
وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَمْ يَقِفُوا عَلَى هَذِهِ الدَّقَائِقِ، فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: ١٢].
ثم قال: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَسْتَسْخِرُونَ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسْخَرُونَ فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسْخَرُونَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى السُّخْرِيَةِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَسْتَسْخِرُونَ طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ صَاحَبِهِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى السُّخْرِيَةِ وَهَذَا التَّكْلِيفُ إِنَّمَا لَزِمَهُمْ لِعَدَمِ وُقُوفِهِمْ عَلَى الْفَوَائِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالرَّابِعُ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يَعْنِي أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا آيَةً وَمُعْجِزَةً سَخِرُوا مِنْهَا، وَالسَّبَبُ فِي تِلْكَ السُّخْرِيَةِ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَقَوْلُهُ: مُبِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ سِحْرًا أَمْرٌ بَيِّنٌ لَا شُبْهَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَعَلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ وَعَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ هُوَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الَّذِي مَاتَ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي جُمْلَةِ الْعَالَمِ فَمَا فِيهِ مِنَ الْأَرْضِيَّةِ اخْتَلَطَ بِتُرَابِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَائِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ اخْتَلَطَ بِبُخَارَاتِ الْعَالَمِ فَهَذَا الْإِنْسَانُ كَيْفَ يُعْقَلُ عَوْدُهُ بِعَيْنِهِ حَيًّا فَاهِمًا؟ فَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَالَ قُلْ يَا مُحَمَّدُ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ وَإِنَّمَا اكْتَفَى تَعَالَى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ الْقَطْعِيِّ أَنَّهُ أَمْرٌ مُمْكِنٌ وَإِذَا ثَبَتَ الْجَوَازُ الْقَطْعِيُّ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِالْوُقُوعِ إِلَّا بِإِخْبَارِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ، فَلَمَّا قَامَتِ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَاجِبَ الصِّدْقِ فَكَانَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ: قُلْ نَعَمْ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى الْوُقُوعِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلِمَ أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيَّنَ الْإِمْكَانَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَبَيَّنَ وُقُوعَ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ كَالْأَمْرِ الْمُمْتَنِعِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَوَآباؤُنَا فَالْمَعْنَى أَوَ تُبْعَثُ آبَاؤُنَا وَهَذِهِ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ وقرأ نافع وابن عامر هاهنا، وَفِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ سَاكِنَةَ الْوَاوِ وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ في هذا في سورة الأعراف عند قَوْلِهِ: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الْأَعْرَافِ: ٩٨].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ نَعَمْ فَنَقُولُ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ (نَعِمْ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أَيْ صَاغِرُونَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الدُّخُورُ أَشَدُّ الصَّغَارِ، وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَ قوله: سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ [النحل: ٤٨].
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٩ الى ٢١]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يَا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَالْحَالَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ وفيه أبحاث:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَإِنَّما جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ وَالتَّقْدِيرُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا هِيَ إِلَّا زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما هِيَ ضَمِيرٌ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِنَّمَا الْبَعْثُ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الزَّجْرَةُ فِي اللُّغَةِ الصَّيْحَةُ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا كَالزَّجْرَةِ بالنعم والإبل عند الحث ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى صَارَتْ بِمَعْنَى الصَّيْحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعْنَى الزَّجْرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ زَجْرَةً لِأَنَّهَا تَزْجُرُ الْمَوْتَى عَنِ الرُّقُودِ فِي الْقُبُورِ وَتَحُثُّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ وَالْحُضُورِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزَّجْرَةِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: ٦٨] فَبِالنَّفْخَةِ الْأُولَى يَمُوتُونَ وبالنفخة الثانية يحيون ويقومون، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ الصَّيْحَةِ فَإِنَّ الْقَوْمَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ أَمْوَاتٌ لِأَنَّ النَّفْخَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى السَّبَبِ لِحَيَاتِهِمْ فَتَكُونُ مُقَدِّمَةً عَلَى حُصُولِ حَيَاتِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصَّيْحَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ حَالَ كَوْنِ الْخَلْقِ أَمْوَاتًا، فَتَكُونُ تِلْكَ الصَّيْحَةُ عَدِيمَةَ الْفَائِدَةِ فَهِيَ عَبَثٌ وَالْعَبَثُ لَا يَجُوزُ فِي فِعْلِ اللَّهِ وَالْجَوَابُ: أَمَّا أَصْحَابُنَا فَيَقُولُونَ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، وأما المعتزلة فقال القاضي فيه ووجهان الْأَوَّلُ: أَنْ تَعْتَبِرَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ التَّخْوِيفَ وَالْإِرْهَابَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ لِتِلْكَ الصَّيْحَةِ تَأْثِيرٌ فِي إِعَادَةِ الْحَيَاةِ؟ الْجَوَابُ: لَا، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّيْحَةَ الْأُولَى اسْتَعْقَبَتِ الْمَوْتَ وَالثَّانِيَةَ الْحَيَاةَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّيْحَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْمَوْتِ وَلَا فِي الْحَيَاةِ، بَلْ خَالِقُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢].
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: تِلْكَ الصَّيْحَةُ صَوْتُ الْمَلَائِكَةِ أَوِ اللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُهَا ابْتِدَاءً؟ الْجَوَابُ: الْكُلُّ/ جَائِزٌ إِلَّا أَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ إِسْرَافِيلَ حَتَّى يُنَادِيَ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ وَالْجُلُودُ الْبَالِيَةُ وَالْأَجْزَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ اجْتَمِعُوا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى:
اللَّفْظُ الرَّابِعُ: مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَنْظُرُونَ مَا يَحْدُثُ بِهِمْ وَيُحْتَمَلُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَنْظُرُونَ إِلَى الْبَعْثِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ وَقَائِعِ الْقِيَامَةِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ القبور قالوا: يا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ قَالَ الزَّجَّاجُ الْوَيْلُ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْقَائِلُ وَقْتَ الْهَلَكَةِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا الْقِيَامَةَ قَالُوا: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ أَيْ يَوْمُ الْجَزَاءِ هَذَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَنَّا نَرَى فِي الدُّنْيَا مُحْسِنًا وَمُسِيئًا وَعَاصِيًا وَصِدِّيقًا وَزِنْدِيقًا، وَرَأَيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ فَوَجَبَ القول بإثبات القيامة: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: ٣١] وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْكُفَّارُ وَإِنْ سَمِعُوا هَذَا الدَّلِيلَ الْقَوِيَّ لَكِنَّهُمْ أَنْكَرُوا وَتَمَرَّدُوا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا شَاهَدُوا الْقِيَامَةَ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَقُولُونَ: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ أَيْ يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ فَكَفَرْنَا بِهَا، ونظيره أن من خوف بشيء ولم يتلفت إِلَيْهِ، ثُمَّ عَايَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ يَقُولُ هذا يوم الواقعة الفلانية فكذا هاهنا، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: ٤] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَالِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا اللَّهُ فَقَوْلُهُمْ هَذَا يَوْمُ الدِّينِ، إِشَارَةٌ إلى أن