
وَبَيَّنَّا بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» : أَنَّ نَصِيبَ النَّارِ مِنَ الْأَلْفِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَتِسْعُمِائَةٍ، وَأَنَّ نَصِيبَ الْجَنَّةِ مِنْهَا وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. الْأَغْلَالُ: جَمْعُ غُلٍّ وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ الْأَيْدِي إِلَى الْأَعْنَاقِ. وَالْأَذْقَانُ: جَمْعُ ذَقَنٍ وَهُوَ مُلْتَقَى اللَّحْيَيْنِ. وَالْمُقْمَحُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الرَّافِعُ رَأْسَهُ. وَالسَّدُّ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: هُوَ الْحَاجِزُ الَّذِي يَسُدُّ طَرِيقَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَرَاءَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَأَغْشَيْنَاهُمْ، أَيْ: جَعَلَنَا عَلَى أَبْصَارِهِمُ الْغِشَاوَةَ، وَهِيَ الْغِطَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْعَيْنِ يَمْنَعُهَا مِنَ الْإِبْصَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [٢ ٧]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [٤٥ ٢٣]، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ:
هَوَيْتُكِ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ | فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا |
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ جَلَّ وَعَلَا يَصْرِفُ الْأَشْقِيَاءَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ فِي عِلْمِهِ عَنِ الْحَقِّ وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [١٨ ٥٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [٢ ٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [٤٥ ٢٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [٦ ١٢٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [٧ ١٨٦]، صفحة رقم 288

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [٥ ٤١].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [١٦ ١٠٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [١١ ٢٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [١٨ ١٠١]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الطَّبْعَ وَالْخَتْمَ عَلَى الْقُلُوبِ، وَكَذَلِكَ الْأَغْلَالُ فِي الْأَعْنَاقِ، وَالسَّدُّ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمَنْ خَلْفِهِمْ، أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْمَوَانِعِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَوُصُولِ الْخَيْرِ إِلَى الْقُلُوبِ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَهَا عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مُسَارَعَتِهِمْ لِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالتَّمَادِي عَلَى الْكُفْرِ، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، بِطَمْسِ الْبَصَائِرِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالطَّبْعِ عَلَيْهَا، وَالْغِشَاوَةِ عَلَى الْأَبْصَارِ ; لِأَنَّ مِنْ شُؤْمِ السَّيِّئَاتِ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يُعَاقِبُ صَاحِبَهَا عَلَيْهَا بِتَمَادِيهِ عَلَى الشَّرِّ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَيْرِ جَزَاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ عَلَى كُفْرِهِ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ ١٥٥]، فَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ. وَفِي الْآيَةِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ هُوَ كُفْرُهُمْ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [٦٣ ٣]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، أَيْ: فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ذَلِكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [٦١ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [٦ ١١٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [٢ ١٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ شُؤْمَ السَّيِّئَاتِ يَجُرُّ صَاحِبَهُ إِلَى التَّمَادِي فِي السَّيِّئَاتِ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ، أَنَّ فِعْلَ الْخَيْرِ يُؤَدِّي إِلَى التَّمَادِي فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [٤٧ ١٧]، وَقَوْلُهُ