وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ سبق بيانه في الشعراء وَإِنَّكُمْ
يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سذوم (٢) في طريقه مُصْبِحِينَ
داخلين في الصباح وَبِاللَّيْلِ
قيل أي ومساء بأن يراد بالليل أوله لأنه زمان السير ولوقوعه مقابل الصباح، وقيل: أي نهارا وليلا وهو تأويل قبل الحاجة ولذا اختير الأول، ووجه التخصيص عليه بأنه لعل سدوم وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد مساء، وقال بعض الأجلة: لو أبقى على ظاهره لأن ديار العرب لحرها يسافر فيها في الليل إلى الصباح خلا عن التكلف في توجيه المقابلة أَفَلا تَعْقِلُونَ
أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فإن منشأ ذلك مخالفتهم رسولهم ومخالفة الرسول قدر مشترك بينكم.
(٢) سذوم بالدال المهملة والذال المعجمة بلد قوم لوط عليه السلام.
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
يروى على ما في البحر أنه عليه السلام نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وحكي في البحر أنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور، وهل هذا اسم أمه أو أبيه فيه خلاف فقيل اسم أمه وهو المذكور في تفسير عبد الرزاق، وقيل: اسم أبيه وهذا- كما قال ابن حجر- أصح، وبعض أهل الكتاب يسميه يونان بن مائي، وبعضهم يسميه يونه بن امتياي ولم نقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وفي اسمه عند العرب ست لغات تثليث النون مع الواو والياء والهمزة، والقراءة المشهورة بضم النون مع الواو. وقرأ أبو طلحة بن مصرف بكسر النون قيل أراد أن يجعله عربيا مشتقا من أنس وهو كما ترى إِذْ أَبَقَ
هرب، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه كما هو الأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام حسن إطلاقه عليه فهو إما استعارة أو مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق، والأول أبلغ، وقال بعض الكمل: الإباق الفرار من السيد بحيث لا يهتدي إليه طالب أي بهذا القصد، وكان عليه السلام هرب من قومه بغير إذن ربه سبحانه إلى حيث طلبوه فلم يجدوه فاستعير الإباق لهربه باعتبار هذا القيد لا باعتبار القيد الأول، وفيه بعد تسليم اعتبار هذا القيد على ما ذكره بعض أهل اللغة أنه لا مانع من اعتبار ذلك القيد فلا اعتبار بنفي اعتباره إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
المملوء فَساهَمَ
فقارع عليه السلام من في الفلك، واستدل به من قال بمشروعية القرعة.
فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله المزلق اسم مفعول عن مقام الظفر.
يروى أنه وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث خرج يونس قبل أن يأذن الله تعالى له ففقده قومه فخرجوا بالكبير والصغير والدواب وفرقوا بين كل والدة وولدها فشارف نزول العذاب بهم فعجوا إلى الله تعالى وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله تعالى وصرف عنهم العذاب فلما لم ير يونس نزول العذاب استحى أن يرجع إليهم وقال: لا أرجع إليهم كذابا أبدا ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجة وقفت فلم تسر فقال صاحبها: ما يمنعها أن تسير إلا أن فيكم رجلا مشؤوما فاقترعوا ليلقوا من وقعت عليه القرعة في الماء فوقعت على يونس ثم أعادوا فوقعت عليه ثم أعادوا فوقعت عليه فلما رأى ذلك رمى بنفسه في الماء.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه من اللقمة،
وفي خبر أخرجه أحمد وغيره عن ابن مسعود أنه أتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه فلما دخلها ركدت والسفن تسير يمينا وشمالا فقال: ما بال سفينتكم؟ قالوا: ما ندري قال: ولكني أدري إن فيها عبدا آبق من ربه وإنها والله لا تسير حتى تلقوه قالوا: أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك فقال لهم: اقترعوا فمن قرع فليلق فاقترعوا ثلاث مرات وفي كل مرة تقع القرعة عليه فرمى بنفسه فكان ما قص الله تعالى
. وكيفية اقتراعهم على ما
في البحر عن ابن مسعود أنهم أخذوا لكل سهما على أن من طفا سهمه فهو ومن غرق سهمه فليس إياه فطفا سهم يونس.
وروي أنه لما وقف على شفير السفينة ليرمي بنفسه رأى حوتا- واسمه على ما أخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن قتادة نجم- قد رفع رأسه من الماء قدر ثلاثة أذرع يرقبه ويترصده فذهب إلى ركن آخر فاستقبله الحوت فانتقل إلى آخر فوجده
وهكذا حتى استدار بالسفينة فلما رأى ذلك عرف أنه أمر من الله تعالى فطرح نفسه فأخذه قبل أن يصل إلى الماء وَهُوَ مُلِيمٌ أي داخل في الملامة على أن بناء افعل للدخول في الشيء نحو أحرم إذا دخل الحرم أو آت بما يلام عليه على أن الهمزة فيه للصيرورة نحو أغد البعير أي صار ذا غدة فهو هنا لما أتى بما يستحق اللوم عليه صار ذا لوم أو مليم نفسه على أن الهمزة فيه للتعدية نحو أقدمته والمفعول محذوف، وما روي عن ابن عباس ومجاهد من تفسيره بالمسيء والمذنب فبيان لحاصل المعنى وحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقرىء «مليم» بفتح أوله اسم مفعول وقياسه ملوم لأنه واوي يقال لمته ألومه لوما لكنه جيء به على ليم كما قالوا مشيب
ومدعي في مشوب ومدعو بناء على شيب ودعي وذلك أنه لما قلبت الواو ياء في المجهول جعل كالأصل فحمل الوصف عليه.
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي من الذاكرين الله تعالى كثيرا بالتسبيح كما قيل، وفي كلام قتادة ما يشعر باعتبار الكثرة، واستفادتها على ما قال الخفاجي من جعله من المسبحين دون أن يقال مسبحا فإنه يشعر بأنه عريق فيهم منسوب إليهم معدود في عدادهم ومثله يستلزم الكثرة، وقيل: من التفعيل. ورد بأن معنى سبح لم يعتبر فيه ذلك إذ هو قال سبحان الله، وقد يقال: هي من إرادة الثبوت من الْمُسَبِّحِينَ فإنه يشعر بأن التسبيح ديدن لهم، والمراد بالتسبيح هاهنا حقيقته وهو القول المذكور أو ما في معناه وروي ذلك عن ابن جبير.
وهذا الكون عند بعض قبل التقام الحوت أيام الرخاء، واستظهر أبو حيان أنه في بطن الحوت وأن التسبيح ما ذكره الله تعالى في قوله سبحانه: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:
٨٧] وحمله بعضهم على الذكر مطلقا، وبعض آخر على العبادة كذلك، وجماعة منهم ابن عباس على الصلاة بل روي عنه أنه قال: كل ما في القرآن من التسبيح فهو بمعنى الصلاة، وأنت تعلم أن كان اللفظ فيما ذكر حقيقة شرعية ولم يكن للتسبيح حقيقة أخرى شرعية أيضا لم يحتج إلى قرينة، وإن كان مجازا أو كان للتسبيح حقيقة شرعية أخرى احتيج إلى قرينة فإن وجدت فذاك وإلا فالأمر غير خفي عليك، وكما اختلف في زمان التسبيح بالمعنى السابق اختلف في زمانه بالمعاني الأخر، أخرج أحمد في الزهد. وغيره عن ابن جبير في قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قال: من المصلين قبل أن يدخل بطن الحوت، وأخرج أحمد وغيره أيضا عن الحسن في الآية قال: ما كان إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت فذكر ذلك لقتادة فقال: لا إنما كان يعمل في الرخاء، وروي عن الحسن غير ما ذكر،
فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم أنه قال في الآية: كان يكثر الصلاة في الرخاء فلما حصل في بطن الحوت ظن أنه الموت فحرك رجليه فإذا هي تتحرك فسجد وقال: يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يسجد فيه أحد.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك بن قيس قال: اذكروا الله تعالى في الرخاء يذكر كم في الشدة فإن يونس عليه السلام كان عبدا صالحا ذاكر الله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
[يونس: ٩٠] إلخ وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: ٩٠]. فقيل له: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يونس: ٩١] والأولى حمل زمان كونه من المسبحين على ما يعم زمان الرخاء وزمان كونه في بطن الحوت فإن لاتصافه بذلك في كلا الزمانين مدخلا في خروجه من بطن الحوت المفهوم من قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ كما يشعر به ما
في حديث أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس مرفوعا من أنه عليه السلام لما التقمه الحوت وهوى به حتى انتهى إلى ما انتهى من الأرض سمع تسبيح الأرض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت الدعوة نحو العرش فقالت الملائكة: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا من بلاد غربة قال سبحانه: وما تدرون ما ذاكم؟ قالوا: لا يا ربنا قال: ذاك عبدي يونس قالوا: الذي كنا لا نزال نرفع له عملا متقبلا ودعوة مجابة؟ قال: نعم قالوا: يا ربنا ألا ترحم ما كان يصنع في الرخاء وتنجيه عند البلاء؟ قال: بلى فأمر عز وجل الحوت فلفظه.
واستظهر أبو حيان أن المراد بقوله سبحانه لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلخ لبقي في بطنه حيا إلى يوم البعث وبه أقول.
وتعقب بأنه ينافيه ما ورد من أنه لا يبقى عند النفخة الأولى ذو روح من البشر والحيوان في البر والبحر. وأجيب بعد تسليم ورود ذلك أو ما يدل عليه بأنه مبالغة في طول المدة مع أنه في حيز لو فلا يرد رأسا (١) أو المراد بوقت البعث ما يشمل زمان النفخة لأنه من مقدماته فكأنه منه، وعن قتادة لكان بطن الحوت قبرا له، وظاهره أنه أريد للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث، ولا مانع من بقاء بنية الحوت كبنيته من غير تسلط البلاء إلى ذلك اليوم، وضمير يُبْعَثُونَ لغير مذكور وهو ظاهر فَنَبَذْناهُ بأن حملنا الحوت على لفظه فالإسناد مجازي، والنبذ على ما في القاموس طرحك الشيء أماما أو وراء أو هو عام.
وقال الراغب: النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، والمراد به هنا الطرح والرمي والقيد الذي ذكره الراغب لا أرغب فيه فإنه عليه السلام وإن أبق وخرج من غير إذن مولاه واعتراه من تأديبه تعالى ما اعتراه فالرب عز وجل بأنبيائه رحيم وله سبحانه في كل شأن اعتداد بهم عظيم فهو عليه السلام معتد به في حال الإلقاء وإن كان ذلك بِالْعَراءِ أي بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت، يروى أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس ويونس يسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه. ورد بأنه يأباه قوله تعالى فَنادى فِي الظُّلُماتِ وأجيب بأنه بمجرد رفع رأسه للتنفس لا يخرج منها، ثم إنّ هذا لئلا يختنق يونس أو تنحصر نفسه بحكم العادة لا ليمتنع دخول الماء جوف الحوت حتى يقال السمك لا يحتاج لذلك، ومع هذا نحن لا نجزم بصحة الخبر فقد روي أيضا أنه طاف به البحار كلها ثم نبذه على شط دجلة قريب نينوى بكسر النون الأولى وضم الثانية كما في الكشف من أرض الموصل، والالتقام كان في دجلة أيضا على ما صرح به البعض وخالف فيه أهل الكتاب، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل كلامهم لك في هذه القصة لتقف على ما فيه.
والظاهر أن الحوت من حيتان دجلة أيضا وقد شاهدنا فيها حيتانا عظيمة جدا، وقيل كان من حيتان النيل. أخرج ابن شيبة عن وهب أنه جلس هو وطاوس ونحوهما من أهل ذلك الزمان فذكروا أي أمر الله تعالى أسرع؟ فقال بعضهم:
قول الله تعالى كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: ٧٧، القمر: ٥٠] وقال بعضهم: السرير حين أتى به سليمان، وقال وهب:
أسرع أمر الله تعالى أن يونس على حافة السفينة إذ أوحى الله سبحانه إلى نون في نيل مصر فما خر من حافتها إلا في جوفه، ولا شبهة في أن قدرة الله عز وجل أعظم من ذلك لكن الشبهة في صحة الخبر.
وكأني بك تقول: لا شبهة في عدم صحته. واختلف في مدة لبثه فأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وغيره عن الشعبي قال: التقمه الحوت ضحى ولفظه عشية وكأنه أراد حين أظلم الليل، وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال: إنه لبث في جوفه ثلاثا، وفي كتب أهل الكتاب ثلاثة أيام وثلاث ليال، وعن عطاء وابن جبير سبعة أيام، وعن الضحاك عشرين يوما، وعن ابن عباس وابن جريج وأبي مالك والسدي ومقاتل بن سليمان والكلبي وعكرمة أربعين يوما، وفي البحر ما يدل على أنه لم يصح خبر في مدة لبثه عليه السلام في بطن الحوت وَهُوَ سَقِيمٌ مما ناله، قال ابن عباس والسدي: إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد، وعن ابن جبير أنه عليه السلام ألقي ولا شعر له ولا جلد ولا ظفر. ولعل ذلك يستدعي بحكم العادة أن لمدة لبثه في بطن الحوت طولا ما.
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي أنبتناها مطلة عليه مظلة له كالخيمة فعليه حال من شَجَرَةً قدمت
عليها لأنها نكرة، واليقطين يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به، وزاد الطبرسي إقامة زائل لا إقامة راسخ، والمراد به على ما جاء عن الحسن والسبط. وابن عباس في رواية وابن مسعود وأبي هريرة وعمرو بن ميمون وقتادة وعكرمة وابن جبير ومجاهد في إحدى الروايتين عنهما الدباء وهو القرع المعروف، وكان النبي ﷺ يحبه، وأنبتها الله تعالى مطلة عليه لأنها تجمع خصالا برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقع عليها على ما قيل، وكان عليه السلام لرقة جلده بمكثه في بطن الحوت يؤذيه الذباب ومماسة ما فيه خشونة ويؤلمه حر الشمس ويستطيب بارد الظل فلطف الله تعالى به بذلك، وذكر أن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده واشتهر أن الشجر ما كان على ساق من عود فيشكل تفسير الشجرة هنا بالدباء.
وأجاب أبو حيان بأنه يحتمل أن الله تعالى أنبتها على ساق لتظله خرقا للعادة، وقال الكرماني: العامة تخصص الشجر بما له ساق، وعند العرب كل شيء له أرومة تبقى فهو شجر وغيره نجم، ويشهد له قول أفصح الفصحاء ﷺ شجرة الثوم انتهى.
وقال بعض الأجلة: لك أن تقول أصل معناه ما له أرومة لكنه غلب في عرف أهل اللغة على ما له ساق وأغصان فإذا أطلق يتبادر منه المعنى الثاني وإذا قيد كما هنا. وفي الحديث يرد على أصله وهو الظاهر، ثم ذكر أن ما قاله أبو حيان تمحل في محل لا مجال للرأي فيه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن جبير أنه قال: كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين والذي يكون على وجه الأرض من البطيخ والقثاء، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل عن اليقطين أهو القرع؟ قال: لا ولكنها شجرة سماها الله تعالى اليقطين أظلته.
وفي رواية عن ابن عباس أنه كل شيء ينبت ثم يموت من عامه، وفي أخرى كل شيء يذهب على وجه الأرض.
وقيل شجرة اليقطين هي شجرة الموز تغطي بورقها واستظل بأغصانها وأفطر على ثمارها، وقيل شجرة التين والأصح ما تقدم.
وروي عن قتادة أنه عليه السلام كان يأكل من ذلك القرع، وجاء في رواية عن أبي هريرة أنه قال: طرح بالعراء فأنبت الله تعالى عليه يقطينة فقيل له: ما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء هيأ الله تعالى له أروية وحشية تأكل من حشاش الأرض فتفسح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبتت، وقيل: إنه كان يستظل بالشجرة وتختلف إليه الأروية فيشرب من لبنها، وفي بعض الآثار أنها نبتت وأظلته في يومها.
أخرج أحمد في الزهد وغيره عن وهب أنه لما خرج من البحر نام نومة فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين وهي الدباء فأظلته وبلغت في يومها فرآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته ثم نام نومة فاستيقظ فإذا هي قد يبست فجعل يحزن عليها فقيل له: أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ثم رحمتهم فشق عليك وهؤلاء هم أهل نينوى المعنيون بقوله تعالى:
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ والإرسال على ما أخرج غير واحد عن مجاهد والحسن وقتادة هو الإرسال الأول الذي كان قبل أن يلتقمه الحوت فالعطف على قوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ
إلخ على سبيل البيان لدلالته على ابتداء الحال وانتهائه وعلى ما هو المقصود من الإرسال من الإيمان، واعترض بينهما بقصته اعتناء بها لغرابتها. وأورد عليه أنه يأبى عن حمله على الإرسال الأول الفاء في قوله تعالى: فَآمَنُوا فإن أولئك لم يؤمنوا عقيب إرساله الأول بل بعد ما فارقهم. وأجيب بأنه تعقيب عرفي نحو تزوج فولد له.
وقيل: الأقرب أن الفاء للتفصيل أو السببية، وقيل هو إرسال ثان إليهم بعد أن أصابه ما أصابه فالعطف على ما عنده.
وأورد عليه أن المروي أنهم بعد مفارقته لهم رأوا العذاب أو خافوه فآمنوا فقوله تعالى فَآمَنُوا في النظم الجليل هنا يأبى عن حمله على إرسال ثان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون الإيمان المقرون بحرف التعقيب إيمانا مخصوصا أو أن آمنوا بتأويل أخلصوا الإيمان وجددوه لأن الأول كان إيمان بأس، وقيل هو إرسال إلى غيرهم، وقيل: إن الأولين بعد أن آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم وقال لهم: إن الله تعالى باعث إليكم نبيا.
وفي خبر طويل أخرجه أحمد في الزهد وجماعة عن ابن مسعود أنه عليه السلام بعد أن نبذ بالعراء وأنبت الله تعالى عليه الشجرة وحسن حاله خرج فإذا هو بغلام يرعى غنما فقال: ممن أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس قال: فإذا رجعت إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل فمن يشهد لي؟ قال: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس: مرهما فقال لهما يونس: إذا جاء كما هذا الغلام فاشهدا له قالتا: نعم فرجع الغلام إلى قومه وكان له اخوة فكان في منعة فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام فأمر به الملك أن يقتل فقال: إن لي بينة فأرسل معه فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام نشدتكما بالله هل أشهد كما يونس قالتا: نعم فرجع القوم مذعورين يقولون: تشهد لك الشجرة والأرض فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه وقال: أنت أحق بهذا المكان مني وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة
، وهذا دال بظاهره أنه عليه السلام لم يرجع بعد أن أصابه ما أصابه إليهم فإن صح يراد بالإرسال هنا إما الإرسال الأول الذي تضمنه قوله تعالى وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
وإما إرسال آخر إلى غير أولئك القوم، والمعروف عند أهل الكتاب أنه عليه السلام لم يرسل إلا إلى أهل نينوى، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تفصيل قصته عندهم وأَوْ على ما نقل عن ابن عباس بمعنى بل، وقيل:
بمعنى الواو وبها قرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما
، وقيل: للإبهام على المخاطب، وقال المبرد وكثير من البصريين: للشك نظرا إلى الناظر من البشر على معنى من رآهم شك في عددهم وقال مائة ألف أو يزيدون والمقصود بيان كثرتهم أو أن الزيادة ليست كثيرة كثرة مفرطة كما يقال هم ألف وزيادة، وقال ابن كمال: المراد يزيدون باعتبار آخر وذلك أن المكلفين بالفعل منهم كانوا مائة ألف وإذا ضم إليهم المراهقون الذين بصدد التكليف كانوا أكثر ومن هاهنا ظهر وجه التعبير بصيغة التجدد دون الثبات. وتعقب بأنه مع أن المناسب له الواو تكلف ركيك، وأقرب منه أن الزيادة بحسب الإرسال الثاني ويناسبه صيغة التجدد وإن كانت للفاصلة، وهو معطوف على جملة أَرْسَلْناهُ بتقديرهم يزيدون لا على مِائَةِ بتقدير أشخاص يزيدون أو تجريده للمصدرية فإنه ضعيف، والزيادة على ما روي عن ابن عباس ثلاثون ألفا، وفي أخرى عنه بضعة وثلاثون ألفا، وفي أخرى بضعة وأربعون ألفا، وعن نوف وابن جبير سبعون ألفا،
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله ﷺ عن قول الله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون عشرين ألفا
، وإذا صح هذا الخبر بطل ما سواه.
فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة إِلى حِينٍ إلى آجالهم المسماة في الأزل قاله قتادة والسدي، وزعم بعضهم أن تمتيعهم بالحياة إلى زمان المهدي وهم إذا ظهر من أنصاره فهم اليوم أحياء في الجبال والقفار لا يراهم كل أحد كالمهدي عند الإمامية والخضر عند بعض العلماء والصوفية، وربما يكشف لبعض الناس فيرى أحدا منهم، وهو كذب مفترى، ولعل عدم ختم هذه القصة والقصة التي قبلها بنحو ما ختم به سائر القصص من قوله تعالى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ [الصافات: ١٣٠] إلخ تفرقة بين شأن لوط ويونس عليهما السلام وشأن أصحاب الشرائع الكبر
وأولي العزم من المرسلين مع الاكتفاء فيهما بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور في آخر السورة ولتأخرهما في الذكر قربا منه والله تعالى أعلم. والمذكور في شأن يونس عليه السلام في كتب أهل الكتاب أن الله عز وجل أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم فاستعظم الأمر وهرب إلى ترسيس فجاء يافا فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائما؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا، وقال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت ومن أين أتيت وإلى أين تمضي ومن أي كورة أنت ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد الرب إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما. وقالوا له: لم صنعت ما صنعت يلومونه على ذلك ثم قالوا له: ما نصنع الآن بك ليسكن البحر عنا؟ فقال:
ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوها إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله تعالى حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال عز وجل له: قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل فمضى عليه السلام ونادى وقال: تخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله تعالى ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحمهم الله تعالى فلم ينزل بهم العذاب فحزن يونس وقال: إلهي من هذا هربت فإني علمت أنك الرحيم الرؤوف الصبور التواب يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدا؟
فقال: نعم يا رب وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة فأمر الله تعالى يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلاله من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس عليه السلام فعظم الأمر عليه واستطيب الموت فقال له الرب: يا يونس أحزنت جدا على اليقطين؟ فقال: نعم يا رب حزنت جدا فقال سبحانه: حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها سكان أكثر من اثني عشر ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى، وفيه من المخالفة للحق ما فيه ولتطلع على حاله نقلته لك وكم لأهل الكتاب من باطل:
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم في صدر السورة الكريمة بتبكيت قريش وإبطال مذهبهم في إنكار البعث بطريق الاستفتاء وساق البراهين الناطقة بتحققه لا محالة وبين وقوعه وما يلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين وفصل سبحانه ما لهم من النعيم المقيم، ثم ذكر سبحانه أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين وأنه تعالى أرسل إليهم منذرين على وجه الإجمال، ثم أورد قصص بعض الأنبياء عليهم السلام بنوع تفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له عز وجل، ثم أمره صلّى الله عليه وسلم هاهنا بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن وجه ما تنكره العقول بالكلية وهي القسمة الباطلة اللازمة لما كانوا عليه من الاعتقاد الزائغ حيث كانوا يقولون كبعض أجناس العرب جهينة وسليم وخزاعة وبني مليح: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ثم بتبكيتهم بما يتضمنه كفرهم المذكور من الاستهانة بالملائكة عليهم السلام بجعلهم إناثا، ثم أبطل سبحانه
أصل كفرهم المنطوي على هذين الكفرين وهو نسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولم ينظمه سبحانه في سلك التبكيت لمشاركتهم اليهود القائلين عزير ابن الله والنصارى المعتقدين عيسى ابن الله تعالى الله عن ذلك، والفاء قيل لترتيب الأمر على ما يعلم مما سبق من كون أولئك الرسل أعلام الخلق عليهم السلام عباده تعالى فإن ذلك مما يؤكد التبكيت ويظهر بطلان مذهبهم الفاسد فكأنه قيل: إذا كان رسل ربك من علمت حالهم فاستخبر هؤلاء الكفرة عن وجه كون البنات وهن أوضع الجنسين له تعالى بزعمهم والبنين الذين هم أرفعهما لهم فإنهم لا يستطيعون أن يثبتوا له وجها لأنه في غاية البطلان لا يقوله من له أدنى شيء من العقل، وقال بعض الأجلة: الكلام متصل بقوله تعالى في أول السورة فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [الصافات: ١١] على أن الفاء هنا للعطف على ذاك، والتعقيب لأنه أمر بهما من غير تراخ، وهي هناك جزائية في جواب شرط مقدر، وبهذا القول أقول. وأورد عليه أبو حيان أن فيه الفصل الطويل وقد استقبح النحاة الفصل بجملة نحو أكلت لحما وأضرب زيدا وخبزا فما ظنك بالفصل بجمل بل بما يقرب من سورة. وأجيب بأن ما ذكر في عطف المفردات وأما الجمل فلاستقلالها يغتفر فيها ذلك، والكلام هنا لما تعانقت معانيه وارتبطت مبانيه وأخذ بعضها بحجز بعض حتى كأن الجميع كلمة واحدة لم يعد البعد بعدا كما قيل:
وليس يضير البعد بين جسومنا | إذا كان ما بين القلوب قريبا |
وأضيف الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دون ضميرهم تشريفا لنبيه صلّى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنهم في قولهم بالبنات له عز وجل كالنافين لربوبيته سبحانه لهم، وقوله سبحانه: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً إضراب وانتقال من التبكيت بالاستفتاء السابق إلى التبكيت بهذا أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأقواهم وأعظمهم تقدسا عن النقائص الطبيعية إناثا والأنوثة من أخس صفات الحيوان.
وقوله تعالى: وَهُمْ شاهِدُونَ استهزاء بهم وتجهيل لهم كقوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: ١٩] فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم شاهدا عند خلقهم، والجملة أما حال من فاعل خَلَقْنَا أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ أو عطف على خَلَقْنَا أي بل أهم شاهدون.
وقول تعالى أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الاستفتاء صفحة رقم 143
مسوق لإبطال أصل مذهبهم الفاسد ببيان أن مبناه ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يتدينون به مطلقا أو في هذا القول، وفيه تأكيد لقوله تعالى: مِنْ إِفْكِهِمْ وقرىء «ولد الله» بالإضافة ورفع ولد على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ليقولون الملائكة ولد الله والولد فعل بمعنى مفعول يقع على المذكر والمؤنث والواحد والجمع ولذا وقع هنا خبرا عن الملائكة المقدر أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ بهمزة مفتوحة هي حرف استفهام حذفت بعدها همزة الوصل والاستفهام للإنكار والمراد اثبات إفكهم وتقرير كذبهم، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء لنفسه.
وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة «اصطفى» بكسر الهمزة وهي همزة الوصل وتكسر إذا ابتدئ بها وخرجت على حذف أداة الاستفهام لدلالة أم بعد وإن كانت منقطعة غير معادلة لها لكثرة استعمالها معها، وجوز إبقاء الكلام على الأخبار إما على إضمار القول أي لكاذبون في قولهم اصطفى إلخ أو يقولون اصطفى إلخ على ما قيل: أو على الإبدال من قولهم ولد الله أو الملائكة ولد الله وليس دخيلا بين نسيبين، والأولى التخريج على حذف الأداة وحسم البحث فتأمل.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بهذا الحكم الذي نقضي ببطلانه بداهة العقول والالتفات لزيادة التوبيخ أَفَلا تَذَكَّرُونَ بحذف أحد التاءين من تتذكرون. وقرأ طلحة بن مصرف تذكرون بسكون الذال وضم الكاف من ذكر.
والفاء للعطف على مقدر أي تلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل كل ذكي وغبي أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ إضراب وانتقال من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلا أي بل ألكم حجة واضحة نزلت من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الناطق بصحة دعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
فيها، والأمر للتعجيز، وإضافة الكتاب إليهم للتهكم، وفي الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وأفهامهم مع استهزاء بهم وتعجيب من جهلهم ما لا يخفى على من تأمل فيها، وقوله تعالى وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم وتحكى لآخرين جناياتهم، واستظهر أن المراد بالجنة الشياطين وأريد بالنسب المجعول المصاهرة.
أخرج آدم بن أبي أياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال: قال كفار قريش الملائكة بنات الله تعالى فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي على سبيل التبكيت: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: بنات سروات الجن وروي هذا ابن أبي حاتم عن عطية، أو أريد جعلوا بينه سبحانه وبينهم مناسبة حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة وروي هذا عن الحسن، وقيل إن قوما من الزنادقة يقولون الله عز وجل وإبليس عليه اللعنة أخوان فالله تعالى هو الخير الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم وهو المراد بقوله سبحانه: وَجَعَلُوا إلخ وحكى هذا الطبرسي عن الكلبي، وقال الإمام الرازي: وهذا القول عندي أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ويعبرون عنهما بالنور والظلمة، ويبعد هذا القول عندي أن الظاهر أن ضمير جَعَلُوا كالضمائر السابقة لقريش ولم يشتهر ذلك عنهم بل ولا عن قبيلة من قبائل العرب وليس المقام للرد على الكفرة مطلقا.
وأخرج غير واحد عن مجاهد وعبد بن حميد عن عكرمة وابن أبي شيبة عن أبي صالح أن المراد بالجنة الملائكة، وحكاه في مجمع البيان عن قتادة واختاره الجبائي، والمراد بالجعل المذكور ما تضمنه قولهم: الملائكة
بنات الله، وأعيد تمهيدا لما يعقبه، وهو مبني على أن الجن والملك جنس واحد مخلوقون من عنصر واحد وهو النار لكن من كان من كثيفها الدخاني فهو شيطان وهو شرذ وتمرد ومن كان من صافي نورها فهو ملك وهو خير كله، ووجه التسمية بالجن الاستتار عن عيوننا فالجن والجنة بمعنى مفعول من جنه إذا ستره، ويكون على هذا تخصيص الجن بأحد نوعيه تخصيصا طارئا كتخصيص الدابة، وعلى الأصل جاء ما هنا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نوعا من الملائكة عليهم السلام يسمى الجن ومنهم إبليس وعبر عن الملائكة بالجنة حطالهم مع عظم شأنهم في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم في قولهم ذلك، وقد يقال: إن الاستتار كالداعي لهم إلى ذلك الزعم الباطل بناء على توهمهم بأنه إنما يليق بالإناث فقالوا: لو لم يكونوا بناته سبحانه وتعالى لما سترهم عن العيون فلذا عبر عنهم بالجنة وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي والله لقد علمت الشياطين أي جنسهم أن الله تعالى يحضرهم ولا بد النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه فضمير إِنَّهُمْ للجنة على ما عدا الوجه الأخير من الأوجه السابقة وأما عليه فهو للكفرة أي والله لقد علمت الملائكة الذين جعلوا بينه تعالى وبينهم نسبا وقالوا هم بناته أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك، والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذين يدعى لهم هؤلاء تلك النسبة ويعلمون أنهم علم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكما مؤكدا، ويجوز على الأوجه الأول عود الضمير على الكفرة أيضا والمعنى على نحو ما ذكر، وعلم الملائكة أن الكفرة معذبون ظاهر، وعلم الشياطين بأنهم أنفسهم وكذا سائر الكفرة معذبون لما أن الله عز وجل توعد إبليس عليه اللعنة بما يدل على ذلك.
وقوله سبحانه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ على جميع الأوجه السابقة تنزيه من جهته تعالى لنفسه عن الوصف الذي لا يليق به، وقوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من المحضرين وما بينهما اعتراض أي ولكن المخلصون ناجون، وجوز كونه استثناء متصلا منه ويفسر ضمير إِنَّهُمْ بما يعم وهو خلاف الظاهر.
وجوز كونه استثناء منقطعا من ضمير يَصِفُونَ وكونه استثناء متصلا منه وهو خلاف الظاهر أيضا.
وجوز كونه استثناء من ضمير جَعَلُوا على الانقطاع لا غير وما في البين اعتراض، واختار الواحدي الوجه الأول. قال الطيبي: ويحسن كل الحسن إذا فسر الجنة بالشياطين أي وضمير إِنَّهُمْ بالكفرة ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٣٩، ٤٠، ص: ٨٢، ٨٣] أي إنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في اغوائنا إياهم لكن الذين أخلصوا الطاعة لله تعالى وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون ويكون ذلك مدحا للمخلصين وتعريضا بالمشركين وإرغاما لأنوفهم ومزيدا لغيظهم أي إنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول اه. وفي بيان المعنى نوع قصور، وقوله تعالى:
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ عود إلى خطابهم، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم هذا أو إذا كان المخلصون ناجين فَإِنَّكُمْ إلخ، والواو للعطف وَما تَعْبُدُونَ معطوف على الضمير في فَإِنَّكُمْ وضمير عَلَيْهِ لله عز وجل والجار متعلق بفاتنين وعدي بعلى لتضمنه معنى الاستيلاء وهو استعارة من قولهم فتن غلامه أو امرأته عليه إذا أفسده والباء زائدة وهو خبر ما، والجملة خبر إن والاستثناء مفرغ من مفعول فاتنين المقدر وأَنْتُمْ خطاب للكفرة ومعبوديهم على سبيل التغليب نحو أنت وزيد تخرجان أي ما أنتم
ومعبود وكم مفسدين أحدا على الله عز وجل بإغوائكم إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها ويدخلها لا محالة.
وجوز كون الواو هنا مثلها في قولهم كل رجل وضيعته فجملة ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ إلخ مستقلة ليست خبرا لأن وضمير عَلَيْهِ لما بتقدير مضاف وهو متعلق بفاتنين أيضا بتضمينه معنى البعث أو الحمل ولا تغليب في الخطاب كأنه قيل: إنك وآلهتكم قرناء لا تبرحون تعبدونها ثم قيل ما أنتم على عبادة ما تعبدون بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال أحدا إلا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار، وظاهر صنيع بعضهم أن أمر التغليب في أَنْتُمْ على هذا على حاله، وأنت تعلم أن الظاهر الاتصال، وجوز أن يراد معنى المعية وخبر إن جملة ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ إلخ ويكون الكلام على أسلوب قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط عامله الله تعالى بما هو أهله يحض معاوية على حرب الأمير علي كرم الله تعالى وجهه:
فإنك والكتاب إلى على | كدابغة وقد حلم الأديم |
الثاني أن يكون مفردا حذفت لامه وهي الياء تخفيفا جعلت كالمنسى وجرى الإعراب على عينه كما جرى على عين يد ودم وعلى ذلك قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرحمن: ٥٤] وقوله سبحانه وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ [الرحمن: ٢٤] بضم نون دان وراء الجوار وقولهم ما باليت به بالة فإن أصل بالة بالية بوزن عافية حدفت لامه فأجري الإعراب على عينه ولما لحقته الهاء انتقل إليها، الثالث أن يكون مفردا أيضا ويكون أصله صائل على القلب المكاني بتقديم اللام على العين ثم حذفت اللام المقدمة وهي الياء فبقي صال بوزن فاع وصار معربا كباب ونظيره شاك الجاري إعرابه على الكاف في لغة، وقوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على من يزعم فيهم خلافها فهو من كلامه تعالى لكنه حكي بلفظهم وأصله وما منهم إلا إلخ أي وما منا إلا له مقام معلوم في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى في تدبير العالم مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع أن يزل عنه خضوعا لعظمته تعالى وخشوعا لهيبته سبحانه وتواضعا لجلاله جل شأنه كما
روي «فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه»
وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن مردويه عن أبي ذر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضعا جبهته ساجدا لله».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم صفحة رقم 146
وإنا لنحن الصافون»
وعن السدي إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ في القرب والمشاهدة، وجعل بعضهم ذلك من كلام الجنة بمعنى الملائكة متصلا بما قبله من كلامهم وهو من قوله تعالى سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إلى الْمُسَبِّحُونَ فقال بعد أن فسر الجنة بالملائكة: إن سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ حكاية لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم في ذلك بتقدير قول معطوف على عَلِمَتِ وإِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئتهم منه بحكم اندراجهم في زمرة المخلصين على أبلغ وجه وأكده على أنه استثناء منقطع من واو يَصِفُونَ كأنه قيل: ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون لكن عباد الله الذين نحن من جملتهم برآء من ذلك الوصف، وفَإِنَّكُمْ إلخ تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين عما ذكر ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون الشياطين الذين أغووهم وفيه إيذان بتبريهم عنهم وعن عبادتهم كقوله بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: ٤١] وقولهم وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ إلخ تبين لجلية أمرهم وتعيين لحيزهم في موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وجعل تفسير الجنة بالملائكة هو الوجه لاقتضاء ربط الآيات وتوجيهها بما ذكر إياه وفي التعليل شيء، نعم إن هذه الآية تقوي قول من يقول: المراد بالجنة فيما سبق الملائكة عليهم السلام تقوية ظاهرة جدا وإن الربط الذي ذكر في غاية الحسن، وقيل: هو من قول الرسول عليه الصلاة والسلام أي وما من المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وهو متصل بقوله فَاسْتَفْتِهِمْ كأنه قيل فاستفتهم وقل وما منا إلخ على معنى بكتهم بذلك وانع عليهم كفرانهم وعدد ما أنت وأصحابك متصف به من أضدادها، وإن شئت لم تقدر قل بعد علمك بأن المعنى ينساق إليه وهو بعيد فافهم والله تعالى أعلم.
ومِنَّا خبر مقدم والمبتدأ محذوف للاكتفاء بصفته وهي جملة له مقام أي ما مِنَّا أحد إلا له مقام معلوم. وحذف الموصوف بجملة أو شبهها إذا كان بعض ما قبله من مجرور بمن أو في مطرد وهذا اختيار الزمخشري.
وقال أبو حيان مِنَّا صفة لمبتدأ محذوف والجملة المذكورة هي الخبر أي وما أحد كائن منا إلا له مقام معلوم.
وتعقب ما مر بأنه لا ينعقد كلام من ما منا أحد، وقوله سبحانه إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هو محط الفائدة فيكون هو الخبر وإن تخيل أن إلا بمعنى غير وهي صفة لا يصح لأنه لا يجوز حذف موصوفها وفارقت غير إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وقال غيره: إن فيه أيضا التفريغ في الصفات وهم منعوا ذلك، ودفع بأنه ينعقد منه كلام مفيد مناسب للمقام إذ معناه ما منا أحد متصف بشيء من الصفات إلا بصفة أن يكون له مقام معلوم لا يتجاوزه والمقصود بالحصر المبالغة أو يقال إنه صفة بدل محذوف أي ما منا أحد إلا أحد له مقام معلوم كما قاله ابن مالك في نظيره، وفيه أن فيه اعترافا بأن المقصود بالإفادة تلك الجملة وهو يستلزم أولوية كونها خبرا وما ذكر من احتمال كونه صفة لبدل محذوف فليس بشيء لأن فيه حذف المبدل والمبدل منه ولا نظير له، وبالجملة ما ذكره أبو حيان أسلم من القيل والقال، نعم قيل يجوز أن يقال: القصد هنا ليس إفادة مضمون الخبر بل الرد على الكفرة ولذا جعل الظرف خبرا وقدم فالمعنى ليس منا أحد يتجاوز مقام العبودية لغيرها بخلافكم أنتم فقد صدر منكم ما أخرجكم عن رتبة الطاعة، وفيه نظر.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أنفسنا أو أقدامنا في الصلاة، وقال ناصر الدين: أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة، وقيل:
الصافون حول العرش ننتظر الأمر الإلهي، وفي البحر داعين للمؤمنين، وقيل: صافون أجنحتنا في الهواء منتظرين ما يؤمر.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن مغيث قال: كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ
وأخرج مسلم عن حذيفة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء»
وأخرج هو أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم»
وهذه الأخبار ونحوها ترجح التفسير الأول. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به سبحانه ويدخل فيه ما نسبه إليه تعالى الكفرة، وقيل: أي القائلون سبحان الله.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أنه قال: المسبحون أي المصلون ويقتضيه ما روي عن ابن عباس أن كل تسبيح في القرآن بمعنى الصلاة، والظاهر ما تقدم، ولعل الأول إشارة إلى مزيد أدبهم الظاهر مع ربهم عز وجل والثاني إشارة إلى كمال عرفانهم به سبحانه، وقال ناصر الدين: لعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف، وما في أن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة وخواص البشر لا تخلو من الاشتغال بالمعاش، ولعل الكلام لا يخلو عن تعريض بالكفرة، والظاهر أن الآيات الثلاث أعني قوله تعالى وَما مِنَّا إلى هنا نزلت كما نزلت أخواتها.
وعن هبة الله المفسر أنها نزلت لا في الأرض ولا في السماء وعد معها آيتين من آخر سورة البقرة وآية من الزخرف وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: ٤٥] الآية قال ابن العربي: ولعله أراد في الفضاء بين السماء والأرض.
وقال الجلال السيوطي: لم أقف على مستند لما ذكره إلا آخر البقرة فيمكن أن يستدل له بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى الحديث وفيه فأعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله شيئا المقحمات انتهى فلا تغفل وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ إن هي المخففة واللام هي الفارقة والضمير لكفار قريش كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي كتابا من جنس الكتب التي نزلت عليهم ومثلها في كونه من عند الله تعالى: لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لأخلصنا العبادة له تعالى ولكنا أهدى منهم، والفاء في قوله تعالى: فَكَفَرُوا بِهِ فصيحة مثلها في قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: ٦٣] أي فجاءهم ذكر وأي ذكر سيد الأذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأخبار فكفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام، وقيل أريد بالذكر العلم أي لو أن عندنا علما من الذين تقدمونا وما فعل الله تعالى بهم بعد أن ماتوا هل أثابهم أم عذبهم لأخلصنا العبادة له تعالى فجاءهم ذلك في القرآن العظيم فكفروا به، ولا يخفى بعده. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ استئناف مقرر للوعيد وتصديره بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونه أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم بالنصرة والغلبة وهو قوله تعالى:
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فيكون تفسيرا أو بدلا من كَلِمَتُنا وجوز أن يكون مستأنفا والوعد ما في محل آخر من قوله تعالى لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] والأول أظهر، والمراد بالجند اتباع المرسلين وأضافهم إليه تعالى تشريفا لهم وتنويها بهم، وقال بعض الأجلة: هو تعميم بعد تخصيص وفيه من التأكيد ما فيه، والمراد عند السدي بالنصرة والغلبة ما كان بالحجة، وقال الحسن: المراد النصرة والغلبة في الحرب فإنه لم يقتل نبي من الأنبياء في الحرب وإنما قتل من قتل منهم غيلة أو على وجه آخر في غير الحرب وإن مات نبي قبل
النصرة أو قتل فقد أجرى الله تعالى أن ينصر قومه من بعده فيكون في نصرة قومه نصرة له، وقريب منه ما قيل إن القصرين باعتبار عاقبة الحال وملاحظة المآل، وقال ناصر الدين: هما باعتبار الغالب والمقضي بالذات لأن الخير هو مراده تعالى بالذات وغيره مقضي بالتبع لحكمة وغرض آخر أو للاستحقاق بما صدر من العباد، ولذا قيل بيده الخير ولم يذكر الشر مع أن الكل من عنده عز وجل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة، وظاهر السياق يقتضي أن ذلك في الدنيا وأنه بطريق القهر والاستيلاء والنيل من الأعداء إما بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن أوطانهم أو استئسارهم أو نحو ذلك، والجملتان دالتان على الثبات والاستمرار فلا بد من أن يقال: إن استمرار ذلك عرفي، وقيل: هو على ظاهره واستمرار الغلبة للجند مشروط بما تشعر به الإضافة فلا يغلب اتباع المرسلين في حرب إلا لإخلالهم بما تشعر به بميل ما إلى الدنيا أو ضعف التوكل عليه تعالى أو نحو ذلك، ويكفي في نصرة المرسلين إعلاء كلمتهم وتعجيز الخلق عن معارضتهم وحفظهم من القتل في الحروب ومن الفرار فيها ولو عظمت هنالك الكروب فافهم، ولا يخفى وجه التعبير بمنصورون مع المرسلين وبالغالبون مع الجند فلا تغفل، وسمى الله عز وجل وعده بذلك كلمة وهي كلمات لأنها لما اجتمعت وتضامت وارتبطت غاية الارتباط صارت في حكم شيء واحد فيكون ذلك من باب الاستعارة، والمشهور أن إطلاق الكلمة على الكلام مجاز مرسل من اطلاق الجزء على الكل، وقال بعض العلماء: إنه حقيقة لغوية واختصاص الكلمة بالمفرد اصطلاح لأهل العربية فعليه لا يحتاج إلى التأويل، وقرأ الضحاك «كلماتنا» بالجمع، ويجوز أن يراد عليها وعودنا فتفطن، وفي قراءة ابن مسعود «على عبادنا» على تضمين «سبقت» معنى حقت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عنهم واصبر حَتَّى حِينٍ إلى وقت انتهاء مدة الكف عن القتال، وعن السدي إلى يوم بدر ورجحه الطبري وقيل: إلى يوم الفتح وكان قبله مهادنة الحديبية، وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال: إلى يوم موتهم وحكاه الطبرسي عن ابن عباس أيضا، وقال ابن زيد: إلى يوم القيامة، وهو والذي قبله ظاهر أن في عدم اختصاص النصرة بما كان في الدنيا وَأَبْصِرْهُمْ وهم حينئذ على أسوأ حال وأفظع نكال قد حل بهم ما حل من الأسر والقتل أو أبصر بلاءهم على أن الكلام على حذف مضاف، والأمر بمشاهدة ذلك وهو غير واقع للدلالة على أنه لشدة قربه كأنه حاضر قدامه وبين يديه مشاهد خصوصا إذا قيل إن الأمر للحال أو الفور.
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما يكون لك من التأييد والنصر، وقيل: المعنى أبصر ما يكون عليهم يوم القيامة من العذاب فسوف يبصرون ما يكون لك من مزيد الثواب، وسوف للوعيد لا للتسويف والتبعيد الذي هو حقيقتها وقرب ما حل بهم مستلزم لقرب ما يكون له عليه الصلاة والسلام فهو قرينة على عدم ارادة التبعيد منه.
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ استفهام توبيخ أخرج جويبر عن ابن عباس قال قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجلنه لنا فنزلت، وروي أنه لما نزل فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا متى هذا؟ فنزلت فَإِذا نَزَلَ أي العذاب الموعود بِساحَتِهِمْ (١) وهي العرصة الواسعة عند الدور والمكان الواسع مطلقا وتجمع على سوح قال الشاعر:
فكان سيان أن لا يسرحوا نعما | أو يسرحوه بها واغبرت السوح |
وقرأ ابن مسعود «نزل» بالتخفيف والبناء للمجهول وهو لازم فالجار والمجرور نائب الفاعل، وقرىء نزل بالتشديد والبناء للمجهول أيضا وهو متعد فنائب الفاعل ضمير العذاب فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس صباح
المنذرين صباحهم على أن ساء بمعنى بئس وبها قرأ عبد الله والمخصوص بالذم محذوف واللام في المنذرين للجنس لا للعهد لاشتراطهم الشيوع فيما بعد فعلى الذم والمدح ليكون التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ولو كان ساء بمعنى قبح على أصله جاز اعتبار العهد من غير تقدير، والصباح مستعار لوقت نزول العذاب أي وقت كان من صباح الجيش المبيت للعدو وهو السائر إليه ليلا ليهجم عليه وهو في غفلته صباحا، وكثيرا ما يسمون الغارة صباحا لما أنها في الأعم الأغلب تقع فيه، وهو مجاز مرسل أطلق فيه الزمان وأريد ما وقع فيه كما يقال أيام العرب لوقائعهم.
وجوز حمل الصباح هنا على ذلك، وفي الكشاف مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة مغاويرهم إصباحا فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي يحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل انتهى، وظاهره أن الكلام على الاستعارة التمثيلية وفضلها على غيرها أشهر من أن يذكر وأجل من أن ينكر، وقيل: ضمير نزل للنبي صلّى الله عليه وسلم ويراد حينئذ نزوله يوم الفتح لا يوم بدر لأنه ليس بساحتهم الأعلى تأويل ولا بخيبر لقوله صلّى الله عليه وسلم حين صبحها الله أكبر خربت خيبر أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين لأن تلاوته عليه الصلاة والسلام تمت لاستشهاده بها والكلام هنا مع المشركين، ولا يخفى بعد رجوع الضمير إليه عليه الصلاة والسلام.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في اطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان ظاهرا بأن ما يبصره عليه الصلاة والسلام حينئذ من فنون المسار وما يبصرونه من فنون المضار لا يحيط به الوصف والبيان، وجوز أن يراد بما تقدم عذاب الدنيا وبهذا عذاب الآخرة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ تنزيه لله تعالى شأنه عن كل ما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه وجبروته مما حكي عنهم في السورة الكريمة وما لم يحك من الأمور التي من جملتها ترك إنجاز الموعود على موجب كلمته تعالى السابقة لا سيما في حق الرسول ﷺ كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن التربية والتكميل والمالكية الكلية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أولا وإلى العزة ثانيا كأنه قيل:
سبحان من هو مربيك ومكملك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به من الأشياء التي منها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب، ومعنى ملكه تعالى العزة على الإطلاق أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو عز وجل مالكها، وقال الزمخشري: أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه تعالى بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق، ثم ذكر جواز إرادة المعنى الذي ذكرناه، والفرق أن الإضافة على ما ذكرنا على أنه سبحانه المعز وعلى الآخر على أنه عز وجل العزيز بنفسه. ولكل وجه من المبالغة خلا عنه الآخر، وقوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تشريف للرسل كلهم بعد تنزيهه تعالى عما ذكر وتنويه بشأنهم وإيذان بأنهم سالمون عن كل المكاره فائزون بكل المآرب، وقوله سبحانه: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إشارة إلى وصفه تعالى بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه عز وجل بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الحميدة التي من جملتها إفاضته تعالى على المرسلين من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وإسباغه جل وعلا عليهم وعلى من تبعهم من صنوف النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده عليه السلام من النصرة والغلبة قد تحقق، والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه سبحانه وتحميده والتسليم على رسله عليهم السلام الذين هم وسائط بينه تعالى وبينهم في فيضان الكمالات مطلقا عليهم.
وهو ظاهر في عدم كراهة إفراد السلام عليهم، ولعل توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده تعالى مع ما فيه من الاشعار بأن توفيقه تعالى للتسليم من جملة نعمه تعالى الموجبة للحمد كذا في إرشاد العقل السليم. وقد يقال: تقديم التنزيه لأهميته ذاتا ومقاما، ولما كان التنزيه عما يصف المشركون وقد ذكر عز وجل إرشاد الرسل إياهم وتحذيرهم لهم من أن يصفوه سبحانه بما لا يليق به تعالى وضمن ذلك الإشارة إلى سوء حالهم وفظاعة منقلبهم أردف جلّ وعلا ذلك بالإشارة إلى حسن حال المرسلين الداعين إلى تنزيهه تعالى عما يصفه به المشركون، وفيه من الاهتمام بأمر التنزيه ما فيه، وأتى عز وجل بالحمد للإشارة إلى أنه سبحانه متصف بالصفات الثبوتية كما أنه سبحانه متصف بالصفات السلبية وهذا وإن استدعى إيقاع الحمد بعد التسبيح بلا فصل كما في قولهم سبحان الله والحمد لله وهو المذكور في الأخبار والمشهور في الأذكار إلا أن الفصل بينهما هنا بالسلام على المرسلين مما اقتضاه مقام ذكرهم فيما مر وجدد الالتفات إليهم تقديم التنزيه عما يصفه به من يرسلون إليه، ولعل من يدقق النظر يرى أن السلام هنا أهم من الحمد نظرا للمقام وإن كان هو أهم منه ذاتا والأهمية بالنظر للمقام أولى بالاعتبار عندهم ولذا تراهم يقدمون المفضول على الفاضل إذا اقتضى المقام الاعتناء به، ولعله من تتمة جملة التسبيح وبهذا ينحل ما يقال من أن حمده تعالى أجل من السلام على الرسل عليهم السلام فكان ينبغي تقديمه عليه على ما هو المنهج المعروف في الكتب والخطب، ولا يحتاج إلى ما قيل: إن المراد بالحمد هنا الشكر على النعم وهي الباعثة عليه ومن أجلها إرسال الرسل الذي هو وسيلة لخيري الدارين فقدم عليه لأن الباعث على الشيء يتقدم عليه في الوجود وإن كان هو متقدما على الباعث في الرتبة فتدبر.
وهذه الآية من الجوامع والكوامل ووقوعها في موقعها هذا ينادي بلسان ذلق أنه كلام من له الكبرياء ومنه العزة جل جلاله وعم نواله.
وقد أخرج الخطيب عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول بعد أن يسلم: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من قال دبر كل صلاة «سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم سبحان ربك رب العزة» إلى آخر السورة، وأخرجه البغوي من وجه آخر متصل عن علي كرم الله تعالى وجهه موقوفا
، وجاء في ختم المجلس بالتسبيح غير هذا ولعله أصح منه،
فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفرّ بهن عنه ولا يقولهن في مجلس خير وذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك»
لكن المشهور اليوم بين الناس أنهم يقرؤون عند ختم مجلس القراءة أو الذكر أو نحوهما الآية المذكورة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ومن باب الاشارة في الآيات ما قالوا وَالصَّافَّاتِ صَفًّا هي الأرواح الكاملة المكملة من الصف الأول وهو صف الأنبياء عليهم السلام والصف الثاني وهو صف الأصفياء فَالزَّاجِراتِ زَجْراً عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح والهمم القدسية فَالتَّالِياتِ ذِكْراً آيات الله تعالى وشرائعه عز وجل، وقيل الصافات جماعة الملائكة
المهيمين والزاجرات جماعة الملائكة الزاجرين للأجرام العلوية والأجسام السفلية بالتدبير والتاليات جماعة الملائكة التالية آيات الله تعالى وجلا يا قدسه على أنبيائه وأوليائه، وتنزل الملائكة على الأولياء مما قال به الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وقد نطق بأصل التنزل عليهم قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وقد يطلقون على بعض الأولياء أنبياء الأولياء.
قال الشعراوي في رسالة الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح: أنبياء الأولياء هم كل ولي أقامه الحق تعالى في تجل من مظهر تجلياته وأقام له محمد صلّى الله عليه وسلم ومظهر جبريل عليه السلام فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلّى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي فيرد إلى حسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد صلّى الله عليه وسلم وعلم صحته علم يقين بل عين يقين فمثل هذا يعمل بما شاء من الأحاديث لا التفات له إلى تصحيح غيره أو تضعيفه فقد يكون ما قال بعض المحدثين بأنه صحيح لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون ما قالوا فيه إنه ضعيف سمعه هذا الولي من الروح الأمين يلقيه على حقيقة محمد صلّى الله عليه وسلم كما سمع بعض الصحابة حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان فهؤلاء هم أنبياء الأولياء ولا ينفردون قط بشريعة ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف أن هذا هو شرع محمد عليه الصلاة والسلام أو يشاهدن المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلم في حضرة التمثل الخارج عن ذاتهم والداخل المعبر عنه بالمبشرات في حق النائم غير أن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم في حال اليقظة فهؤلاء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل على مرتبة تعبد هارون بشريعة موسى مع كونه نبيا وهم الذين يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها على أنفسهم وعلى هذه الأمة فهم أعلم الناس بالشرع غير أن غالب علماء الشريعة لا يسلمون لهم ذلك وهم لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم لأنهم ليسوا مشرعين فهم حفاظ الحال النبوي والعلم اللدني والسر الإلهي وغيرهم حفاظ الأحكام الظاهرة، وقد بسطنا الكلام على ذلك في الميزان اه. وقال بعيد هذا في رسالته المذكورة: اعلم أن بعض العلماء أنكروا نزول الملك على قلب غير النبي صلّى الله عليه وسلم لعدم ذوقه له، والحق أنه ينزل ولكن بشريعة نبيه صلّى الله عليه وسلم فالخلاف إنما ينبغي أن يكون فيما ينزل به الملك لا في نزول الملك وإذا نزل على غير نبي لا يظهر له حال الكلام أبدا إنما يسمع كلامه ولا يرى شخصه أن يرى شخصه من غير كلام فلا يجمع بين الكلام والرؤية إلا نبي والسلام اه. وقد تقدم لك طرف من الكلام في رؤية الملك فتذكر. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ أخبار بذلك ليعلموه ولا يتخذوا من دونه تعالى آلهة من الدنيا والهوى والشيطان، ومعنى كونه عز وجل واحدا تفرده في الذات والصفات والأفعال وعدم شركة أحد معه سبحانه في شيء من الأشياء، وطبقوا أكثر الآيات بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ فيه إشارة إلى أن للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام فإن خرج عن عهدة جوابه أذن له بالعبور وإلا بقي موقوفا رهينا بأحواله إلى أن يؤدي حقوقه، وكذا طبقوا ما جاء من قصص المرسلين بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه ولا يهبط عنه إلى ما دونه وهذا بخلاف نوع الإنسان فإن من أفراده من سار إلى مقام قاب قوسين بل طار إلى منزل أو أدنى وجر هناك مطارف فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
ومنها من هوى إلى أسفل سافلين وانحط إلى قعر سجين وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب
الفرائض وقد يهبط إلى درك البهيمية فما دونها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ نسأل الله تعالى أن يرقينا إلى مقام يرضاه ويرزقنا رضاه يوم لقاه وأن يجعلنا من جنده الغالبين وعباده المخلصين بحرمة سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
صفحة رقم 153