
لذلك فإن نتيجة البحث فيها عقيمة، وعاقبتها وبال إذ قد تؤدي إلى اختلال العقل أو الانتحار لأن لكل علم أصولا تحده ولا حد لعلوم الله، وإذا تدبرت في قوله تعالى (عِنْدَهُ) وكلمتي (وَما تَدْرِي) (وَما تَدْرِي) علمت أنهما تشيران إلى أن هذه الثلاثة لا يحوم حول حماها البشر وإن الاثنين الآخرين وهما نزول الغيث وما في الأرحام قد يتطرق إليهما لأن العلم فيهما لا ينافي علم الله ولكن لا يقف على ما فيهما على الحقيقة فلا يبلغون مداهما مهما توغلوا فيهما كما هو في علم الله، وإذا تأملت قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ» الإله العظيم المبدع هو وحده لا غير «عَلِيمٌ» في هذه الأشياء
الخمسة وغيرها «خَبِيرٌ ٣٤» بتفصيلاتها وأزمان حدوثها وقد علمت أنها من خصائصه لا دخل لخلقه فيها فسلم تسلم واعتقد ترشد. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك، وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء الحارث بن عمرو بن حارثة ابن حفصة من أهل البادية فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فما تلد ولقد علمت بأي أرض ولدت فأخبرني بأي أرض أموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية. ويوجد في القرآن سورتان مختومتان بلفظ (خَبِيرٌ) هذه والعاديات فقط، هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة سبأ عدد ٨- ٥٨- ٣٤
نزلت بمكة بعد لقمان إلا الآية ٦ فإنها نزلت بالمدينة وهي أربع وخمسون آية، وثمنمئة وثلاثون كلمة، وألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء ويختار «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» كما لذاته المقدسة في الدنيا إلا أن الحمد في الدنيا يكون سنة دائما ويكون واجبا بمقابلة النعمة وليس هو في الآخرة كذلك صفحة رقم 494
لأنها ليست بدار تكليف وإنما يكون الحمد فيها سرورا بالنعم وتلذذا بما يناله أهلها من الشهوات قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية ٧٥ من سورة الزمر الآتية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية ٣٤ من سورة فاطر في ج ١، وفيه الآيتان من سورة النمل (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ) ١٥ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) ٦٠ فهو الحقيق بالحمد الجدير بالشكر الخليق بالمدح دنيا وأخرى «وَهُوَ الْحَكِيمُ» بتدبيرهما وما فيهما كما أحكم أمرهما وأمر من فيهما «الْخَبِيرُ ١» بما كان وسيكون فيهما «يَعْلَمُ ما يَلِجُ» مقدار ما يدخل ويتغلغل ويكون «فِي الْأَرْضِ» من المطر والنبات والمعادن والكنوز والبذور والأموات وغيرها «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات والعيون وأنواع المعادن والكنوز وغيرها لأن منها ما هو داخل ومنها ما هو خارج «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من أمطار وثلوج وصواعق وبركات وغيرها «وَما يَعْرُجُ فِيها» من أقوال وأعمال وملائكة وطيور ومن اختصه من خواص خلقه كإدريس والياس واليسع وعيسى ومحمد عليهم السلام وأرواح الأنبياء والشهداء والصالحين راجع الآية ٥٧ من سورة مريم وأول سورة الإسراء في ج ١ والآية ١٣٢ من الصافات المارة والآية ٥٦ من المائدة الآتية في ج ٣ «وَهُوَ الرَّحِيمُ» بإنزال ما يحتاجه خلقه وادخاره لمنافعهم «الْغَفُورُ ٢» لما يقع منهم من السوء والمعاصي لسعة حلمه وعظيم عفوه وكبير عطفه «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» مع هذا كله «لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» فأقسم جل قسمه وأكده باللام والنون ثم خصه بما يدل على زيادة التأكيد بقوله لحبيبه «قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» الساعة المقدر إتيانها في علمه وقد وصف حضرته المقدسة بقوله «عالِمِ الْغَيْبِ» الذي من جملته الساعة وذلك لأنهم أنكروا البعث واستبعدوا وعد الله فيه واستبطأوا تنفيذ تهديده ولذلك جاء الجواب بهذا القسم العظيم وأكد علمه للغيب كله بقوله جل قوله «لا يَعْزُبُ» يغيب ولا يبعد «عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ» المثقال «وَلا أَكْبَرُ» منه «إِلَّا» وهو مدون «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» لكل شيء الذرة فما فوقها من نام وجامد وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ عنده
صفحة رقم 495
الجامع المانع وهو وما فيه في علم الله تعالى، كلا شيء راجع الآية ٦١ من سورة يونس المارة ثم بين سبب إتيان الساعة بقوله عز قوله «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في الدنيا جزاء حسنا في الآخرة «أُولئِكَ» المؤمنون ذوو الأعمال الصالحة «لَهُمْ» فيها عند ربهم «مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم وستر لعيوبهم «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ٤» في جنات النعيم «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا» قصد إبطالها وتكذيبها ويحسبون كونهم «معجزين» لنا، كلا، لا يظن هؤلاء المفسدون أنهم يفوتوننا ولا ينالهم عقابنا لأنهم في قبضتنا ولا ملجأ لهم غيرنا وقرىء مُعاجِزِينَ ويعزب بكسر الزاي والضم أفصح «أُولئِكَ» الساعون بذلك لا ينجون منا وإن مرجعهم إلينا «ولَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ» هو أشد كل عذاب وأسوأه ويطلق على الموت ولذلك وصفه بقوله «أَلِيمٌ ٥» لا تقواه قواهم وهذه الآية المدنية المستثناة من هذه السورة.
مطلب أصول الدين التي لا يتطرق إليها النسخ والآية المدنية وما وقع من هشام وزين العابدين:
قال تعالى «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من مؤمني أهل الكتاب وأصحاب حضرة الرسول ويدخل في هذه الآية علماء هذه الأمة وخواصها الموجودون حين نزولها ومن بعدهم إلى يوم القيامة أي يعتقدون بأن «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» الذي لا مرية فيه كما يروا كتبهم حقا لأنها منزلة من لدنا «وَ» يرون أيضا أنه «يَهْدِي» يدل ويرشد «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ» الغالب لكل شيء «الْحَمِيدِ ٦» لعمل عباده المحمود منهم كما أن كتبهم أيضا تدل على طريق الله وتحت الناس على سلوكه لأن الكل منه ولأن مبلّغيها أنبياؤه ورسله، فجميع الكتب السماوية لا تختلف قيد شعرة في أصول الدين الحق التي هي التوحيد والنبوة والمعاد، لأن من أنكر أحدها فليس من أهل الكتاب، وأما الفروع ففيها اختلاف لأنها معرضة للتبديل والتغيير بحسب المصلحة والزمن والمكان لأن النسخ الوارد لا يتطرق إلا للفروع ويحول حول تلك الأصول البتة، وكونه في العبادات من صفاتها، وفي المأكولات من أصنافها وأجناسها، وفي ضروب الملبوسات وأنواعها

والحلي والزينة وتعلقاتها، وأنواع المعاملات وتفرعاتها فقط، وإنما أدخلنا أصحاب الرسول وخواص هذه الأمة في هذه الآية مع أنها في أهل الكتاب نزلت لأن لفظ أوتوا العلم يشملهم وهم متصفون بما احتوت عليه، وفّق الله هذه الأمة للتمسك بها وإرشاد الزائغين عنها وأدام النفع بعلمائها وصلحائها إلى يوم القيامة وهم ملح الأرض لا خلا الكون منهم. انتهت الآية المدنية وهي كغيرها معترضة بالنسبة لما قبلها وبعدها وهذا من كمال بلاغة كتاب الله وفصاحته «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بعضهم لبعض في تقرير إنكار البعث فيما بينهم عطف على الآية الثالثة فما بعدها «هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ» يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم عبروا عنه بلفظ النكرة تجاهلا وهو عندهم العلم المفرد قال الأبوصيري:
خفضت كل مقام بالإضافة إذ | نوديت بالرفع مثل المفرد العلم |
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله | بجده أنبياء الله قد ختموا |
وليس قولك من هذا بضائره | العرب تعرف من أنكرت والعجم |

ما ترون «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فيما يقوله هذا الرجل «أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» وصار بحيث لا يعي ما يقول ولا يدرك مغزى كلامه مما يلقى على لسانه من الوهم والخيال فيظنه حقيقة، فرد الله عليهم بقوله «بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» أمثالكم الذين يستعظمون على الخالق الأول إعادة ما خلقه بعد أن أماته، هم المختلة عقولهم الكذبة في هذه الدنيا الذين سيكونون غدا بالآخرة التي يجحدونها «فِي الْعَذابِ» الشديد «وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ٨» عن الحق الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون رسل الله الذين جاؤهم به «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» المحيطة بهم وهما في قبضتي «إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفناها بقارون وصاحبيه «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً» قطعا «مِنَ السَّماءِ» كما اسقطنا على أصحاب الأيكة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخسف والإسقاط وما في السماء والأرض من آيات وعبر «لَآيَةً» عظيمة وعظة مؤثرة «لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ٩» خاشع خاضع لإلهيّتنا كافية بأن يستدل بها على قدرتنا الكاملة وعظمتنا الجليلة.
مطلب مميزات داود وسليمان ومعجزات القرآن وكيفية موت سليمان عليهم السلام:
قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» الملك والكتاب مع النبوة والرسالة ولم تجمع لنبي قبله، وزدناه على ذلك حسن الصوت حين يتلو الزبور الذي أنزلناه عليه، ولقد خصصناه بفضل آخر على إخوانه المرسلين بأن «قلنا يا جِبالُ أَوِّبِي» سبّحي الله واذكريه «مَعَهُ وَالطَّيْرَ» سخرناها له أيضا وأمرناها بأن تسبح معه فكان عليه السلام إذا سبح ربه سبحت معه الجبال والطيور والخلائق بدوي يبهر العقول والأسماع فيالها من نعمة عظيمة «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ١٠» خاصة له أيضا ليعمل منه لبوسا للحرب ولم يلنه لأحد قبله، ومع هذه النعم العظام كان عليه السلام يتنكر ويمشي في قومه ويسألهم عن نفسه ليعرف عيوبه ولا عيب فيه وإنما يفعل ذلك تعليما لأمته، فقيض الله له ملكا في صورة بشر فقال له عند ما سأله نعم العبد لولا خصلة واحدة قال وما هي قال إنه يأكل من بيت المال هو وعياله، فتنبه وسأل ربه أن يغنيه عنه، فعلمه صنعة الدروع التي تقي لا بسيها تأثير