشباههم، ومعبودوهم الذين كانوا يعبدونهم من غير الله، من الأوثان والأصنام معا، زيادة لهم في الحسرة والتخجيل على شركهم ومعصيتهم.
والظلم هنا: الشرك، لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان ٣١/ ١٣].
فهذا خطاب من الله للملائكة، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات وأنواعهم وضرباءهم.
يحشر المشركون وأشباههم في الشرك ومتابعوهم في الكفر ومشايعوهم في تكذيب الرسل وقرناؤهم من الشياطين، يحشر كل كافر مع شيطانه. كذلك يحشر أصحاب المعاصي مع بعضهم، فيجمع أهل الزنى معا، وأهل الربا معا، وأصحاب الخمر معا.. وهكذا.
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي أرشدوا وعرّفوا هؤلاء المحشورين طريق جهنم، زيادة في ازدرائهم والتهكم بهم.
وَقِفُوهُمْ، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي احبسوهم في الموقف للحساب والسؤال عن عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي صدرت منهم في الدنيا.
وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن مسعود: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم».
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: ما بالكم لا ينصر بعضكم بعضا، كما كنتم في الدنيا؟ وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم غير متناصرين؟.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي بل إنهم اليوم منقادون لأمر الله، لا يخالفونه، ولا يحيدون عنه، لعجزهم عن الحيلة، فلا ينازعون في شيء أبدا.
وفي هذا الموقف في ساحات القيامة، يتلاومون فيما بينهم، ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فقال تعالى:
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقدم الأتباع والرؤساء من هؤلاء الكفار، يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة، في موقف القيامة، كما يتخاصمون في دركات النار، كما في آية: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [إبراهيم ٤٠/ ٤٨- ٤٧].
قالُوا: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي قال الأتباع للرؤساء: إنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير، فتصدوننا عنه. وقيل: إن اليمين مجاز مستعار من القوة والقهر، أي كنتم تأتوننا من ناحية القهر والقوة وبحكم السيطرة والرياسة لكم علينا في الدنيا، حتى تحملونا على الضلال، وتقسرونا عليه. وقيل: تأتوننا من جهة الدّين، فتهونون علينا أمره وتنفروننا عنه، كما هو الشأن اليوم في كثير من الرؤساء والرفاق.
وكلمة قالُوا جواب عن سؤال مقدر، فهو استئناف بياني.
فأجاب الرؤساء بجوابين:
١- قالُوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي بل إنكم أنتم أبيتم الإيمان، وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه، مختارين الكفر، فقلوبكم هي القابلة للكفر والعصيان، وكنتم من الأصل على الكفر. وكلمة قالُوا أي المخاطبون وهم قادة الكفر أو الجن.
٢- وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أي لم يكن لنا عليكم من حجة وتسلط نسلبكم به اختياركم وتمكنكم، بل كان فيكم طغيان وتجاوز الحد في الكفر، ومجاوزة للحق الذي جاءتكم به الأنبياء، وكنتم مختارين الطغيان، فلهذا استجبتم لنا وتركتم الدين الحق، وما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة اختيارا لا جبرا.
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ أي وجب علينا وعليكم حكم ربنا، ولزمنا قول ربنا، وهو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فلنذوقن ما وعدنا به، ونحن ذائقو العذاب لا محالة يوم القيامة. قال أبو حيان:
والظاهر أن قوله: إِنَّا لَذائِقُونَ إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم الرؤساء والأتباع.
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي إنا أضللناكم، ودعوناكم إلى الضلالة، وإلى ما نحن فيه من الغواية، فاستجبتم لنا.
ثم بعد هذا النقاش والجدل بين الأتباع والرؤساء، وصف الله تعالى العذاب الذي يحل بالفريقين، فقال:
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي إن التابعين والمتبوعين أو الأتباع والقادة مشتركون حينئذ جميعا في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والكفر، والجميع في النار، كل بحسبه.
واشتراكهم في العذاب عدل ككل المجرمين الكافرين، لذا قال تعالى:
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الجزاء نفعل بالمشركين، ويجازى كل عامل بما قدم.
وسبب العذاب هو ما قاله تعالى:
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، يَسْتَكْبِرُونَ أي إنهم كانوا إذا دعوا إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، استكبروا عن القبول، وأعرضوا عن قولها كما يقولها المؤمنون.
وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا لقول شاعر مجنون، يسرح في الخيال، ويخلط في الأقوال، يعنون رسول الله ص. وبهذا أنكروا في الكلام الأول الوحدانية، وفي الثاني أنكروا الرسالة.
فرد الله عليهم تكذيبا لهم بقوله:
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي إن النبي ص جاء بالحق في جميع ما شرعه الله له، وأوله التوحيد، وصدّق في ذلك الأنبياء المرسلين فيما جاؤوا به
من التوحيد والوعد والوعيد وإثبات المعاد، ولم يخالفهم في تلك الأصول، ولا جاء بشيء يغاير ما أتوا به من قبله، فكيف يصح وصفه بالشاعر أو المجنون؟
قال تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت ٤١/ ٤٣] وقال سبحانه: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر ٣٥/ ٣١].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يلي:
١- يحشر الملائكة ويسوقون بأمر الله تعالى الكفار إلى موقف السؤال، وهم ثلاثة أنواع: الظالمون، وأزواجهم (أمثالهم) والأشياء التي كانوا يعبدونها.
والمراد بالظالمين: الكافرون، لكونهم عابدين لغير الله تعالى.
وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر، ويفهم منه أن كل وعيد ورد في حق الظالم، فالمراد منه الكفار، ويؤكده قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة ٢/ ٢٥٤].
وقوله تعالى: وَأَزْواجَهُمْ فسر بأقوال ثلاثة الظاهر منها أولها، ويجوز إرادتها كلها:
الأول- أشباههم من الكفرة، فاليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، وهكذا، لقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة ٥٦/ ٧].
الثاني- قرناؤهم من الشياطين، لقوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف ٧/ ٢٠٢].
الثالث- المراد: نساؤهم اللواتي على دينهم.
٢- يوقف الكفار للحساب ثم يساقون إلى النار، فيكون الإيقاف أو الحبس قبل السوق إلى الجحيم، ويكون بين الآيتين فَاهْدُوهُمْ ووَ قِفُوهُمْ تقديم
وتأخير. وقيل: يساقون إلى النار أولا، ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار، ويكون سؤالهم عن عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم.
وهذا كله دليل على أن الكافر يحاسب.
٣- يقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا، فيمنعه من عذاب الله.
٤- في ذلك الموقف الرهيب لا حيلة لهم، وهم منقادون خاضعون لأمر الله، مستسلمون لعذاب الله عز وجل.
٥- تظهر هناك صورة من النقاش والجدل والتخاصم والتلاوم بين الرؤساء والأتباع، لقوله سبحانه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعضهم بعضا، والمراد بالتساؤل: التخاصم، فليس المقصود منه تساؤل المستفهمين، بل هو تساؤل التوبيخ واللوم.
يقول الأتباع لمن دعاهم إلى الضلالة: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها، أو تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح، أو تأتوننا من قبل الدّين، فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها. قال القرطبي عن الأخير: وهذا القول حسن جدا، لأن من جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدّين، أي كنتم تزينون لنا الضلالة.
وقيل: اليمين بمعنى القوة، أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، قال الله تعالى:
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات ٣٧/ ٩٣] أي بالقوة، وقوة الرجل في يمينه.
فيجيبهم الرؤساء: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لم تؤمنوا قط حتى ننقلكم من الإيمان إلى الكفر، بل كنتم على الكفر وألفتموه. ولم يكن لنا عليهم سلطان وقهر وحجة في ترك الحق، بل كنتم قوما ضالين متجاوزين الحد، فوجب علينا وعليكم قول ربّنا، فكلنا ذائقو العذاب، كما أخبر الله على ألسنة الرسل:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة ٣٢/ ١٣].
وقالوا أيضا: لقد أغويناكم وأضللناكم، أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر، إنا كنا غاوين بالوسوسة والاستدعاء.
٦- ثم أخبر الله تعالى عنهم: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي يكون القادة والأتباع جميعا في نار جهنم، سواء الضال والمضل، كل بحسبه.
٧- إن مقتضى العدل الإلهي والسنن الرباني أن يعاقب المجرمون المشركون على جرمهم العظيم، وهو إنكار الوحدانية والاستكبار عن كلمة التوحيد، وتكذيب الرسل، أو التكذيب بالتوحيد، والتكذيب بالنبوة.
وقد صدر منهم الأمران جميعا، أما إنكار التوحيد ففي قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، يَسْتَكْبِرُونَ وأما تكذيب الرسل فهو في قوله سبحانه: وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي لقول شاعر مجنون، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة.
فردّ الله عز وجل عليهم بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي إن الرسول ص جاء بالقرآن والتوحيد، وصدّق الأنبياء المرسلين قبله فيما جاؤوا به من التوحيد ونفي الشريك.