
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ ضَلَلْتُمْ فَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ عَنْكُمْ وِزْرَكُمْ وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ: أَكَابِرُكُمُ اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٢] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وازِرَةٌ أَيْ نَفْسٌ وَازِرَةٌ وَلَمْ يَقُلْ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى وَلَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ فَلَمْ يَقُلْ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وَازِرَةٌ وِزْرَةَ أُخْرَى لِفَائِدَةٍ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ وَازِرَةٍ مَهْمُومَةٍ بِهَمِّ وِزْرِهَا مُتَحَيِّرَةٍ فِي أَمْرِهَا وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى، قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَهَا أَنْ/ لَا تَزِرَ وِزْرًا أَصْلًا كَالْمَعْصُومِ لَا يَزِرُ وِزْرَ غَيْرِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَزِرُ وِزْرًا رَأْسًا فَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ بَيَّنَ أَنَّهَا تَزِرُ وِزْرَهَا وَلَا تَزِرُ وِزْرَ الْغَيْرِ وَأَمَّا تَرْكُ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ فَلِظُهُورِ الصِّفَةِ وَلُزُومِهَا لِلْمَوْصُوفِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْمِلُ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا مُبْتَدِئًا وَلَا بَعْدَ السُّؤَالِ، فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ قَدْ يَصْبِرُ وَتُقْضَى حَاجَتُهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الِافْتِقَارُ إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ يُحْوِجُهُ إِلَى السُّؤَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: مُثْقَلَةٌ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَيَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْمِلُ عَنْ أَحَدٍ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ قَادِرًا عَلَى حَمْلِهِ، كَمَا أَنَّ الْقَوِيَّ إِذَا أَخَذَ بِيَدِهِ رُمَّانَةً أَوْ سَفَرْجَلَةً لَا تُحْمَلُ عَنْهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحِمْلُ ثَقِيلًا قَدْ يُرْحَمُ الْحَامِلُ فَيُحْمَلُ عَنْهُ فَقَالَ: مُثْقَلَةٌ يَعْنِي لَيْسَ عَدَمُ الْوِزْرِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلرَّحْمَةِ بِالثِّقَلِ بَلْ لِكَوْنِ النَّفْسِ مُثْقَلَةً وَلَا يُحْمَلُ مِنْهَا شَيْءٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَادَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيِ الْمَدْعُوُّ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى لَا يَحْمِلُهُ وَفِي الْأَوَّلِ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَحْمِلُهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِهِ كَالْعَدُوِّ الَّذِي يَرَى عَدُوَّهُ تَحْتَ ثِقَلٍ، أَوِ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي يَرَى أَجْنَبِيًّا تَحْتَ حِمْلٍ لَا يَحْمِلُ عَنْهُ فَقَالَ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ يَحْصُلُ جَمِيعُ الْمَعَانِي الدَّاعِيَةِ إِلَى الْحَمْلِ مِنْ كَوْنِ النَّفْسِ وَازِرَةً قَوِيَّةً تَحْتَمِلُ وَكَوْنِ الْأُخْرَى مُثْقَلَةً لَا يُقَالُ كَوْنُهَا قَوِيَّةً قادرة ليس عليها حمل وكونه سَائِلَةً دَاعِيَةً فَإِنَّ السُّؤَالَ مَظِنَّةُ الرَّحْمَةِ، لَوْ كان المسؤول قَرِيبًا فَإِذَنْ لَا يَكُونُ التَّخَلُّفُ إِلَّا لِمَانِعٍ وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ نَفْسٍ تَحْتَ حِمْلٍ ثَقِيلٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِشَارَةً إِلَى أَنْ لَا إِرْشَادَ فَوْقَ مَا أَتَيْتُ بِهِ، وَلَمْ يُفِدْهُمْ، فَلَا تُنْذِرُ إِنْذَارًا مُفِيدًا إِلَّا الَّذِينَ تَمْتَلِئُ قُلُوبُهُمْ خَشْيَةً وَتَتَحَلَّى ظَوَاهِرُهُمْ بِالْعِبَادَةِ كَقَوْلِهِ:
الَّذِينَ آمَنُوا إشارة إلى عمل القلب وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِشَارَةً إِلَى عَمَلِ الظَّوَاهِرِ فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، ثم لما بين أن لا تزر وازرة وزر أخرى بَيَّنَ أَنَّ الْحَسَنَةَ تَنْفَعُ الْمُحْسِنِينَ.
فَقَالَ: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أَيْ فَتَزْكِيَتُهُ لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَيِ الْمُتَزَكِّي إِنْ لَمْ تَظْهَرْ فَائِدَتُهُ عَاجِلًا فَالْمَصِيرُ إِلَى اللَّهِ يَظْهَرُ عِنْدَهُ فِي يَوْمِ اللِّقَاءِ فِي دَارِ الْبَقَاءِ، وَالْوَازِرُ إِنْ لَمْ تَظْهَرْ تَبِعَةُ وِزْرِهِ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ تَظْهَرُ فِي الآخرة إذ المصير إلى الله.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.
لَمَّا بَيَّنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ وَلَمْ يَهْتَدِ الْكَافِرُ، وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِالْبَصِيرِ وَالْأَعْمَى، فَالْمُؤْمِنُ بَصِيرٌ حَيْثُ أَبْصَرَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَالْكَافِرُ أَعْمَى، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ما الفائدة في تكثير الأمثلة هاهنا حَيْثُ ذَكَرَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ، وَالظُّلْمَةَ وَالنُّورَ، وَالظِّلَّ وَالْحَرُورَ، وَالْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ؟ فَنَقُولُ الْأَوَّلُ مِثْلُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَالْمُؤْمِنُ بَصِيرٌ وَالْكَافِرُ أَعْمَى، ثُمَّ إِنَّ الْبَصِيرَ وَإِنْ كَانَ حَدِيدَ الْبَصَرِ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ضَوْءٍ فَذَكَرَ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مَثَلًا، وَقَالَ الْإِيمَانُ نُورٌ وَالْمُؤْمِنُ بَصِيرٌ وَالْبَصِيرُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ النُّورُ، وَالْكُفْرُ ظُلْمَةٌ وَالْكَافِرُ أَعْمَى فَلَهُ صَادٌّ فَوْقَ صَادٍّ، ثُمَّ ذَكَرَ لِمَآلِهِمَا وَمَرْجِعِهِمَا مَثَلًا وَهُوَ الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، فَالْمُؤْمِنُ بِإِيمَانِهِ فِي ظِلٍّ وَرَاحَةٍ وَالْكَافِرُ بِكُفْرِهِ فِي حَرٍّ وَتَعَبٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ مَثَلًا آخَرَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى حَالُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَوْقَ حَالِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، فَإِنَّ الْأَعْمَى يُشَارِكُ الْبَصِيرَ فِي إِدْرَاكٍ مَا. وَالْكَافِرَ غَيْرُ مُدْرِكٍ إِدْرَاكًا نَافِعًا فَهُوَ كَالْمَيِّتِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ الْفِعْلَ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَعَطَفَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وَالظِّلَّ وَالْحَرُورَ، ثُمَّ أَعَادَ الْفِعْلَ، وَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ كَأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا مُقَابِلًا لِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَرَّرَ كَلِمَةَ النَّفْيِ بَيْنَ الظُّلُمَاتِ والنور والظل والحرور والأحياء الأموات، وَلَمْ يُكَرِّرْ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْرِيرَ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُنَافَاةَ بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ وَالظِّلِّ وَالْحَرُورِ مُضَادَّةٌ، فَالظُّلْمَةُ تُنَافِي النُّورَ وَتُضَادُّهُ وَالْعَمَى وَالْبَصَرُ كَذَلِكَ، أَمَّا الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ بَصِيرًا وَهُوَ بِعَيْنِهِ يَصِيرُ أَعْمَى، فَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفِ، وَالظِّلُّ وَالْحَرُورُ والمنافاة بَيْنَهُمَا ذَاتِيَّةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظِّلِّ عَدَمُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُنَافَاةُ هُنَاكَ أَتَمَّ، أَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ، وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَإِنْ كَانُوا كَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ حَيًّا مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ فَيَصِيرُ مَيِّتًا مَحَلًّا لِلْمَوْتِ وَلَكِنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ أَتَمُّ مِنَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ يَشْتَرِكَانِ فِي إِدْرَاكِ أَشْيَاءَ، وَلَا كَذَلِكَ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ، كَيْفَ وَالْمَيِّتُ يُخَالِفُ الْحَيَّ فِي الْحَقِيقَةِ لَا فِي الْوَصْفِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدَّمَ الْأَشْرَفَ فِي مَثَلَيْنِ وَهُوَ الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، وَأَخَّرَهُ فِي مَثَلَيْنِ وَهُوَ الْبَصَرُ وَالنُّورُ، وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّهُ لِتَوَاخِي أَوَاخِرِ الْآيِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَوَاخِيَ الْأَوَاخِرِ رَاجِعٌ إِلَى السَّجْعِ، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمَعْنَى لَا فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، فَالشَّاعِرُ يُقَدِّمُ وَيُؤَخِّرُ لِلسَّجْعِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ حَامِلًا لَهُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ صَحِيحٌ واللفظ فصحيح فَلَا يُقَدِّمُ وَلَا يُؤَخِّرُ اللَّفْظَ بِلَا مَعْنًى، فَنَقُولُ الْكُفَّارُ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانُوا فِي ضَلَالَةٍ فَكَانُوا كَالْعُمْيِ وَطَرِيقُهُمْ كالظلة ثُمَّ لَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ الْحَقَّ، وَاهْتَدَى بِهِ