آيات من القرآن الكريم

قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ۖ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۖ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ
ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ

الرزق لا تدل عن حال المحق، كما أن ضيقه لا يدل على حال المبطل، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (٣٦) أن ضنك العيش وخصبها بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، أي وما الأموال والأولاد تقرب أحدا إلى الله إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله تعالى، وعلّم أولاده الخير، وربّاهم على الصلاح فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ في الحسنات بِما عَمِلُوا من الصالحات، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ أي غرفات الجنة آمِنُونَ (٣٧) من جميع المكاره.
وقرأ حمزة «الغرفة» على التوحيد على إرادة الجنس. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي يكذبونها مُعاجِزِينَ أي متأخرين عنها، وفي قراءة «معجزين» أي معتقدين عجزنا، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) أي يخرجون منه، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله، فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعوضه في الدنيا بالمال أو بالقناعة، وفي الآخرة بالحسنات وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) أي الواهبين للرزق، وأفضل المعوضين. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي بني مليح والملائكة جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إهانة لهؤلاء الكفار- وقرأ حفص «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء-: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) بأمركم؟
قالُوا أي الملائكة متبرئين منهم: سُبْحانَكَ أي ننزهك عن أن يكون غيرك معبودا وأنت معبودنا، ومعبود كل خلق أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت الذي نواليك أي نتقرب منك بالعبادة مِنْ دُونِهِمْ أي لم يكن لنا دخل في عبادتهم لنا.
وقال الرازي: معنى «أنت ولينا من دونهم»، أي كونك ولينا بالمعبودية أحب إلينا من كون هؤلاء الضالين أولياء بالعبادة لنا، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أي كانوا ينقادون لأمر الشياطين، فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الشياطين، وكنا نحن كالقبلة لهم أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)، أي كل المشركين مصدقون للشياطين. وهذا محض كلام الله تعالى والوقف على الجن تام، وأما إذا قلنا: إن هذا من كلام الملائكة فمعنى أكثرهم على أصله وإنما قالوا ذلك لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب، أو على من في جميع الوجود، فَالْيَوْمَ أي يوم الحشر لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا يقدر المعبودون- وهم الملائكة- على نفع العابدين- وهم الكفار- بالثواب ولا على دفع ضررهم، وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا، وهذا معطوف على قوله تعالى:
يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أي ونقول: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها أي بالنار تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ، أي كفار مكة بلسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم آياتُنا الناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الشرك بَيِّناتٍ، أي واضحات قالُوا ما هذا أي التالي إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الآلهة وَقالُوا ما هذا أي القول بالوحدانية إِلَّا إِفْكٌ أي كلام مصروف عن وجهه،

صفحة رقم 272

مُفْتَرىً بإسناده إلى الله تعالى، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي للقرآن لَمَّا جاءَهُمْ من غير تأمل فيه إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ أي خيال مُبِينٌ (٤٣)، أي ظاهر سحريته.
قال الرازي: وإن أعيد اسم الإشارة الثاني إلى القرآن كان اسم الإشارة هذا عائد إلى المعجزات، فإنكار التوحيد كان مختصا بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمعجزات كان متفقا عليه بين المشركين، وأهل الكتاب. ولذلك قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ على وجه العموم وهو بدل عن قوله تعالى: وقالوا للحق وَما آتَيْناهُمْ أي ما أعطينا كفار مكة مِنْ كُتُبٍ دالة على صحة الإشراك يَدْرُسُونَها أي يقرءونها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) أي رسول يدعوهم إلى الإشراك وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الأمم المتقدمة وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ، أي وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة وكثرة المال وطول العمر، فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) أي تغييري عليهم بالتدمير، وما نفعتهم قوتهم وما لهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟ ويقال: وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا قوم محمد من البيان والبرهان فإن محمدا أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، وكتابه أكمل من سائر الكتب، وأوضح، ثم إن المتقدمين لما كذبوا الكتب والرسل أنكر عليهم وكيف لا أنكر على هؤلاء الأمة وقد كذبوا بأفصح الرسل وأوضح السبل، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. قُلْ يا أكرم الرسل لكفار مكة: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي ما أنصح لكم إلا بخصلة واحدة أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فقوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا بدل من «واحدة» فإن الازدحام يشوش الأفهام ويخلط الأفكار بالأوهام، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به أما الاثنان فيتفكرون، ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه لينظر فيه، وأما الواحد فيفكر في نفسه بعدل فيقول: هل رأينا من هذا الرجل جنونا أو جربنا عليه كذبا، وقد علمتم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما به من جنون بل علمتموه أرجح قريش عقلا، وأوزنهم حلما، وأحدّهم ذهنا، وأرضاهم رأيا، وأصدقهم قولا، وأزكاهم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، وإذا علمتهم بذلك كفاكم أن تطالبوه بآية، وإذا جاء بها تبين أنه نبي صادق فيما جاء به، ثم نبه الله تعالى على طريقة النظر بقوله تعالى: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ نفي مستأنف، فالوقف على «تتفكروا» تام عند أبي حاتم أي ما بصاحبكم محمد من جنون، ويجوز أن يكون تتفكروا معلقا عن الجملة المنفية فهي في موضع نصب على إسقاط في، أي ثم تتفكروا في عدم الجنون في صاحبكم، ويجوز أن تكون «ما» استفهامية على معنى «ثم تتفكروا»، أي شيء بمحمد من آثار الجنون، وعلى هذين الاحتمالين لا وقف على «تتفكروا». إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) أي ما محمد إلا رسول مخوف لكم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب قبل عذاب شديد في الآخرة، إن لم تؤمنوا به. قُلْ لهم يا أشرف الخلق: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ

صفحة رقم 273
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية