آيات من القرآن الكريم

إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ
ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ

لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِرْسَالَ أَوِ الْإِنْزَالَ لِلْإِنْذَارِ، أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَيْهِ الْهِدَايَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلِاهْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْإِنْذَارُ وَقَدْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْمُنْذَرِينَ كَثِيرٌ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ القول هو قوله تعالى: حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي... لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص: ٨٥]، الثَّانِي: هُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ لَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ هَذَا يُؤْمِنُ وَأَنَّ هَذَا لَا يُؤْمِنُ فَقَالَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ إِنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وقال في حق غيره أنه يؤمن فحق الْقَوْلُ أَيْ وُجِدَ وَثَبَتَ بِحَيْثُ لَا يُبَدَّلُ بِغَيْرِهِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ وَبَانَ بُرْهَانُهُ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَتَوَقَّفُ لِاسْتِمَاعِ الدَّلِيلِ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ يُرْجَى مِنْهُ الْإِيمَانُ إِذَا بَانَ لَهُ الْبُرْهَانُ، فَإِذَا تحقق وأكد بالإيمان ولم يؤمن أكثرهم فأكثرهم تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِمُضِيِّ وَقْتِ رَجَاءِ الإيمان ولأنهم لما لم يؤمنوا عند ما حَقِّ الْقَوْلِ وَاسْتَمَرُّوا فَإِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ شَيْئًا أَوْضَحَ مِنَ الْبُرْهَانِ فَهُوَ الْعِيَانُ/ وَعِنْدَ الْعِيَانِ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانُ، وَقَوْلُهُ: عَلى أَكْثَرِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَالْبُرْهَانُ قَلِيلُونَ فَحَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ظَاهِرٌ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ مَاتُوا عَلَى الكفر ولم يؤمنوا وفيه وجه رابع وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَقَدْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ قريب من الأول. ثم قال تعالى:
[سورة يس (٣٦) : آية ٨]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّا جَعَلْنا وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّا جَعَلْنَاهُمْ مُمْسِكِينَ لَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] وَالثَّانِي:
أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَاحِبَيْهِ الْمَخْزُومِيَّيْنِ حَيْثُ حَلَفَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ يَرْضَخُ رَأْسَ مُحَمَّدٍ، فَرَآهُ سَاجِدًا فَأَخَذَ صَخْرَةً وَرَفَعَهَا لِيُرْسِلَهَا عَلَى رَأْسِهِ فَالْتَزَقَتْ بِيَدِهِ وَيَدُهُ بِعُنُقِهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى وَأَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ مَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ لِلْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُنَاسَبَةٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ؟ نَقُولُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَهُ مُنَاسَبَةٌ وَهِيَ أَنَّ قوله تعالى: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: ٧] يَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] أَيْ صَلَاتَكُمْ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَالزَّكَاةُ مُنَاسِبَةٌ لِلصَّلَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يُزَكُّونَ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَمُنَاسَبَةٌ خَفِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: ٧] وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبُرْهَانُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ عَايَنُوا وَأَبْصَرُوا مَا يَقْرُبُ مِنَ الضَّرُورَةِ حَيْثُ الْتَزَقَتْ يَدُهُ بِعُنُقِهِ وَمُنِعَ مِنْ إِرْسَالِ الْحَجَرِ وَهُوَ يُضْطَرُّ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَصْلًا وَالتَّفْسِيرُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَيْدِي وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مذكورة ولكنها معلومة لأن المغلول تكون أيديه مجموعة فِي الْغُلِّ إِلَى عُنُقِهِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَغْلَالِ، مَعْنَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ثِقَالًا غِلَاظًا بِحَيْثُ تَبْلُغُ إِلَى الْأَذْقَانِ فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمَغْلُولُ مَعَهَا مِنْ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ يُفْهَمُ مِنَ الْغُلِّ فِي الْعُنُقِ الْمَنْعُ مِنَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُجْعَلَ كِنَايَةً فَنَقُولُ الْمَغْلُولُ الذي بلغ

صفحة رقم 254
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية