ولا يخفى بعده، وأيا ما كان فليس هذا من باب التقية في شيء كما يزعمه بعض الجهلة، والظاهر أن لَعَلى هُدىً إلخ خبر إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ من غير تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لمتصف بأحد الأمرين كقولك زيد أو عمرو في السوق أو في البيت، وقيل: هو خبر إِنَّا وخبر إِيَّاكُمْ محذوف تقديره لعلى هدى أو في ضلال مبين وقيل هو خبر إِيَّاكُمْ وخبر إِنَّا محذوف لدلالة ما ذكر عليه، وإِيَّاكُمْ على تقديران ولكنها لما حذفت انفصل الضمير.
وفي البحر لا حاجة إلى تقدير الحذف في مثل هذا وإنما يحتاج إليه في نحو زيد أو عمرو قائم فتدبر، والمتبادر أن مُبِينٍ صفة ضَلالٍ ويجوز أن يكون وصفا له ولهدى والوصف وكذا الضمير يلزم إفراده بعد المعطوف بأو، وأدخل على على الهدى للدلالة على استعلاء صاحبه وتمكنه واطلاعه على ما يريد كالواقف على مكان عال أو الراكب على جواد يركضه حيث شاء، وفِي على الضلال للدلالة على انغماس صاحبه في ظلام حتى كأنه في مهواة مظلمة لا يدري أين يتوجه ففي الكلام استعارة مكنية أو تبعية. وفي قراءة أبي إنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين.
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا أبلغ في الإنصاف حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو عنها مؤمن بما يعبر به عن العظائم وأسند إلى النفس وعن العظائم من الكفر ونحوه بما يعبر به عن الهفوات وأسند للمخطابين وزيادة على ذلك أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقق وعن العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك، وذكر أن في الآية تعريضا وأنه لا يضر بما ذكر، وزعم بعضهم أنها من باب المتاركة وأنها منسوخة بآية السيف.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة عند الحشر والحساب ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يقضي سبحانه بيننا ويفصل بعد ظهور حال كل منا ومنكم بالعدل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار وَهُوَ الْفَتَّاحُ القاضي في القضايا المنغلقة فكيف بالواضحة كإبطال الشرك وإحقاق التوحيد أو القاضي في كل قضية خفية كانت أو واضحة، والمبالغة على الأول في الكيف وعلى الثاني في الكم، ولعل الوجه الأول أولى، وفيه إشارة إلى وجه تسمية فصل الخصومات فتحا وأنه في الأصل لتشبيه ما حكم فيه بأمر منغلق كما يشبه بأمر منعقد في قولهم: حلال المشكلات، وقرأ عيسى «الفاتح» الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يقضي به أو بكل شيء.
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم، وأرى على ما استظهره أبو حيان بمعنى أعلم فتتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ياء المتكلم والموصول وشُرَكاءَ وعائد الموصول محذوف أي ألحقتموهم، والمراد أعلموني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة، وجوز كون رأي بصرية تعدت بالنقل
لاثنين ياء المتكلم والموصول وشُرَكاءَ حال من ضمير الموصول المحذوف أي ألحقتموهم متوهما شركتهم أو مفعول ثان لألحق لتضمينه معنى الجعل أو التسمية، والمراد أرونيهم لأنظر بأي صفة ألحقتموهم بالله عزّ وجلّ الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العبادة أو ألحقتموهم به سبحانه جاعليهم أو مسميهم شركاء، والغرض إظهار خطئهم العظيم.
وقال بعض الأجلة: لم يرد من أَرُونِيَ حقيقته لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يراهم ويعلمهم فهو مجاز وتمثيل، والمعنى ما زعمتموه شريكا إذا برز للعيون وهو خشب وحجر تمت فضيحتكم، وهذا كما تقول للرجل الخسيس الأصل اذكر لي أباك الذي قايست به فلانا الشريف ولا تريد حقيقة الذكر وإنما تريد تبكيته وأنه إن ذكر أباه افتضح.
كَلَّا ردع لهم عن زعم الشركة بعد ما كسره بالإبطال كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسّلام: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء: ٦٧] بعد ما حج قومه بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ أي الموصوف بالغلبة القاهرة المستدعية لوجوب الوجود الْحَكِيمُ الموصوف بالحكمة الباهرة المستدعية للعلم المحيط بالأشياء، وهؤلاء الملحقون عن الاتصاف بذلك في معزل وعن الحوم حول ما يقتضيه بألف ألف منزل، والضمير أما عائد لما في الذهن وما بعده وهو الله الواقع خبرا له يفسره والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للاسم الجليل أو عائد لربنا في قوله سبحانه:
«يفتح بيننا ربنا» على ما قيل أو هو ضمير الشأن واللَّهُ مبتدأ والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خبره والجملة خبر ضمير الشأن لأن خبره لا يكون إلا جملة على الصحيح وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ المتبادر أن كَافَّةً حال من الناس قدم مع إلا عليه للاهتمام كما قال ابن عطية، وأصله من الكف بمعنى المنع وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج واشتهر في ذلك حتى قطع النظر فيه عن معنى المنع بالكلية فمعنى جاء الناس كافة جاؤوا جميعا، ويشير إلى هذا الإعراب ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية: أي إلى الناس جميعا، وما أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال: أي للناس كافة، وكذا ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: أرسل الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله تعالى أطوعهم له، وما نقل عن ابن عباس أنه قال: أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وهو مبني على جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو الذي ذهب إليه خلافا لكثير من النحاة أبو علي وابن كيسان وابن برهان والرضي وابن مالك حيث قال:
وسبق حال ما بحرف جر قد | أبوا ولا أمنعه فقد ورد |
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا | فمطلبها كهلا عليه شديد |
تسليت طرا عنكم بعد بينكم | بذكراكم حتى كأنكم عندي |
مشغوفة بك قد شغفت وإنما | حتم الفراق فما إليك سبيل |
غافلا تعرض المنية للمرء | فيدعى ولات حين إباء |
شكوت إلى الأيام سوء صنيعها | ومن عجب باك فشكا إلى المبكي |
فما زادت الأيام إلا شكاية | وما زالت الأيام تشكى ولا تشكي |
والأصل في أعناقهم إلا أنه أظهر في مقام الإضمار للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب إغلالهم، واستظهر أبو حيان عموم الموصول فيدخل فيه الفريقان المذكوران وغيرهم لأن من الكفار من لا يكون له اتباع تراجعه القول في الآخرة ولا يكون هو تابعا لرئيس له كالغلام الذي قتله الخضر عليه السّلام هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يجزون إلا مثل الذي كانوا يعملونه من الشر، وحاصله لا يجزون إلا شرا، وجزى قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه كما يشير إليه قول الراغب يقال جزيته كذا وبكذا، وجوز كون ما في محل النصب بنزع الخافض وهو إما الباء أو عن أو على فإنه ورد تعدية جزى بها جميعا، وقيل: إن هذا التعدي لتضمينه معنى القضاء ومتى صح ما سمعت عن الراغب لم يحتج إلى هذا وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ من القرى مِنْ نَذِيرٍ أي نذيرا من النذر إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي المتوسعون في النعم فيها، والجملة في موضع الحال إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ بزعمكم من التوحيد وغيره، والجار الثاني متعلق بما عنده والأول متعلق بقوله تعالى: كافِرُونَ وهو خبر إن، وظاهر الآية أن مترفي كل قرية قالوا لرسولهم ذلك وعليه فالجمع في أرسلتم للتهكم، وقيل: لتغليب المخاطب على جنس الرسل أو على اتباعه المؤمنين به، وقال بعض الأجلة الكلام من باب مقابلة الجمع بالجمع فقيل الجمع الأول الرسل المدلول عليه بقوله تعالى: أُرْسِلْتُمْ والثاني كافِرُونَ فقد كفر كل برسوله وخاطبه بمثله فلا تغليب في الخطاب في أرسلتم، وقيل: الجمع الأول نَذِيرٍ لأنه يفيد العموم في الحكاية لا المحكي لوقوعه في سياق النفي، وليس كل قوم منكرا لجميع الرسل فحمل على المقابلة، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم مما ابتلى به من مخالفة مترفي قومه وعداوتهم له عليه الصلاة والسلام، وتخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم في الأغلب أول المكذبين للرسل عليهم السّلام لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على قلوبهم منها فهم منهمكون في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها بخلاف الفقراء فإن قلوبهم لخلوها من ذلك أقبل للخير ولذلك تراهم أكثر اتباع الأنبياء عليهم السّلام كما جاء في حديث هرقل وَقالُوا الضمير للمترفين الذين تقدم ذكرهم، وقيل: لقريش، والظاهر المتبادر هو الأول، والمراد حكاية ما شجعهم على الكفر بما أرسل به المنذرون أي وقال المترفون: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً أي أموالنا وأولادنا كثيرة جدا فأفعل للزيادة المطلقة، وجوز بقاؤه على ما هو الأكثر استعمالا والمفضل عليه محذوف أي نحن أكثر منكم أموالا وأولادا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ بشيء من أنواع العذاب الذي يكدر علينا لذة كثرة الأموال والأولاد من خوف الملوك وقهر الأعداء وعدم نفوذ الكلمة والكد في تحصيل المقاصد ونحو ذلك، وإيلاء الضمير حرف النفي للإشارة إلى أن المخاطبين أو المؤمنين ليسوا كذلك، وحاصل قولهم نحن في نعمة لا يشوبها نقمة وهو دليل كرامتنا على الله عزّ وجلّ ورضاه عنا فلو كان ما نحن عليه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لرضاه لما كنا فيما كنا فيه من النعمة، ويجوز أن يكونوا قد قاسوا أمور الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمور الدنيا وزعموا أن المنعم عليه في الدنيا منعم عليه في الآخرة، وإلى هذا الوجه ذهب جمع وقالوا: نفي كونهم معذبين إما بناء على انتفاء العذاب الأخروي رأسا وإما بناء على بناء على اعتقاد أنه تعالى أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة على تقدير وقوعها، وقال الخفاجي في وجه إيلاء الضمير حرف النفي:
إنه إشارة إلى أن المؤمنين معذبون استهانة بهم لظنهم أن المال والولد يدفع العذاب عنهم كما قاله بعض المشركين، وأنت تعلم أن الأظهر عليه التفريع، وذهب أبو حيان إلى أن المراد بالعذاب المنفي أعم من العذاب الأخروي والعذاب الدنيوي الذي قد ينذر به الأنبياء عليهم السّلام ويتوعدون به قومهم إن لم يؤمنوا بهم، ولعل ما ذكرناه أولا أنسب بالمقام فتأمل جدا قُلْ ردا لما زعموه من أن ذلك دليل الكرامة والرضا إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسط له وَيَقْدِرُ على من يشاء أن يقدره عليه فربما يوسع سبحانه على العاصي ويضيق على المطيع وربما يعكس الأمر وربما يوسع عليهما معا وقد يضيق عليهما معا وقد يوسع على شخص مطيع أو عاص تارة ويضيق عليه أخرى يفعل
كلا من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته عزّ وجلّ المبنية على الحكم البالغة فلو كان البسط دليل الإكرام والرضا لاختص به المطيع وكذا لو كان التضييق دليل الإهانة والسخط لاختص به العاصي وليس فليس، والحاصل كما قيل منع كون ذلك دليلا على ما زعموا لاستواء المعادي والموالي فيه، وقال جمع: أريد أنه تعالى يفعل ذلك حسب مشيئته المبنية على الحكم فلا ينقاس عليه أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، وقال ناصر الدين: لو كان ذلك لكرامة أو هوان يوجبانه لم يكن بمشيئته تعالى، وهو مبني على أن الإيجاب ينافي الاختيار والمشيئة وقد قال به الخفاجي أخذا من كلام مولانا جلال الدين ورد به على من رد، ولا يخفى أن دعوى المترفين الإيجاب على الله تعالى فيما هم فيه من بسط الرزق وكذا فيما فيه أعداؤهم من تضييقه غير ظاهرة حتى يرد عليهم بإثبات المشيئة التي لا تجامع الإيجاب، وقرأ الأعمش «ويقدّر» مشدد هنا وفيما بعد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك فمنهم من يزعم أن مدار البسط الشرف والكرامة ومدار التضييق الهوان والحقارة، ومنهم من تحير واعترض على الله تعالى في البسط على أناس والتضييق على آخرين حتى قال قائلهم:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه | وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا |
هذا الذي ترك الأفهام حائرة | وصير العالم النحرير زنديقا |
ومن الدليل على القضاء وحكمه (١) | بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق |
وزلفى مصدر كالقربى وانتصابه على المصدرية من المعنى. وقرأ الضحاك «زلفا» بفتح اللام وتنوين الفاء جمع زلفة وهي القربة إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً استثناء من مفعول تُقَرِّبُكُمْ على ما ذهب إليه جمع، وهو استثناء متصل إذا كان الخطاب عاما للمؤمنين والكفرة ومنقطع إذا كان خاصا بالكفرة فالموصول في محل نصب أو رفع على
أنه مبتدأ ما بعده خبره أو خبره مقدر أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه.
واستظهر أبو حيان الانقطاع، وقال في البحر: فإن الزجاج ذهب إلى بدليته من المفعول المذكور وغلطه النحاس بأن ضمير المخاطب لا يجوز الإبدال منه فلا يقال رأيتك زيدا، ومذاهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضميري المخاطب والمتكلم لكن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا فلو قلت ما زيد بالذي يضرب إلا خالدا لم يصح اهـ.
وذكر بعض الأجلة أن جعله استثناء من المفعول لا يصح على جعل التي كناية عن التقوى لأنه يلزم أن تكون الأموال والأولاد تقوى في حق غير من آمن وعمل صالحا لكنها غير مقربة، وقيل لا بأس بذلك إذ يصح أن يقال وما أموالكم ولا أولادكم بتقوى إلا المؤمنين، وحاصله أن المال والولد لا يكونان تقوى ومقربين لأحد إلا للمؤمنين، وإذا كان الاستثناء منقطعا صح واتضح ذلك، وجوز أن يكون استثناء من أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ على حذف مضاف أي إلا أموال من آمن وعمل صالحا وأولادهم، وفي هذا إذا جعل التي كناية عن التقوى مبالغة من حيث إنه جعل مال المؤمن الصالح وولده نفس التقوى. ثم إن تقريب الأموال المؤمن الصالح بإنفاقها فيما يرضي الله تعالى وتقريب الأولاد بتعليمهم الخير وتفقيههم في الدين وترشيحهم للصلاح والطاعة.
فَأُولئِكَ إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي فأولئك المنعوتون بالإيمان والعمل الصالح لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أي لهم أن يجازيهم الله تعالى الضعف أي الثواب المضاعف فيجازيهم على الحسنة بعشر أمثالهم أو بأكثر إلى سبعمائة فإضافة جزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى مفعوله. وقرأ قتادة «جزاء الضّعف» برفعهما فالضعف بدل، وجوز الزجاج كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الضعف. ويعقوب في رواية بنصب «جزاء» ورفع «الضعف» فجزاء تمييز أو حال من فاعل لَهُمْ إن كان الضعف مبتدأ أو منه إن كان فاعلا أو نصب على المصدر لفعله الذي دل عليه لَهُمْ أي يجزون جزاء، وقرىء «جزاء» بالرفع والتنوين «الضعف» بالنصب على أعمال المصدر بِما عَمِلُوا من الصالحات وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ أي في غرفات الجنة ومنازلها العالية آمِنُونَ من جميع المكاره الدنيوية والأخروية وقرأ الحسن وعاصم بخلاف عنه والأعمش ومحمد بن كعب فِي الْغُرُفاتِ بإسكان الراء، وقرأ بعض القراء بفتحها، وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة وخلف «في الغرفة» بالتوحيد وإسكان الراء، وابن وثاب أيضا بالتوحيد وضم الراء والتوحيد على إرادة الجنس لأن الكل ليسوا في غرفة واحدة والمفرد أخصر مع عدم اللبس فيه وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بالرد والطعن فيها مُعاجِزِينَ أي بحسب زعمهم الباطل الله عزّ وجلّ أو الأنبياء عليهم السّلام، وحاصله زاعمين سبقهم وعدم قدرة الله تعالى أو أنبيائه عليهم السّلام، ومعنى المفاعلة غير مقصود هاهنا أُولئِكَ الذي بعدت منزلتهم في الشر فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ لا يجديهم ما ولوا عليه نفعا، وفي ذكر العذاب دون موضعه ما لا يخفى من المبالغة قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي يوسعه سبحانه عليه تارة ويضيقه عليه أخرى فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله تعالى وتقربوا لديه عزّ وجلّ بأموالكم وتعرضوا لنفحاته جل وعلا فمساق الآية للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقرب إليه تعالى بالإنفاق وهذا بخلاف مساق نظيرها المتقدم فإنه للرد على الكفرة كما سمعت، وأيضا ما سبق عام وما هنا خاص في البسط والتضييق لشخص واحد باعتبار وقتين كما يشعر به قوله تعالى هنا لَهُ وعدم قوله هناك، والضمير وإن كان في موضع من المبهم إلا أن سبق النظير خاليا عن ذلك وذكر هذا بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة ما ذكر فلا تغفل.
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ يحتمل أن تكون ما شرطية في موضع نصب بأنفقتم وقوله تعالى: فَهُوَ يُخْلِفُهُ جواب الشرط، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي في موضع رفع بالابتداء والجملة بعد خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، ومِنْ شَيْءٍ تبيين على الاحتمالين، ومعنى يُخْلِفُهُ يعطي بدله وما يقوم مقامه عوضا عنه وذلك إما في الدنيا بالمال كما هو الظاهر أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى كما قيل وإما في الآخرة بالثواب الذي كل خلف دونه وخصه بعضهم بالآخرة، أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: إذا كان لأحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق الموسع عليه، وأخرج من عدا الفريابي من المذكورين عنه أنه قال في الآية: أي ما كان من خلف فهو منه تعالى وربما أنفق الإنسان ماله كله في الخير ولم يخلف حتى يموت، ومثلها: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦] يقول ما آتاها من رزق فمنه تعالى وربما لم يرزقها حتى تموت، والأول أظهر لأن الآية في الحث على الإنفاق وأن البسط والقدر إذا كانا من عنده عزّ وجلّ فلا ينبغي لمن وسع عليه أن يخاف الضيعة بالإنفاق ولا لمن قدر عليه زيادتها، وقوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل يؤيد ذلك كأنه قيل: فيرزقه من حيث لا يحتسب.
وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا»
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «كل ما أنفق العبد نفقة فعلى الله تعالى خلفها ضامنا إلا نفقة في بنيان أو معصية».
وأخرج البخاري وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ أنفق يا ابن آدم أنفق عليك»
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عنه قال: «قال عليه الصلاة والسّلام إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة»
وفي حديث طويل عن الزبير قال الله تبارك وتعالى: «أنفق أنفق عليك وأوسع أوسع عليك ولا تضيق أضيق عليك ولا تصر فأصر عليك ولا تخزن فأخزن عليك إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات متواصل إلى العرش لا يغلق ليلا ولا نهارا ينزل الله تعالى منه الرزق على كل امرئ بقدر نيته وعطيته وصدقته ونفقته فمن أكثر أكثر له ومن أقل أقل له ومن أمسك أمسك عليه يا زبير فكل وأطعم ولا توكي فيوكى عليك ولا تحصي فيحصى عليك ولا تقتر فيقتر عليك ولا تعسر فيعسر عليك» الحديث
، ومعنى الرازقين الموصلين للرزق والموهبين له فيطلق الرازق حقيقة على الله عزّ وجلّ وعلى غيره ويشعر بذلك فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء: ٨] نعم لا يقال لغيره سبحانه رازق فلا إشكال في قوله سبحانه: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ووجه الأخيرية في غاية الظهور، وقيل إطلاق الرازق على غيره تعالى مجاز باعتبار أنه واسطة في إيصال رزقه تعالى فهو رازق صورة فاستشكل أمر التفضيل بأنه لا بدّ من مشاركة المفضل المفضل عليه في أصل الفعل حقيقة لا صورة.
وأجاب الآمدي بأن المعنى خير من تسمى بهذا الاسم وأطلق عليه حقيقة أو مجازا وهو ضرب من عموم المجاز وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي المستكبرين والمستضعفين أو الفريقين وما كانوا يعبدون من دون الله عزّ وجلّ، ويَوْمَ ظرف لمضمر متقدم أي واذكر يوم أو متأخر أي ويوم نحشرهم جميعا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إلى آخره يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال، وظاهر العطف بثم يقتضي أن القول للملائكة متراخ عن الحشر وفي الآثار ما شهد له،
فقد روي أن الخلق بعد أن يحشروا يبقون قياما في الموقف سبع آلاف سنة لا يكلمون حتى يشفع في فصل القضاء نبينا صلّى الله عليه وسلم
فلعله عند ذلك يقول سبحانه للملائكة عليهم السّلام أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تقريعا للمشركين وتبكيتا وإقناطا لهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعة الملائكة عليهم السّلام
لعلمه سبحانه بما تجيب به على نهج قوله تعالى لعيسى عليه السّلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [المائدة: ١١٦] وتخصيصهم بالذكر لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم والصالحون عادة للخطاب وعبادتهم مبدأ الشرك بناء على ما نقل ابن الوردي في تاريخه في أن سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أن عمرو ابن لحي مر بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصر بها ونستسقي فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز ورسول للعرب فعبدوه واستمرت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإسلام وحدثت عبادة عيسى عليه السّلام بعد ذلك بزمان كثير فبظهور قصورهم عن رتبة المعبودية وتنزههم عن عبادتهم يظهر حال سائر الشركاء بطريق الأولوية.
وهؤُلاءِ مبتدأ وكانُوا يَعْبُدُونَ خبره وإِيَّاكُمْ مفعول يَعْبُدُونَ قدم للفاصلة مع أنه أهم لأمر التقريع واستدل بتقديمه على جواز تقديم خبر كان إذا كان جملة عليها كما ذهب إليه ابن السراج فإن تقديم المعمول مؤذن بجواز تقديم العامل. وتعقبه أبو حيان بأن هذه القاعدة ليست مطردة ثم قال: والأولى منع ذلك إلا أن يدل على جوازه سماع من العرب، وقرأ جمهور القراء «نحشرهم» «ثم نقول» بالنون في الفعلين قالُوا استئناف بياني كأنه قيل: فماذا تقول الملائكة حينئذ؟ فقيل تقول منزهين عن ذلك سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على التحقق أي أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي الشياطين كما روي عن مجاهد حيث كانوا يطيعونهم فيما يسولون لهم من عبادة غير الله تعالى، وقيل صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا: هذه صورة الملائكة فاعبدوها فعبدوها، وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها، وقيل أرادوا أنهم عبدوا شيئا تخيلوه صادقا على الجن لا صادقا علينا فهم يعبدون الجن حقيقة دوننا، وقال ابن عطية: يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ الضمير الثاني للجن والأول للمشركين، والأكثر على ظاهرة لأن من المشركين من لم يؤمن بهم وعبدهم اتباعا لقومه كأبي طالب أو الأكثر بمعنى الكل، واختار في البحر الأول لأن كونه بمعنى الكل ليس حقيقة وقال: إنهم لم يدعوا الإحاطة إذ يكون في الكفار من لم يطلع الله تعالى الملائكة عليهم السّلام عليهم أو أنهم حكموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من أعمال القلب فلم يذكروا الاطلاع على عمل جميع قلوبهم لأن ذلك لله عزّ وجلّ، وجوز أن يكون الضمير الأول للإنس فالأكثر على ظاهره أي غالبهم مصدقون أنهم آلهة، وقيل مصدقون أنهم بنات الله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: ١٥٨] وقيل مصدقون أنهم ملائكة.
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا من جملة ما يقال للملائكة عليهم السّلام عند جوابهم بالتبري عما نسب إليهم المشركون يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد إظهارا لعجزهم وقصورهم عن زاعمي عبادتهم وتنصيصا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية، وقيل للكفار وليس بذاك، والفاء لترتيب الأخبار بما بعدها على جواب الملائكة عليهم السّلام، ونسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذي هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه في سلك عدم نفع العبدة لهم كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة والانتفاء كنفع العبدة لهم، والتعرض لعدم الضر مع أنه لا بحث عنه لتعميم العجز أو لحمل عدم النفع على تقدير العبادة وعدم الضر على تقدير تركها، وقيل لأن المراد دفع الضر على حذف المضاف وفيه بعد، والمراد باليوم يوم القيامة وتقييد الحكم به مع ثبوته على الإطلاق لانعقاد رجاء المشركين على تحقق النفع يومئذ.
وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ عطف على يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ وقيل على لا يملك وتعقب بأنه مما يقال يوم القيامة خطابا للملائكة مترتبا على جوابهم المحكي وهذا حكاية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لما سيقال للعبدة يومئذ إثر حكاية ما سيقال للملائكة عليهم السّلام. وأجيب بأن ذلك ليس بمانع فتدبر. ووقع الموصول هنا وصفا للمضاف إليه وفي السجدة في قوله تعالى: عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ صفة للمضاف فقال أبو حيان: لأنهم ثمت كانوا ملابسين للعذاب كما ينبىء عنه قوله تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة: ٢٠] فوصف لهم ثمت ما لابسوه وهنا لم يكونوا ملابسين له بل ذلك أول ما رأوا النار عقب الحشر فوصف ما عاينوه لهم، وكون الموصول هنا نعتا للمضاف على أن تأنيثه مكتسب لتتحد الآيتان تكلف سمج. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ بيان لبعض آخر من كفرهم أي إذا تتلى عليهم بلسان الرسول صلّى الله عليه وسلم آياتنا الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك قالُوا ما هذا يعنون رسول الله صلّى الله عليه وسلم التالي للآيات، والإشارة للتحقير قاتلهم الله تعالى إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ فيجعلكم من أتباعه من غير أن يكون له دين إلهي، وإضافة الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة في تقريرهم على الشرك وتنفيرهم عن التوحيد وَقالُوا ما هذا يعنون القرآن المتلو والإشارة كالإشارة السباقة إِلَّا إِفْكٌ أي كلام مصروف عن وجهه لا مصداق له في الواقع مُفْتَرىً بإسناده إلى الله عزّ وجلّ.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي لأمر النبوة التي معها من خوارق العادة ما معها أو للإسلام المفرق بين المرء وزوجه وولده أو القرآن الذي تتأثر به النفوس على أن العطف لاختلاف العنوان بأن يراد بالأول معناه وبالثاني نظمه المعجز لَمَّا جاءَهُمْ من غير تدبر ولا تأمل فيه إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته.
وفي ذكر قالَ ثانيا والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في لما من المسارعة إلى البت بهذا القول الباطل إنكار عظيم له وتعجب بليغ منه، وجوز أن تكون كل جملة صدرت من قوم من الكفرة وَما آتَيْناهُمْ أي أهل مكة مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها تقتضي صحة الإشراك ليعذروا فيه فهو كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: ٣٥] وقوله سبحانه: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: ٢١] وإلى هذا ذهب ابن زيد، وقال السدي: المعنى ما آتيناهم كتبا يدرسونها فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به، ويرجع إلى الأول، والمقصود نفي أن يكون لهم دليل على صحة ما هم عليه من الشرك، ومن صلة. وجمع الكتب إشارة على ما قيل إلى أنه لشدة بطلانه واستحالة إثباته بدليل سمعي أو عقلي يحتاج إلى تكرر الأدلة وقوتها فكيف يدعى ما توارت الأدلة النيرة على خلافه. وقرأ أبو حيوة «يدرسونها» بفتح الدال وشدها وكسر الراء مضارع أدرس افتعل من الدرس ومعناه يتدارسونها، وعنه أيضا «يدرسونها» من التدريس وهو تكرير الدرس أو من درس الكتاب مخففا ودرس الكتاب مشددا التضعيف فيه باعتبار الجمع.
وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي وما أرسلنا إليهم قبلك نذيرا يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ، وفيه من التهكم والتجهيل ما لا يخفى، ويجوز أن يراد أنهم أميون كانوا في فترة لا عذر لهم في الشرك ولا في عدم الاستجابة لك كأهل الكتاب الذين لهم كتب ودين يأبون تركه ويحتجون على عدم المتابعة بأن نبيهم حذرهم ترك دينه مع أنه بين البطلان لثبوت أمر من قبله باتباعه وتبشير الكتب به، وذكر ابن عطية أن الأرض لم تخل من داع إلى توحيد الله تعالى
فالمراد نفي إرسال نذير يختص بهؤلاء ويشافههم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل عليه السّلام والله تعالى يقول: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم: ٥٤] ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد صلّى الله عليه وسلم اهـ، ثم إنه تعالى هددهم بقوله سبحانه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المتقدمة والقرون الخالية بما كذبوا وَما بَلَغُوا أي أهل مكة مِعْشارَ أي عشر ما آتَيْناهُمْ وقال: قوم المعشار عشر العشر ولم يرتضه ابن عطية، وقال الماوردي: المراد المبالغة في التقليل أي ما بلغوا أقل قليل مما آتينا أولئك المكذبين من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال فَكَذَّبُوا أي أولئك المكذبون رُسُلِي الذين أرسلتهم إليهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك.
والفاء الأولى سببية وكَذَّبَ الأول ننزل منزلة اللازم أي فعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه، ونظير ذلك أن يقول القائل أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلم ومن هنا قالوا: إن كذبوا رُسُلِي عطف على كَذَّبَ الَّذِينَ عطف المقيد على المطلق وهو تفسير معنى وَما بَلَغُوا اعتراض والفاء الثانية فصيحة فيكون المعنى فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم، وجعل التدمير إنكار تنزيلا للفعل منزلة القول كما في قوله. ونشتم بالأفعال لا بالتكلم. أو على نحو. تحية بينهم ضرب وجيع. وجوز بعضهم أن يكون صيغة التفعيل في كَذَّبَ الَّذِينَ للتكثير وفي (كذبوا) للتعدية والمكذب فيهما واحد أي أنهم أكثروا الكذب وألفوه فصار سجية لهم حتى اجترءوا على تكذيب الرسل، وعلى الوجهين لا تكرار، وجوز أن يكون كذبوا رُسُلِي منعطفا على ما بَلَغُوا (١) من تتمة الاعتراض والضمير لأهل مكة يعني هؤلاء لم يبلغوا معشار ما آتينا أولئك المكذبين الأولين وفضلوهم في التكذيب لأن تكذيبهم لخاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام تكذيب لجميع الرسل عليهم السّلام من وجهين وعليه لا يتوهم تكرار كما لا يخفى، وكون جمل ما بَلَغُوا معترضة هو الظاهر وجعل وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تمهيدا لئلا تكون تلك الجملة كذلك يدفعه فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ لأن معناه للمكذبين الأولين البتة فلا التئام دون القول بكونها معترضة، إرجاع ضمير بَلَغُوا إلى أهل مكة والضمير المنصوب في آتَيْناهُمْ إلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وبيان الموصول بما سمعت هو المروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد، وقيل الضمير الأول للذين من قبلهم والضمير الثاني لأهل مكة أي وما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى، وقيل: الضميران للذين من قبلهم، أي كذبوا وما بلغوا في شكر النعمة ومقابلة المنّة عشر ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم، واستظهر ذلك أبو حيان معللا له بتناسق الضمائر حيث جعل ضمير فَكَذَّبُوا للذين من قبلهم فلا تغفل قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي ما أرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة وهي على ما قال قتادة ما دل عليه ما دل عليه بقوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ على أنه في تأويل مصدر بدل منها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي قيامكم أو مفعول لفعل محذوف أي أعني قيامكم، وجوز الزمخشري كونه عطف بيان لواحدة. واعترض بأن أَنْ تَقُومُوا معرفة لتقديره بقيامكم وعطف البيان يشترط فيه عند البصريين أن يكون معرفة من معرفة وهو عند الكوفيين يتبع ما قبله في التعريف والتنكير والتخالف مما لم يذهب إليه ذاهب.
والظاهر أن الزمخشري ذاهب إلى جواز التخالف، وقد صرح ابن مالك في التسهيل بنسبة ذلك إليه وهو من مجتهدي علماء العربية، وجوز أن يكون قد عبر بعطف البيان وأراد البدل لتآخيها وهذا إمام الصناعة سيبويه يسمي
التوكيد صفة وعطف البيان صفة، ثم إن كون المصدر المسبوك معرفة أو مؤولا بها دائما غير مسلم، والقيام مجاز عن الجد والاجتهاد، وقيل هو على حقيقته والمراد القيام عن مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وليس بذاك، وقد روي نفي إرادته عن ابن جريج أي إن تجدوا وتجتهدوا في الأمر بإخلاص لوجه الله تعالى مَثْنى وَفُرادى أي متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا فإن في الازدحام على الأغلب تهويش الخاطر والمنع من الفكر وتخليط الكلام وقلة الإنصاف كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة فإنه لا يكاد يوقف فيها على تحقيق وفي تقديم مثنى إيذان بأنه أوثق وأقرب إلى الاطمئنان، وفي البحر قدم لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وشاع الفتح بين الاثنين ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمره صلّى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيته، والوقف عند أبي حاتم هنا، وقوله تعالى ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ استئناف مسوق من جهته تعالى للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن مثل هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة لا يتصدى لادعائه إلا مجنون لا يبالي بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه أو مؤيد من عند الله تعالى مرشح للنبوة واثق بحجته وبرهانه وإذ قد علمتم أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأذكاهم نفسا وأفضلهم علما وأحسنهم عملا وأجمعهم للكمالات البشرية وجب أن تصدقوه في دعواه فكيف وقد انضم إلى ذلك معجزات تخر لها صم الجبال، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بصاحبكم للإيماء إلى أن حاله صلّى الله عليه وسلم مشهور بينهم لأنه نشأ بين أظهرهم معروفا بما ذكرنا، وجوز أن يكون متعلقا بما قبله والوقف على جِنَّةٍ على أنه مفعول لفعل علم مقدر لدلالة التفكر عليه لكونه طريق العلم أي ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة أو معمول لتتفكروا على أن التفكر مجاز عن العلم أو معمول له بدون ارتكاب تجوز بناء على ما ذهب إليه ابن مالك في التسهيل من أن تفكر يعلق حملا على أفعال القلوب، وجوز أن يكون هناك تضمين أي ثم تتفكروا عالمين ما بصاحبكم من جنة، وقال ابن عطية: هو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات الله تعالى والإيمان به اهـ وهو كما ترى، وما مطلقا نافية والباء بمعنى في ومن صلة، وقيل: ما للاستفهام إلا نكاري ومن بيانية، وجوز أن تكون صلة أيضا وفيه تطويل المسافة وطيها أولى إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ هو عذاب الآخرة فإنه صلّى الله عليه وسلم مبعوث في نسم الساعة
وجاء «بعثت أنا والساعة كهاتين»
وضم عليه الصلاة والسلام الوسطى والسبابة على المشهور.
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي مهما سألتكم من نفع على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ والمراد نفي السؤال رأسا كقولك لصاحبك إن أعطيتني شيئا فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا، فما شرطية مفعول سَأَلْتُكُمْ وهو المروي عن قتادة، وقيل هي موصولة والعائد محذوف ومن للبيان، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط أي الذي سألتكموه من الأجر فهو لكم وثمرته تعود إليكم، وهو على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إشارة إلى المودة في القربى في قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣] وكون ذلك لهم على القول بأن المراد بالقربى قرباهم ظاهر، وأما على القول بأن المراد بها قرباه عليه الصلاة والسلام فلأن قرباه صلّى الله عليه وسلم قرباهم أيضا أو هو إشارة إلى ذلك وإلى ما تضمنه قوله تعالى: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: ٥٧] وظاهر أن اتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى، وجوز كون ما نافية ومن صلة وقوله سبحانه: فَهُوَ لَكُمْ جواب شرط مقدر أي فإذا لم أسألكم فهو لكم، وهو خلاف الظاهر.
وقوله تعالى: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ يؤيد إرادة نفي السؤال رأسا. وقرىء «إن أجري» بسكون الياء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي مطلع فيعلم سبحانه صدقي وخلوص نيتي قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ قال السدي
وقتادة بالوحي، وفي رواية أخرى عن قتادة بالقرآن والمآل واحد، وأصل القذف الرمي بدفع شديد وهو هنا مجاز عن الإلقاء، والباء زائدة أي إن ربي يلقي الوحي وينزله على قلب من يجتبيه من عباده سبحانه، وقيل القذف مضمن معنى الرمي فالباء ليست زائدة، وجوز أن يراد بالحق مقابل الباطل والباء للملابسة والمقذوف محذوف، والمعنى إن ربي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه عليهم السّلام من الوحي بالحق لا بالباطل.
وعن ابن عباس أن المعنى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله عزّ وجلّ ويزيله، والحق مقابل الباطل والباء مثلها في قولك قتلته بالضرب، وفي الكلام استعارة مصرحة تبعية والمستعار منه حسي والمستعار له عقلي، وجوز أن تكون الاستعارة مكنية، وقيل: المعنى يرمي بالحق إلى أقطار الآفاق على أن ذلك مجاز عن إشاعته فيكون الكلام وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه، وفيه من الاستعارة ما فيه عَلَّامُ الْغُيُوبِ خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه علام الغيوب أو صفة محمولة على محل إن مع اسمها كما جوزه الكثير من النحاة وإن منعه سيبويه أو بدل من ضمير يَقْذِفُ ولا يلزم خلو جملة الخبر من العائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح من كل الوجوه، وقال الكسائي: هو نعت لذلك الضمير ومذهبه جواز نعت المضمر الغائب.
وقرأ عيسى وزيد بن علي وابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة وأبو حيوة وحرب عن طلحة عَلَّامُ بالنصب فقال الزمخشري: صفة لربي، وقال أبو الفضل الرازي وابن عطية: بدل، وقال الحوفي: بدل أو صفة، وقيل نصب على المدح. وقرأ ابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي «الغيوب» بالكسر كالبيوت، والباقون بالضم كالشعور وهو فيهما جمع، وقرىء بالفتح كصبور على أنه مفرد للمبالغة قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام والتوحيد أو القرآن، وقيل السيف لأن ظهور الحق به وهو كما ترى وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ أي الكفر والشرك وَما يُعِيدُ أي ذهب واضمحل بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر ابتداء ولا إعادة أي فعله ثانيا كما يقال لا يأكل ولا يشرب أي ميت فالكلام كناية عما ذكر أو مجاز متفرع على الكناية، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص:
أقفر من أهله عبيد... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
وقال جماعة: الباطل إبليس وإطلاقه عليه لأنه مبدؤه ومنشؤه، ولا كناية في الكلام عليه، والمعنى لا ينشىء خلقا ولا يعيد أو لا يبدىء خيرا لأهله ولا يعيد أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة، وقيل هو الصنم والمعنى ما سمعت، وعن أبي سليمان أن المعنى إن الصنم لا يبتدىء من عنده كلاما فيجاب ولا يرد ما جاء من الحق بحجة.
وما على جميع ذلك نافية، وقيل: هي على ما عدا القول الأول للاستفهام الإنكاري منتصبة بما بعدها أي أي شيء يبدي الباطل وأي شيء يعيد وماله النفي، والكلام جوز أن يكون تكميلا لما تقدم وأن يكون من باب العكس والطرد وأن يكون تذييلا مقررا لذلك فتأمل قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي عائدا ضرر ذلك ووباله عليها فإنها الكاسبة للشرور والأمارة بالسوء وَإِنِ اهْتَدَيْتُ إلى الحق فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن الاهتداء بهدايته تعالى وتوفيقه عزّ وجلّ، وما موصولة أو مصدرية، وكان الظاهر وإن اهتديت فلها كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: ٤٦] أو إن ضللت فإنما أضل بنفسي ليظهر التقابل لكنه عدل عن ذلك اكتفاء بالتقابل بحسب المعنى لأن الكلام عليه أجمع فإن كل ضرر فهو من النفس وبسببها وعليها وباله، وقد دل لفظ على في القرينة الأولى على معنى اللام في الثانية والباء في الثانية على معنى السببية في الأولى فكأنه قيل: قل إن ضللت فإنما أضل بسبب نفسي على نفسي وإن اهتديت فإنما اهتدى لنفسي بهداية الله تعالى وتوفيقه سبحانه، وعبر عن هذا بما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي لأنه لازمه، وجعل علي للتعليل وإن ظهر عليه التقابل ارتكاب لخلاف الظاهر من غير نكتة.
وجوز أن يكون معنى القرينة الأولى قل إن ضللت فإنما أضل عليّ لا على غيري، ولا يظهر عليه أمر التقابل
مطلقا، والحكم على ما قال الزمخشري عام وإنما أمر صلّى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به، وقال الإمام: أي إن ضلال نفسي كضلالكم لأنه صادر من نفسي ووباله عليها وأما اهتدائي فليس كاهتدائكم بالنظر والاستدلال وإنما هو بالوحي المنير فيكون مجموع الحكمين عنده مختصا به عليه الصلاة والسلام، وفيما ذكره دلالة على ما قاله الطيبي على أن دليل النقل أعلى وأفخم من دليل العقل وفيه بحث. وقرأ الحسن وابن وثاب وعبد الرحمن المقرئ «ضللت» بكسر اللام و «أضل» بفتح الضاد وهي لغة تميم، وكسر عبد الرحمن همزة «أضل» وقرىء «ربي» بفتح الياء إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ فلا يخفى عليه سبحانه قول كل من المهتدي والضال وفعله وإن بالغ في إخفائهما فيجازي كلا بما يليق.
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا أي اعتراهم انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف، والخطاب في ترى للنبي صلّى الله عليه وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية، ومفعول تَرى محذوف أي الكفار أو فزعهم أو هو إِذْ على التجوز إذ المراد برؤية الزمان رؤية ما فيه أو هو متروك لتنزيل الفعل منزلة اللازم أي لو تقع منك رؤية وجواب لَوْ محذوف أي لرأيت أمرا هائلا، وهذا الفزع على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد يوم القيامة، والظاهر عليه أنه فزع البعث وهو مروي عن الحسن وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه في الدنيا عند الموت حين عاينوا الملائكة عليهم السّلام. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه يوم بدر فقيل هو فزع الحرب، وعن السدي وابن زيد فزع ضرب أعناقهم ومعاينة العذاب، وقيل في آخر الزمان حين يظهر المهدي ويبعث إلى السفياني جندا فيهزمهم ثم يسير السفياني إليه حتى إذا كان ببيداء من الأرض خسف به وبمن معه فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم فالفزع فزع ما يصيبهم يومئذ فَلا فَوْتَ فلا يفوتون الله عزّ وجلّ بهرب أو نحوه عما يريد سبحانه بهم وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من الموقف إلى النار أو من ظهر الأرض إلى بطنها أو من صحراء بدر إلى القليب أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم، والمراد بذكر قرب المكان سرعة نزول العذاب بهم والاستهانة بهم وبهلاكهم وإلا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ، والجملة عطف على فَزِعُوا على ما ذهب إليه جماعة قال في الكشف: وكأن فائدة التأخير أن يقدر فلا فوت ثانيا إما تأكيدا وإما أن أحدهما غير الآخر تنبيها على أن عدم الفوت سبب للأخذ وأن الأخذ سبب لتحققه وجودا، وفيه مبالغة حسنة، وقيل على لا فَوْتَ على معنى فلم يفوتوا وأخذوا، واختاره ابن جني معترضا على ما تقدم بأنه لا يراد ولو ترى وقت فزعهم وأخذهم وإنما المراد ولو ترى إذ فزعوا ولم يفوتوا وأخذوا، وبما نقل عن الكشف يتحصل الجواب عنه.
وجوز كونها حالا من فاعل فَزِعُوا أو من خبر لا المقدر وهو لهم بتقدير قد أو بدونه، والفاء في فَلا فَوْتَ قيل إن كانت سببية فهي داخلة على المسبب لأن عدم فوتهم من فزعهم وتحيرهم وإن كانت تعليلية فهي تدخل على السبب لترتب ذكره على ذكر المسبب، وإذا عطف أُخِذُوا عليه أو جعل حالا من الخبر يكون هو المقصود بالتفريع. وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه وطلحة «فلا فوت وأخذ» مصدرين منونين.
وقرأ أبي «فلا فوت» مبنيا «وأخذ» مصدرا منونا، وإذا رفع أخذ كان خبر مبتدأ محذوف أي وحالهم أخذ أو مبتدأ خبره محذوف أي وهناك أخذ وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وقال الزمخشري: قرىء وأخذ بالرفع على أنه معطوف على محل لا فَوْتَ ومعناه فلا فوت هناك وهناك أخذ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أي بالله عزّ وجلّ على ما أخرجه جمع عن مجاهد، وقالت فرقة: أي بمحمد لله وقد مر ذكره في قوله سبحانه: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ وقيل الضمير للعذاب، وقيل للبعث، ورجح رجوعه إلى محمد عليه الصلاة والسلام لأن الإيمان به صلّى الله عليه وسلم شامل للإيمان بالله عزّ وجلّ وبما ذكر من العذاب والبعث وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ التناوش التناول كما قال الراغب وروي عن مجاهد.
وقال الزمخشري: هو تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم وتناوشوا في الحرب ناش بعضهم بعضا بالسلاح، وقال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا | نوشا به تقطع أجواز الفلا |
تمنى أن تؤوب إلى مي | وليس إلى تناوشها سبيل |
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني | وقد حدثت بعد الأمور أمور |
ومولى عصاني واستبد برأيه | كما لم يطع فيما أشاء قصير |
أقحمني جار أبي الخابوش | إليك نأش القدر النؤوش |
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أي كانوا يرجمون بالمظنون ويتكلمون بما لم يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق في شأن الله عزّ وجلّ فينسبون إليه سبحانه الشريك ويقولون الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أو في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام فيقولون فيه وحاشاه: شاعر وساحر وكاهن أو في شأن العذاب أو البعث فيبتون القول بنفيه مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جهة بعيدة من أمر من تكلموا في شأنه، والجملة عطف على وَقَدْ كَفَرُوا وكان الظاهر وقذفوا إلا أنه عدل إلى صيغة المضارع حكاية للحال الماضية، والكلام قيل لعله تمثيل لحالهم من التكلم بما يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه، وجوز الزمخشري كونه عطفا على قالُوا آمَنَّا بِهِ على أنهم مثلوا في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في صفحة رقم 331
الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه شاحطا. وقرأ مجاهد وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو «يقذفون» مبنيا للمفعول، قال مجاهد: أي ويرجمهم الوحي بما يكرهون مما غاب عنهم من السماء، وكأن الجملة في موضع الحال من ضمير كفروا كأنه قيل: وقد كفروا به من قبل وهم يقذفون بالحق الذي غاب عنهم وخفي عليهم، والمراد تعظيم أمر كفرهم، وجوز أن يراد بالغيب ما خفي من معايبهم أي وقد كفروا وهم يقذفهم الوحي من السماء ويرميهم بما خفي من معايبهم.
وقال أبو الفضل الرازي: أي ويرمون بالغيب من حيث لا يعلمون، ومعناه يجازون بسوء أعمالهم ولا علم لهم بمأتاه إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت وإما في الآخرة انتهى، وفي حالية الجملة عليه نوع خفاء.
وقال الزمخشري: أي وتقذفهم الشياطين بالغيب ويلقنونهم إياه وكان الجملة عطف على قَدْ كَفَرُوا وقيل أي يلقون في النار وهو كما ترى وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ قال ابن عباس: هو الرجوع إلى الدنيا، وقال الحسن: هو الإيمان المقبول، وقال قتادة: طاعة الله تعالى، وقال السدي: التوبة، وقال مجاهد: الأهل والمال والولد.
وقيل أي حيل بين الجيش والمؤمنين بالخسف بالجيش أو بينهم وبين تخريب الكعبة أو بينهم وبين النجاة من العذاب أو بينهم وبين نعيم الدنيا ولذتها وروي ذلك عن مجاهد أيضا و «حيل» مبني للمجهول وتائب الفاعل كما قال أبو حيان ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحول، وحاصله وقعت الحيلولة ولإضماره لم يكن مصدرا مؤكدا فناب مناب الفاعل، وعلى ذلك يخرج قوله:
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل | يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب |
كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة، ومِنْ قَبْلُ متعلق بأشياعهم على أن المراد من اتصف بصفتهم من قبل أي في الزمان الأول، ويرجحه أن ما يفعل بجميعهم في الآخرة إنما هو في وقت واحد أو متعلق بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا، وعن الضحّاك أن المراد بأشياعهم أصحاب الفيل، الظاهر أنه جعل الآية في السفياني ومن معه.
إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ أي موقع في ريبة على أنه من أرابه أوقعه في ريبة وتهمة أو ذي ريبة من أراب الرجل صار ذا ريبة فإما أن يكون قد شبه الشك بإنسان يصح أن يكون مريبا على وجه الاستعارة المكنية التخييلية أو يكون الإسناد مجازيا أسند فيه ما لصاحب الشك للشك مبالغة كما يقال شعر شاعر، وكأنه من هنا قال ابن عطية:
الشك المريب أقوى ما يكون من الشك، وضمير الجمع للإشباع وقيل لأولئك المحدث عنهم والله تعالى أعلم ومن باب الإشارة في بعض آيات السورة ما قيل وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ أشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت، وقد ذكروا أنه إذا تمكن الذكر سرى في جميع أجزاء البدن فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكرا فإذا ترقى حاله يسمع كل ما في عالم الملك كذلك فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك وإن من شيء إلا يسبح بحمده وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ القلب أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وهي الحكم البالغة التي تظهر من القلب صفحة رقم 332
على اللسان وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي في سرد الحديث بأن تتكلم بالحكمة على قدر ما يتحمله عقل مخاطبك، وقد ورد كلموا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم.
ومن هنا يصعب الجواب عمن تكلم من المتصوفة بما ينكره أكثر من يسمعه من العلماء وبه ضل كثير من الناس وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ ريح العناية غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ فكان يتصرف بالهمة وقذف الأنوار في قلوب متبعيه من مسافة شهر وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ إشارة إلى قوة باطنه حيث انقاد له من جبل على المخالفة وفعل الشرور وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وهو من شكره بالأحوال أعني التخلق بأخلاق الله تعالى:
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علما وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي مقامات أهل الباطن من العارفين قُرىً ظاهِرَةً وهي مقامات أهل الظاهر من الناسكين سِيرُوا فِيها لَيالِيَ في ليالي البشرية وَأَيَّاماً في أيام الروحانية آمِنِينَ في خفارة الشريعة.
وقال بعض الفرقة الجديدة الكشفية: القرى المبارك فيها الأئمة رضي الله تعالى عنهم والقرى الظاهرة الدعاة إليهم والسفراء بينهم وبين شيعتهم وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بميلهم إلى الدنيا وترك السير لسوء استعدادهم حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ فيه إشارة إلى أن الهيبة تمنع الفهم وَما أَرْسَلْناكَ أي ما أخرجناك من العدم إلى الوجود إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ الأولين والآخرين بَشِيراً وَنَذِيراً وهذا حاله عليه الصلاة والسلام في عالم الأرواح وفي عالم الأجساد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ إذ لا نور لهم يهتدون به وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ هؤلاء قطاع الطريق على عباد الله تعالى ومثلهم المنكرون على أولياء الله تعالى الذين ينفرون الناس عن الاعتقاد بهم واتباعهم قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي إن النفس لأمارة بالسوء وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من القرآن وفيه إشارة إلى أنه نور لا يبقى معه ديجور أو مراتب الاهتداء به متفاوتة حسب تفاوت الفهم الناشئ من تفاوت صفاء الباطن وطهارته، وقد ورد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ولا يكاد يصل الشخص إلى باطنه إلا بتطهير باطنه كما يرمز إليه قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: ٧٩] نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم ظاهره وباطنه إلى ما شاء من البطون فإنه جل وعلا القادر الذي يقول للشيء كن فيكون.