آيات من القرآن الكريم

فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ

جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ مُوَالِينَ لِلَّهِ فَقَدْ كَذَّبُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا لَهُمُ الْإِلَهِيَّةَ، لِأَنَّ الْعَابِدَ لَا يكون معبودا. وَقد تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ (وَلِيٍّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤] وَفِي آخِرِ سُورَةِ الرَّعْدِ.
ومِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَ (دُونَ) اسْمٌ لِمَعْنَى غَيْرٍ، أَيْ أَنْتَ وَلِيُّنَا وَهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ لَنَا وَلَا نَرْضَى بِهِمْ لِكُفْرِهِمْ فَ مِنْ دُونِهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنَ الْحَصْرِ لِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ.
وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ انْتِقَالًا مِنَ التَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الَّذِينَ سَوَّلُوا لَهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَالْمَعْنَى: بَلْ كَانَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَكَانَ الْجِنُّ رَاضِينَ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّا مُنْكِرُونَ عِبَادَتَهُمْ إِيَّانَا وَلَمْ نَأْمُرْهُمْ بِهَا وَلَكِنَّ الْجِنَّ سَوَّلَتْ لَهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ فَعَبَدُوا الْجِنَّ وَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ.
وَجُمْلَةُ أَكْثَرُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ وَضَمِيرُ بِهِمْ لِلْجِنِّ، وَالْمَقَامُ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ وَلَوْ تَمَاثَلَتِ الضَّمَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ:

عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا
أَيْ أَحْرَزَ جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ مَا جَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَغَانِمَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَحْشُرُهُمْ ونقول بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِيَاءِ الْغَائِبِ فِيهِمَا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى رَبِّي مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ: ٣٩].
[٤٢]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٤٢]
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا.
الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ وَالْجِنَّ. وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الْمُقَاوَلَةِ السَّابِقَةِ. وَهِيَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ:
التَّعْرِيضُ بِضَلَالِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْلَمُونَ مَضْمُونَ هَذَا الْخَبَرِ فَلَا نَقْصِدُ إِفَادَتَهُمْ بِهِ. وَالْمَعْنَى: إِذْ علمْتُم أَنكُمْ عَبدْتُمْ الْجِنَّ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.

صفحة رقم 223

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِظْهَارًا لِلْغَضَبِ عَلَيْهِمْ تَحْقِيقًا لِلتَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ، وَالْفَاءُ أَيْضًا فَصِيحَةٌ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ.
وَقُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ لِأَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ يَوْمَئِذٍ قَدِ اخْتَصَّ صَغِيرُهُمَا وَكَبِيرُهُمَا بِاللَّهِ تَعَالَى خِلَافَ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ نَفْعِ الْجِنِّ عُبَّادَهُمْ بِبَعْضِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَنَفَعِ الْمُشْرِكِينَ الْجِنَّ بِخِدْمَةِ وَسَاوِسِهِمْ وَتَنْفِيذِ أَغْرَاضِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ، وَكَذَلِكَ الضُّرُّ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا.
وَالْمِلْكُ هُنَا بِمَعْنَى: الْقُدْرَةِ، أَيْ لَا يَقْدِرُ بَعْضُكُمْ عَلَى نَصْرٍ أَو نفع بعض. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٧].
وَقَدَّمَ النَّفْعَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ تَأْيِيسًا لَهُم لأَنهم كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُمْ يَوْمَئِذٍ ويَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨].
وَعَطَفَ نَفْيَ الضُّرِّ عَلَى نَفْعِ النَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَلْبِ مَقْدِرَتِهِمْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْكَائِنَاتِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضُرَّ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَ كَالْعَقْرَبِ.
وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ نقُول لِلْمَلائِكَةِ [سبأ: ٤٠]. وَقَدْ وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْحِوَارِ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ إِظْهَارًا لِاسْتِحْقَاقِهِمْ هَذَا الحكم الشَّديد، ولكونه كالمعلول لِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا.
وَالذَّوْقُ: مَجَازٌ لِمُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ، وَاخْتِيَارُهُ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِشُهْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ.
وَوَصْفُ النَّارِ بِالَّتِي كَانُوا يكذبُون بهَا لما فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنْ إِيذَانٍ بِغَلَطِهِمْ
وَتَنْدِيمِهِمْ.
وَقَدْ عُلِّقَ التَّكْذِيبُ هُنَا بِنَفْسِ النَّارِ فَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُنَاسِبِ لَهَا وَلَمْ

صفحة رقم 224
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية