
معلومة عند الله، فمن قدر له طول العمر لا ينقص عما قدر له، ومن قدر له قصره لا يزيد عما قدر له. وحيث تلقاه بعضهم للمعمر فقط فقال إن الأعمار تتبع الأسباب فتنقص وتزيد بحسبها وهي معلومة مقدرة عند الله. وحيث تلقاه بعضهم للمدة التي تمرّ من عمر الإنسان سنة بعد سنة أو شهرا بعد شهر أو يوما بعد يوم فقال إن الجملة تعني أن ما يمر من عمر الإنسان محصي عند الله تعالى.
والعبارة تتحمل هذه التأويلات جميعها. ومحصلها على كل حال تقرير علم الله وإحاطته بأعمار الناس أسوة بعلمه وإحاطته بكل شؤون كونه وخلقه.
ولقد رجح الطبري وابن كثير التأويل الأول. وقد يكون هذا هو الأوجه.
ولقد أورد ابن كثير حديثين نبويين لهما صلة بالجملة وفيهما تلقين وتوضيح. أحدهما رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه «سمعت رسول الله ﷺ يقول من سرّه أن يبسط الله له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه». وثانيهما أخرجه ابن أبي حاتم مرويّا عن أبي الدرداء قال «قال رسول الله ﷺ إنّ الله تعالى لا يؤخّر نفسا إذا جاء أجلها. وإنّما زيادة العمر بالذّرية الصّالحة يرزقها العبد فيدعون له بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره».
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٥ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)

(١) الغني: غير المحتاج إلى الغير.
(٢) الحميد: المحمود أو الحامد، وروح الآية يلهم أن المعنى الثاني هو المقصود.
(٣) تزر: تحمل.
(٤) وازرة: حاملة.
(٥) وزر: حمل. وجملة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى بمعنى لا يحمل إنسان مسؤولية وتبعة أعمال إنسان آخر. وكل يحمل مسؤولية عمله فقط.
(٦) وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذاقربى: وإذا طلب صاحب حمل أو ذنب من غيره ولو كان قريبا له أن يحمل شيئا من ذلك لا يحمل، ومثقلة بمعنى ثقيلة الحمل تنوء بحملها وحدها.
(٧) تزكى: الراجح المتبادر من روح الآية أنها هنا ليست من زكاة المال وإنما هي من تطهير النفس بالإيمان والتقوى والعمل الصالح. ومعظم المفسرين على ذلك.
(٨) الحرور: الجوّ المتوهج بالحرارة.
(٩) الزبر: الكتب أو الصحف.
(١٠) نكيري: هنا بمعنى إنكاري عليهم وشدة عقوبتي لهم.
الآيات استمرار في السياق، وفيها عود على بدء في توجيه الخطاب للناس كما فيها توكيد إنذاري وتبشيري للمؤمنين والكافرين وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
فقد هتفت بالناس بأن الله ليس في حاجة إليهم، وإنما هم الفقراء إليه وإنه لغني عن المنصرفين عنه حميد للمستجيبين إليه. وأنذرتهم بقدرة الله على إبادة الموجودين منهم والإتيان بغيرهم، وهو أمر يسير عليه لأنه الخالق المبدع القادر على كل شيء. وسلّت النبي ﷺ وثبت فيه المصير والسكينة. فليس عليه إلّا

الاهتمام للذين آمنوا بربهم وخافوه ولو لم يروه وأقاموا الصلاة ورغبوا في الخير والهدى، وإن الذي يفعل ذلك إنما يطهر نفسه ويفعل ما فيه خيره وسعادته، وقررت أن كل امرئ مؤاخذ عن عمله وليس لأحد أن يحمل ذنب أحد ولو وصلت بينهما روابط القربى. وأهابت بالناس أنه جدير بهم أن يفرقوا بين الأعمى والبصير والظلمات والنور، والظل والحرور، والأحياء والأموات وأن لا تكون هذه المتضادات في نظرهم سواء لأن ذلك غير ممكن، ولأن الذين يدركون استحالة ذلك ويفرقون بين الأضداد ويلتزمون ما هو الأفضل منها هم الذين يكونون قد اهتدوا بهدي الله واستجابوا إلى دعوته ولأن الذين لا يدركون ذلك هم في الحقيقة كالأموات في القبور. وعادت إلى تسلية النبي ﷺ وتثبيته حيث وجهت الخطاب إليه بأنه ليس عليه أن يسمع من في القبور، وما عليه إلّا أن ينذر الناس ويبين لهم الحق، وأن الله لم يرسله إلّا بشيرا ونذيرا كما كان الأمر في من سبقه من الرسل وأن الكفار إذا كانوا يقفون منه موقف المكذب فقد وقف من قبلهم مثل هذا الموقف حينما جاءتهم رسل الله بالبينات والكتب والآيات النافذة الواضحة.
ولقد أخذهم الله أخذا قويّا، وترك من آثار ذلك ما فيه العبرة لمن بعدهم ليروا كيف كان أخذ الله وعذابه للكافرين به المكذبين لرسله.
والسلسلة كسابقتها قوية رائعة نافذة في أسلوبها وروحها ومضمونها وخطابها للعقل والقلب، واستمدادها من مشاهدات الناس وواقع أمورهم وما استهدفته من أهداف وقررته من تقريرات، وفيها كتلك تلقينات قوية مستمرة المدى أيضا.
ولقد شبه الكفار بالأموات بسبب عدم استماعهم لكلمة الحق، وعدم رؤيتهم الحقيقة الساطعة وعدم الاستجابة إلى داعيهما وهو تشبيه قوي لاذع.
ولقد قصد بذكر التضاد بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والأموات والأحياء بيان الفرق الواضح بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والاستقامة والانحراف، وذوي النوايا الحسنة والقلوب السليمة والعقول الواعية الراغبة في الحق وبين ذوي النوايا الخبيثة والقلوب المريضة والعقول

السقيمة العنيدة المكابرة، وعدم إمكان وجواز التسوية بين كل ضدّ وضدّ. وفي هذا ما هو واضح من التلقين الجليل.
ولعلّ في الآية [١٨] إشارة إلى ما كان عليه التضامن القبلي والأسروي في المجتمع العربي من قوة، فالعربي كان يتحمل مسؤولية ما اقترف قريبه من جرائم ويشترك في غراماتها، والمتبادر أنه استهدف بذكرها تصوير هول القيامة واضطرار كل امرئ للانشغال بنفسه دون غيره، وعدم حمل أحد مسؤولية أحد مهما كانت الصلة التي تجمع بينهما، وهذا المعنى تكرر مرة بعد مرة لأنه مستمد من واقع حال السامعين. وقد سبق بأسلوب قوي في آيات سورتي عبس والفجر.
مغزى تكرر تسلية النبي ﷺ في آيات السورة
ويلحظ تكرر الآيات التي احتوت تسلية النبي ﷺ وتثبيته والتخفيف عنه وتنوع أساليبها في فصول هذه السورة، مما يمكن أن يدل على أنها نزلت في ظرف كان فيه النبي ﷺ شديد الحزن والحسرة مما يواجهه من مواقف العناد والتكذيب والصد والمكر، ومضامين فصول السورة- فضلا عن الآيات الخاصة في هذا الصدد- تؤيد ذلك أيضا. ولقد تكرر هذا كثيرا في أكثر السور المكية وشرحنا ما تبادر من أسبابه وحكمته في سياق سورة (ق).
تعليق على جملة وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ
مع أن الجملة قد قصد بها في مقامها تسلية النبي ﷺ وتثبيته على ما قلناه في الشرح. فإن هناك من أبعد في التأويل فقال إن كلمة (أمة) تشمل كل حيّ من بني آدم وسائر الحيوانات من دوابّ وطيور وزواحف وحشرات إلخ. وقد يكون القائل استأنس باية سورة الأنعام هذه وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
[٣٨] وتعليقا على ذلك نقول إنه لا يصح فيما نعتقد الاستئناس بآية سورة الأنعام هذه لأنها في صدد تقرير كون الدواب والطيور التي خلقها الله أنواعا مثل

بني آدم. وجملة إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ مما يدعم عدم صحة الاستئناس لأن في القرآن آيات لا تحصى متنوعة الصيغ تفيد أن التكليف محصور ببني آدم، فيكون نذر الله محصورين بهم تبعا لذلك. من ذلك ما احتوى تقرير الله قد شاءت كلمة أن يكون بنو آدم خلفاء الله في الأرض كما يستفاد من آيات سورة البقرة [٣٠ و ٣٨ و ٣٩] وقد انطوى في الآيات بتقرير كون بني آدم هم موضوع التكليف حصرا. ومن ذلك ما انطوى فيه كون الله أراد منذ البدء خلق بني آدم ليبلوهم أيهم أحسن عملا، كما جاء في آيات سورة هود [٧] والملك [٢] وغيرها. ومن ذلك ما انطوى فيه تقرير كون الله ينزل آياته للناس ليفكر بها ويتدبرها ويعقلها أولو الألباب. وكل هذا شأن بني آدم خاصة. والآيات في هذا كثيرة كثرة تغني عن التمثيل. وفي سورة الأحزاب آية قطعية الدلالة على أن الإنسان هو المكلف وحده وهي إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ.. [٧٢]. وفي سورة النحل هذه الآية وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [٣٦] التي تنطوي على شيء من المماثلة للجملة التي نحن في صددها قوية الصراحة في كون المقصودين من الجملة وكلمة (الأمة) هم بنو آدم. ومثل هذه الصراحة منطو في آيات سورة الإسراء [١٣- ١٥] ولكل من هذه الآيات أمثال عديدة أخرى.
وفي الجملة نقطة أخرى تتحمل تعليقا. وهي تقريرها أن الله تعالى قد بعث في كل أمة سابقة من أمم الأرض من بني آدم نذيرا. وهذا التقرير منطو في آية سورة النحل [٣٦] التي أوردناها آنفا مع زيادة كون دعوة رسل الله ونذره جميعا هي توحيد الله واجتناب الأوثان كمبدأ جوهري ورئيسي. والرسل الذين قصّ القرآن سيرتهم وأممهم بالأسماء قليلون جدا. وقد استدركت هذا المعنى آية سورة غافر هذه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [٧٨].