
السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ ذَبْحَهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ خُذِ الْحَبْلَ وَالْمُدْيَةَ وَانْطَلِقْ بِنَا إِلَى الشِّعْبِ نَحْتَطِبُ، فَلَمَّا تَوَسَّطَا شِعْبَ ثَبِيرٍ أَخْبَرَهُ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ اشْدُدْ رِبَاطِي فِيَّ كَيْلَا أَضْطَرِبَ، وَاكْفُفْ عَنِّي ثِيَابَكَ لَا يَنْتَضِحَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمِي فَتَرَاهُ أُمِّي فَتَحْزَنَ، وَاسْتَحِدَّ شَفْرَتَكَ وَأَسْرِعْ إِمْرَارَهَا عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ فَإِنَّ الْمَوْتَ شَدِيدٌ، وَاقْرَأْ عَلَى أُمِّي سَلَامِي وَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّ قَمِيصِي عَلَى أُمِّي فَافْعَلْ فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَسْهَلَ لَهَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
نِعْمَ الْعَوْنُ أَنْتَ يَا بُنَيَّ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُقَبِّلُهُ وَقَدْ رَبَطَهُ وَهُمَا يَبْكِيَانِ ثُمَّ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَقَالَ:
كُبَّنِي عَلَى وَجْهِي فَإِنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ وَجْهِيَ رَحِمْتَنِي وَأَدْرَكَتْكَ رِقَّةٌ وَقَدْ تَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَفَعَلَ ثُمَّ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى قَفَاهُ فَانْقَلَبَتِ السِّكِّينُ وَنُودِيَ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْكَبْشِ فَقِيلَ إِنَّهُ الْكَبْشُ الَّذِي تَقَرَّبَ بِهِ هَابِيلُ بْنُ آدَمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَبِلَهُ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ يَرْعَى حَتَّى فدعى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَ آخَرُونَ أَرْسَلَ اللَّهُ كَبْشًا مِنَ الْجَنَّةِ قَدْ رَعَى أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نُودِيَ إِبْرَاهِيمُ فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِكَبْشٍ أَمْلَحَ انْحَطَّ مِنَ الْجَبَلِ، فَقَامَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ فَأَخَذَهُ فَذَبَحَهُ، وَخَلَّى عَنِ ابْنِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَ ابْنَهُ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ الْيَوْمَ وُهِبْتَ لِي، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَظِيمٍ فَقِيلَ سُمِّيَ عَظِيمًا لِعِظَمِهِ وَسِمَنِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَقَّ لَهُ أَنْ يَكُونَ عَظِيمًا وَقَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَقِيلَ سُمِّيَ عَظِيمًا لِعِظَمِ قَدْرِهِ حَيْثُ قَبِلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِدَاءً عَنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فَقَوْلُهُ: نَبِيًّا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ بَشَّرْنَاهُ بِوُجُودِ إِسْحَاقَ مُقَدَّرَةٌ نُبُوَّتُهُ، وَلِمَنْ يَقُولُ إِنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَبِيًّا حَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ حَالَ كَوْنِ إِسْحَاقَ نَبِيًّا لِأَنَّ الْبِشَارَةَ بِهِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى صَيْرُورَتِهِ نَبِيًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ حَالَ مَا قَدَّرْنَاهُ نَبِيًّا، وَحَالَ مَا حَكَمْنَا عَلَيْهِ فَصَبَرَ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ كَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ بِشَارَةً بِوُجُودِ إِسْحَاقَ حَاصِلَةً بَعْدَ قِصَّةِ الذَّبِيحِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذَّبِيحُ غَيْرَ إِسْحَاقَ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي التِّلَاوَةِ عَنْ قِصَّةِ الذَّبِيحِ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا فِي الْوُقُوعِ وَالْوُجُودِ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ وَعَدَمُ التَّغْيِيرِ فِي النَّظْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْبَرَكَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ صُلْبِ إِسْحَاقَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبْقَى الثَّنَاءَ الْحَسَنَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْبَرَكَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ فَضَائِلِ الْأَبِ فَضِيلَةُ الِابْنِ، لِئَلَّا تَصِيرَ هَذِهِ الشُّبْهَةُ سَبَبًا لِمُفَاخَرَةِ الْيَهُودِ، وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: مُحْسِنٌ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَتَحْتَ قَوْلِهِ: ظالِمٌ الْكَافِرُ والفاسق والله أعلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٢٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
قصة موسى وهارون عليهما السلام

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوهَ الْإِنْعَامِ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً إِلَّا أَنَّهَا مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ إِيصَالُ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِ وَدَفْعُ المضار عنه والله تعالى ذكر القسمين هاهنا، فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ إِشَارَةٌ إِلَى إِيصَالِ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمَا، وَقَوْلُهُ: وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمَا.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِيصَالُ الْمَنَافِعِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَمَنَافِعُ الدِّينِ، أَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَالْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْعَقْلُ وَالتَّرْبِيَةُ وَالصِّحَّةُ وَتَحْصِيلُ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي ذَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدِّينِ فَالْعِلْمُ وَالطَّاعَةُ، وَأَعْلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ النُّبُوَّةُ الرَّفِيعَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ الْقَاهِرَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ التَّفَاصِيلَ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، لا جرم اكتفى هاهنا بِهَذَا الرَّمْزِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ إِنَّهُ الْغَرَقُ، أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَنَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى نَجَّاهُمْ من إيذاء فرعون حيث كان يذبح أبنائهم وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ منَّ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، فَصَّلَ أَقْسَامَ تِلْكَ الْمِنَّةِ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ:
وَنَصَرْناهُمْ أَيْ نَصَرْنَا مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا: فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ بِظُهُورِ الْحُجَّةِ وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالدَّوْلَةِ وَالرِّفْعَةِ وَثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّوْرَاةُ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ الْعُلُومِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، كَمَا قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَةِ: ٤٤]، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْ دَلَلْنَاهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ عَقَلًا وَسَمْعًا، وَأَمْدَدْنَاهُمَا بِالتَّوْفِيقِ والعصمة، وَتَشْبِيهُ الدَّلَائِلِ الْحَقَّةِ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَاضِحٌ وَرَابِعُهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ: سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَالذِّكْرُ الْجَمِيلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ مِنْ أَبْوَابِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْضِيلِ قَالَ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ، عَلَى أَنَّ الْفَضِيلَةَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ أَشْرَفُ وَأَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ الْفَضَائِلِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَسُنَ خَتْمُ فَضَائِلِ مُوسَى وهارون بكونهما من المؤمنين، والله أعلم.