آيات من القرآن الكريم

وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَٰذَا يَوْمُ الدِّينِ
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

إثبات المعاد- الحشر والنشر والقيامة
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١ الى ٢١]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
الإعراب:
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ تاء عَجِبْتَ بالفتح: تاء المخاطب. وقرئ بالضم: إما إخبارا عن الله من إنكار الكفار البعث، مع بيان القدرة على الابتداء، حتى بلغ هذا الإنكار منزلة يقال فيه: عجبت، وإما بتقدير: قل عجبت، وحذف القول في كلام العرب كثير.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ قال الزمخشري: فَإِنَّما جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا كان ذلك، فما هي إلا زجرة واحدة.
البلاغة:
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ طباق بين التعجب والسخرية.
المفردات اللغوية:
فَاسْتَفْتِهِمْ فاستخبر مشركي مكة المنكرين للبعث أو بني آدم، إما على سبيل التقرير أو التوبيخ. أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا أهم أقوى أجساما وأعظم أعضاء وأشق إيجادا، أم من خلقنا من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب؟
والإتيان بمن هنا: لتغليب العقلاء. إِنَّا خَلَقْناهُمْ أي خلقنا أصلهم آدم. مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لزج يلصق باليد. والمعنى: كيف يستبعدون المعاد، وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف؟

صفحة رقم 71

وإن خلقهم ضعيف، فلا يتكبروا بإنكار النبي والقرآن المؤدي إلى هلاكهم اليسير.
بل للانتقال من غرض إلى آخر، وهو الإخبار بحال النبي ص وبحالهم عَجِبْتَ يا محمد من تكذيبهم إياك، ومن إنكارهم قدرة الله تعالى وإنكار البعث. وَيَسْخَرُونَ أي وهم يستهزئون من تعجبك ومما تقوله من إثبات البعث.
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة دالة على الصدق من معجزات الرسول ص، كانشقاق القمر.
يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية والاستهزاء. وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقالوا: ما هذا الذي تأتينا به وهو القرآن إلا سحر ظاهر واضح.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي أنبعث إذا متنا، وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار، وإشعارا بأن البعث في رأيهم مستنكر في نفسه، وفي هذه الحالة أشد استنكارا. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الهمزة للاستفهام، وهو عطف بالواو على محل إن واسمها: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أو عطف على ضمير: لَمَبْعُوثُونَ والفاصل همزة الاستفهام، أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون؟.
قُلْ: نَعَمْ تبعثون. وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون ذليلون. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة، وهو جواب شرط مقدر، أي إذا كان ذلك، فإنما البعث زجرة، أي صيحة واحدة هي النفخة الثانية، يقال: زجر الراعي غنمه، أي صاح عليها وأمرها بالإعادة. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإذا الخلائق قيام من مراقدهم أحياء، ينظرون ما يفعل بهم. وَقالُوا الكفار.
يا وَيْلَنا هلاكنا، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، ويقال وقت الهلاك. الدِّينِ الحساب والجزاء. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الحكم والقضاء بين الخلائق وتمييز المحسن من المسيء. وهو من قول الملائكة.
المناسبة:
افتتح الله تعالى هذه السورة بإثبات وجود الخالق وقدرته ووحدانيته بدليل واضح وهو خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب، وأعقب ذلك بإثبات المعاد وهو الحشر والنشر والقيامة.
ومن المعلوم أن المقصد الأصلي للقرآن الكريم هو إثبات الأصول الأربعة:
وهي الإلهيات، والمعاد، والنبوة، وإثبات القضاء والقدر.

صفحة رقم 72

التفسير والبيان:
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟ أي سل أيها الرسول هؤلاء المنكرين للبعث: أيهم أشد خلقا، أي أصعب إيجادا، هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ والآية نزلت في الأشد بن كلدة وأمثاله، سمي بالأشد لشدة بطشه وقوته.
والسؤال للتوبيخ والتقريع، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم، وإذا كان الأمر كذلك، فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، كما قال الله عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر ٤٠/ ٥٧] وقال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس ٣٦/ ٨١].
ثم أوضح الله تعالى مدى هذا التفاوت، فقال:
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي إنا خلقنا أصلهم وهو آدم من طين لزج يلتصق باليد. فإذا كانوا مخلوقين من هذا الشيء الضعيف، فكيف يستبعدون المعاد؟ وهو إعادة الخلق من التراب أيضا، أو من الماء الذي خالط التراب إذا مات الإنسان في الماء، ولم ينكر ذلك من هو أقوى منهم خلقا وأعظم وأكمل.
والمعنى: أن هذه الأجسام قابلة للحياة، إذ لو لم تكن قابلة للحياة، لما صارت حية في المرة الأولى، والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام.
ثم انتقل البيان القرآني من أسلوب لأسلوب، فقال تعالى:
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ أي لا حاجة لاستفتائهم، فهم قوم معاندون، وأنت يا محمد تتعجب من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، لأنك موقن إيقانا تاما بصنع الله وقدرته، وبما أخبر الله تعالى به من إعادة الأجسام بعد فنائها،

صفحة رقم 73

وهم على النقيض من ذلك يسخرون ويستهزئون مما تقول لهم من إثبات البعث، ومما تريهم من الأدلة والآيات. أو عجبت من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله ورسوله، لا يتعظون ولا ينتفعون بها، لاستكبارهم وعنادهم وقسوة قلوبهم.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ أي وإذا شاهدوا دليلا واضحا، أو معجزة من معجزات الرسول ص التي ترشدهم إلى التصديق والإيمان، يبالغون في السخرية والاستهزاء، ويتنادون للتهكم والتضاحك، ومشاركة الآخرين في السخرية.
وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقالوا: ما هذا الذي تأتينا به من الدلائل إلا سحر واضح ظاهر، فلا يؤبه له، ولا ننخدع به، وهو من تراث الأقدمين المشعوذين.
ثم خصصوا إنكارهم بالبعث، فقالوا:
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أي إن من أعجب ما تقول: أنبعث أحياء بعد أن متنا، وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ وهل يبعث أيضا آباؤنا وأجدادنا الأقدمون الغابرون الذين مضى على موتهم أحقاب طويلة الأمد؟ فإن بعثهم أشد غرابة.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: نَعَمْ، وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي قل أيها الرسول لهم: نعم، تبعثون أحياء مرة أخرى، بعد صيرورتكم ترابا، وأنتم في هذا الحشر والنشر صاغرون

صفحة رقم 74

ذليلون حقيرون تحت القدرة العظيمة، كما قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل ٢٧/ ٨٧] وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر ٤٠/ ٦٠].
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي إن الأمر سهل جدا في قدرة الله، وليس البعث صعبا ولا عسيرا، فإنما البعث صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور بأمر واحد من الله عز وجل يدعوهم للخروج من الأرض، فإذا الناس قاطبة قيام من مراقدهم في الأرض، أحياء بين يدي الله تعالى، ينظرون إلى أهوال يوم القيامة.
ثم حكى الله تعالى ملامتهم لأنفسهم إذا عاينوا أهوال القيامة بقوله:
وَقالُوا: يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي وقال منكر والبعث الذين كذبوا به في الدنيا: لنا الويل والهلاك، فقد حلّ موعد الجزاء والعقاب على ما قدمنا من أعمال من الكفر بالله والتكذيب للرسل. دعوا على أنفسهم بالويل والثبور والهلاك، لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم.
فأجابتهم الملائكة بقولهم:
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي هذا يوم الحكم والقضاء المبرم بين الناس، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء، ويبين المحق من المبطل، ففريق في الجنة وفريق في السعير.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- استدل الله تعالى على إثبات المعاد من وجهين:
أحدهما- إنه تعالى قدر على ما هو أصعب وأشد وأشق من خلق الإنسان وهو

صفحة رقم 75

خلق السموات والأرض والجبال والبحار، فوجب أيضا أن يقدر على إعادة خلق الإنسان.
الثاني- إنه تعالى قدر على خلق الإنسان في المرة الأولى، والفاعل وهو الله والقابل للخلق وهو الإنسان باقيان كما كانا، فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحال الثانية، وهي البعث أو الحشر والنشر.
فدل ذلك على أن البعث والقيامة أمر جائز ممكن.
٢- كان خلق آدم عليه السلام من الطين، وكذا خلق كل إنسان من الطين، لأن تكوينه من الدم، والدم يتولد من الغذاء، والغذاء إما حيواني وإما نباتي، وحياة الحيوان والنبات من تراب الأرض، فمنه تنتج الثمار والحبوب والأعشاب وغيرها بعد سقيها بالماء.
٣- لقد تعجب الرسول ص من إنكار مشركي مكة وغيرهم للبعث، لما استقر في قلبه من مشاهدة قدرة الله العظمى، وعجيب صنعه، ومبلغ إرادته ومشيئته.
٤- بعد تقرير الله تعالى الدليل القاطع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى الله تعالى أشياء عن المنكرين:
أولها- تعجب النبي ص من إصرارهم على الإنكار، وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات، كما تقدم، مما يدل على أن أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد، وفي طرفي النقيض.
ثانيها- أنهم إذا وعظوا بالقرآن وغيره من المسلّمات العقلية لا يتعظون ولا ينتفعون به.

صفحة رقم 76

ثالثها- أنهم إذا رأوا معجزة يبالغون في السخرية ويدعون غيرهم إلى مشاركتهم في السخرية والاستهزاء.
رابعها- أن سبب سخريتهم من الآية والمعجزة اعتقادهم أنها من باب السحر.
٥- بعد إثبات إمكان البعث والقيامة بالدليل العقلي، أقام الله تعالى الدليل السمعي القاطع على وقوع القيامة بقوله: نَعَمْ جوابا على إنكارهم البعث، بعد الموت وصيرورتهم وأسلافهم ترابا وعظاما بالية.
٦- وبعد الإثبات بالدليلين العقلي والسمعي لجواز حدوث القيامة ووقوعها ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وهي ثلاث حالات:
الحالة الأولى- أن القيامة ما هي إلا صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور، بأمر الله لدعوة الناس للخروج من الأرض، فيمتثلون فورا، وإذا هم قيام من قبورهم أحياء، ينظرون إلى أهوال القيامة، وإلى بعضهم بعضا.
الحالة الثانية- من وقائع القيامة أن المكذبين بعد القيام من القبور يقولون: يا هلاكنا، هذا هو الجزاء الذي نجازى فيه على أعمالنا من الكفر وتكذيب الرسل.
الحالة الثالثة- تجيبهم الملائكة: هذا يوم الفصل الحاسم، يوم الحكم والقضاء، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء.

صفحة رقم 77
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية