
ولا تشركوا بي أحدا ولا شيئا، كيف وقد أعطيتموني هذا الميثاق وشهدتم به على أنفسكم وأشهدت عليكم ملائكتي وقد نقضتموه وعبدتم غيري
«وَأَنِ اعْبُدُونِي» وحدي لا تشركوا بي شيئا «هذا» الذي عهدت به إليكم من وجوب طاعتي وعبادتي ومعصية الشيطان وترك الشرك هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ٦١ لو اتبعتموه لنجوتم الآن لأنه سوي بليغ بالاعتدال لا اعوجاج فيه فلو تمسكتم به لكفى في إلزام أنفسكم طاعتي قال الآلوسي رحمه الله:
تفسر بعض الناس عنك كناية | خوف الوشاة وأنت كل الناس |

فيمنعون من الكلام إذ لا فائدة لهم به. روى مسلم عن أنس بن مالك قال:
كنا عند رسول الله ﷺ فضحك، (أي تبسم لأنه كان لا يضحك وكلما نقل عنه أنه ضحك فالمراد به تبسم) فقال هل تدرون ممّ أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال في مخاطبة العبد ربه، فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال يقول بلى، قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي الا شاهدا منّي (أي لا أقبل شاهدا عليّ من الغير) قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا «والآية في الإسراء بلفظ حَسِيباً» مما يفهم أن الاستشهاد بغير الآية، قال فيختم على فيه ويقال لاركانه: انطقي، قال فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل (أدافع وأخاصم ومعنى هذا هلاكا) والمراد بالختم على الأفواه ليس عدم شهادتها بل منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسن نفسها، وكيفية شهادة الجوارح أن يجعل الله تعالى القادر على كل شيء فيها علما وإرادة وقدرة على التكلم، فتتكلم وتشهد وأصحابها مختوم على أفواههم راجع كيفية هذا الختم في الآية ٢٤ من سورة النور في ج ٣، ولا نص فيها عن الأفواء كما أنه لا نص في هذه الآية على الألسنة أي لا ختم على الأفواه هناك ولا على الشهادة بالألسنة هنا وعليه فيجوز أن يكون المحدث عنهم في السورتين واحدا قال تعالى «وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا» مسخنا «عَلى أَعْيُنِهِمْ» كما أغشينا قلوبهم الباطنة بأن نجعلها كأنها غير مشقوقة، وهذا أبلغ من أعميناها أو أغشيناها «فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ» بادروا طريقهم المألوف لهم ويجوز أن يكون الكلام من باب الحذف والإيصال بان حذف الجار وهو إلى واتصل الفعل بالمجرور وهو الأصل فاستبقوا إلى الصراط «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» ٦٦ طريقهم وهم عمي القلوب عمي الأعين معا «وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ» حجارة بأن قلبنا ماهيتهم أو صيّرناهم قردة وخنازير كما فعلنا بأصحاب السبت أشار إليهم في الآية ١٦٣ من سورة الأعراف المارة والآتي ذكرهم في الآية ٦٠ من سورة المائدة في ج ٣ قالوا ان مسخ الحيوان أو تحويله إلى

أحجار يسمى رسخا وإلى نبات يسمى فسخا وإلى حيوان يسمى نسخا أي لغيرناهم عن خلقهم وهم «عَلى مَكانَتِهِمْ» المكانة كالمكان مثل المقامة والمقام ويكون بمعنى المنزلة العالية في غير هذا المكان أي لو أردنا مسخهم لمسخناهم في منازلهم «فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا» عنها فلا يقدرون ان يبرحوها ويتخلصوا منها من ويل ما وقعوا فيه «وَلا يَرْجِعُونَ» ٦٧ إلى ما كانوا عليه قبل النسخ أي عجزوا على الحالتين معا. واعملوا أيها الناس ان طول الأعمار وقصرها بايدينا وفق ما هو في أزلنا «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ» منكم زيادة على غيره «نُنَكِّسْهُ» أي نقلّبه «فِي الْخَلْقِ» فلا يزال يتزايد ضعفه وتنقص بنيته وتضعف قواه، وقد يقل عقله عكس ما كان عليه لأنه في بدأ طفولته كان يتزايد في الكبر والقوة والعقل والعلم، لأنه يكون عند ولادته عاريا عن ذلك كله فإذا بلغ أشده استكمل قوته وعقله وعلمه، وأنكس قلب الشيء على رأسه، والمنكوس الولد الذي تخرج رجلاه قبل رأسه والنكس عود المرض بعد النّقه وكل ما كان مقلوبا فهو منكوس ولهذا قال ننكسه أي نرجعه على حالة الطفولة من جهة نقص القوى وضعف الجوارح والنكس الشيخ المدرهمّ الساقط العاجز من الكبر بعد الهرم، والناكس المطأطئ رأسه من أجل ذلك «أَفَلا يَعْقِلُونَ» ٦٨ هؤلاء بأن من قدّر تعريف أحوال الإنسان بالصورة المذكورة وهي مدونة ومشاهدة، ألا يقدر على إحياء من يميته ويبعثه حيّا مرة ثانية، أفلا يعتبرون ويقيسون ما كان على ما يكون، أفلا يتدبرون هذا نظرا وفكرا؟ ثم التفت إلى كفار قريش الذين اتهموا نبيه ﷺ بكونه شاعرا بعد أن قالوا ساحر وكاهن ومعلم، لأنه هو المقصود بإنزال هذا القرآن بل من خلق الله كله فقال مكذبا لهم «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ» والكلام المنزل عليه لا يضاهي الشعر لأنه غير موزون بأوزانه.
مطلب أوزان الشعر ومخالفة القرآن لها:
أن الشعر عبارة عن تخيلات مرغبة أو منفّرة، وهو معدن الكذب ومقر الهزل في كثير من الأحيان ولهذا قيل في مدحه (أعذبه أكذبه) وهو مبني على

ستة أصول (١) سبب خفيف وهو كل حرف متحرك وراءه ساكن مثل من وعن وقد (٢) سبب ثقيل وهو كل حرفين متحركين مثل لم بما من (٣) وتد مجموع وهو كل حرفين متحركين بعدهما ساكن مثل غزا ورمى وعلا (٤) وتد مفروق وهو كل حرفين متحركين بينهما ساكن مثل سار، قال، باع (٥) فاصلة صغرى وهي كل ثلاثة أحرف متحركات بعدها ساكن مثل ذهبا خرجا أكلا (٦) فاصلة كبرى وهي كل أربعة أحرف متحركات مثل خرجتا، ذهبتا، أكلتا وهو عبارة عن ستة عشر بحرا لكل منها وزن خاص لا يتعداه وله أصول يتقيد فيها كالخبن والجزء. وهو علم خاص له فروع في عروضه وضروبه وقوافيه، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في النثر، ومتى خرم في أصوله ووزنه بشيء لا يسمى شعرا.
وهذا القرآن العظيم كله حكم وعقائد وشرائع وأمثال وقصص وأمر ونهي منزه عن الهزل، وكله قول حق وصدق قال تعالى «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» الآيتان ١٣ و ١٤ من سورة الطارق المارة وإذا كان منزّها من الهزل فبراءته عن غيره أولى، وليس على أوزان الشعر وقوافيه وأصوله فأين الثرى من الثريا، وأين الثريا من يد المتناول، وإذا لم يكن هذا القرآن شعرا، وهو كذلك، فإن محمدا ﷺ ليس بشاعر، لأنه لا ينطق عن الله بغير ما يوحيه إليه، فما يقوله هؤلاء الكفرة وأضرابهم وتلوكه ألسنتهم من الشعر غرضهم منه وصمه ﷺ بالشعر مع أن ما جاء به ليس بشعر وحاشاه ثم حاشاه «وَما يَنْبَغِي لَهُ» ولا يليق به الشعر. ولا تعلمّه ولا نطق به، لأنه قد يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، وهذا ليس كذلك. والشعر أحسنه المبالغة في الوصف والمجازفة والإغراق في المدح والإفراط بتحسين ما ليس بحسن والتفريط في تقبيح ما ليس بقبيح، وهذا مما يستدعي الكذب أو يحاكيه وجلّ جناب الشارع عن ذلك روي عن عائشة رضي الله عنها وقد قيل لها هل كان النّبي شاعرا يتمثل بشيء من الشعر قالت كان يتمثل بشعر ابن رواحه ويقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود.........

أخرجه الترمذي، وفي رواية غيره قالت كان الشعر أبغض الحديث اليه ﷺ ولم يتكلم منه إلا ببيت أخي قيس طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار. فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس هكذا يا رسول الله، فقال إني لست بشاعر ولا ينبغي لي، وروى عن الحسن أنه ﷺ كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا. فقال أبو بكر يا نبي الله انما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا. أشهد أنك رسول، وتلا هذه الآية وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لان يمتليء جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتليء شعرا وما صح من حديث جندب بن عبد الله أنه قال بينما نحن مع رسول الله ﷺ إذا أصابه حجر فدميت إصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت
ومن حديث أنس رضي الله عنه ان النبي ﷺ قال:
لهمّ إن العيش عيش الآخرة... فأكرم الأنصار والمهاجرة
وما روى أنه قال:
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب
فهو من جملة كلامه الذي يرمي به من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق كذلك عفوا من غير قصد الشعرية وان كان موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس ومحاوراتهم ورسائلهم، كلام موزون مقفى يدخل في بحور الشعر وأوزانه اتفاقا، وقد جاء في القرآن العظيم ما هو بوزن شطر منه مثل قوله تعالى: «قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ» الآية ٢١ من سورة طه الآتية وقوله جل قوله: «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» الآية ٢٥ من سورة الأحقاف في ج ٢ وغيره كثير كما في الآية ١٤ من سورة النمل، والآية ٣٣ من سورة فاطر الآتيتين. فهل يسمى هذا شعرا؟ كلا، على أن الخليل قال المشطور من الرجز ليس بشعر، وهذا كله من

مشطور الرجز، وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحبّ إلى رسول الله ﷺ من كثير من الكلام مناف لما سمعت من الأحاديث والأخبار، ولعله قال ذلك بالتفضيل بين شعر وشعر كما قال حين أعجبه شعر أمية ابن الصلت (آمن شعره وكفر قلبه) وكما قال حين سمع قول النابغة:
بلغنا السماء بحدنا وسناؤنا | وانا لنرجو بعد ذلك مظهرا |
ولا خير في علم إذا لم يكن له | بوادر تحمي صفوه أن يكدرا |
ولا خير في جهل إذا لم يكن | حليم إذا ما أورد الأمر اصدرا |