
والإنجيل والزبور فكأنهم كذبوا بجميع كتب الله وإنما فعلوا هذا لما وقع الاحتجاج عليهم بما في التوراة من أمر محمد ﷺ وقالت فرقة: «الذي بين يديه» هي الساعة والقيامة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا خطأ قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة وأنه المتقدم في الزمان وقد بيناه فيما تقدم، ثم أخبر الله تعالى نبيه عن حالة الظالمين في صيغة التعجيب من حالهم، وجواب لَوْ محذوف، وقوله يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي يرد، أي يتحاورون ويتجادلون، ثم فسر ذلك الجدل بأن الأتباع والضعفاء من الكفرة يقولون للكفار وللرؤوس على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم لَوْلا أَنْتُمْ لآمنا نحن واهتدينا، أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر، فقال لهم الرؤساء على جهة التقرير والتكذيب أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي دخلتم في الكفر ببصائركم، وأجرمتم بنظر منكم، ودعوتنا لم تكن ضربة لازب عليكم لأنا دعوناكم بغير حجة ولا برهان.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كله يتضمنه اللفظ.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
هذه مراجعة من الأتباع للرؤساء حين قالوا لهم: إنما كفرتم ببصائر أنفسكم قال المستضعفون بل كفرنا بمكركم بنا بالليل والنهار «وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما» ولتدل هذه الإضافة على الدؤوب والدوام، وهذه الإضافة كما قالوا «ليل نائم ونهار صائم»، وأنشد سيبويه «فنام ليلي وتجلى همي»، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ قتادة بن دعامة «بل مكر الليل والنهار» بتنوين «مكر» ونصب «الليل والنهار» على الظرف، وقرأ سعيد بن جبير «بل مكر» بفتح الكاف وشد الراء من كر يكر وبالإضافة إلى «الليل والنهار» وذكر عن يحيى بن يعمر وكأن معنى هذه الآية الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله، و «الند» المثيل والشبيه، والضمير في قوله أَسَرُّوا عام جميع من تقدم ذكره من المستضعفين والمستكبرين، أَسَرُّوا معناه اعتقدوها في نفوسهم، ومعتقدات النفس كلها سر لا يعقل غير ذلك، وإنما يظهر ما يصدر عنها من كلام أو قرينة، وقال بعض الناس أَسَرُّوا معناه أظهروا وهي من الأضداد.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كلام من لم يعتبر المعنى أما نفس الندامة فلا تكون إلا مستسرة ضرورة، وأما الظاهر عنها فغيرها ولم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد، وقوله تعالى: لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي وافوه وتيقنوا حصولهم فيه وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧)

هذه تسلية للنبي ﷺ عن فعل قريش وقولها أي هذه يا محمد سيرة الأمم فلا يهمنك أمر قومك، و «القرية» المدينة، و «المترف» المنع البطال الغني القليل تعب النفس والجسم فعادتهم المبادرة بالتكذيب، وقوله وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً يحتمل أن يعود الضمير على المترفين ويكون ذلك من قولهم مع تكذيبهم، ثم لما كانت قريش مثلهم أمره الله تعالى بأن يقول إِنَّ رَبِّي الآية، ويحتمل أن يعود الضمير في قالُوا لقريش ويكون كلام المترفين قد تم، ثم تطرد الآية بعد، وقولهم نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً معناه الاحتجاج أي أن الله لم يعطنا هذا وقدره لنا إلا لرضاء عنا وعن طريقنا ونحن لا نعذب البتة إذ الله الذي تزعم أنت علمه بجميع الأشياء وإحاطته قد قدر علينا النعم، فهو إذن راض عنا، وقال بعض المفسرين معنى قولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي بالفقر.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ليس كالأول في القوة فأمر الله تعالى نبيه أن يقول: إن الأمر ليس كما ظنوا بل بسط الرزق وقدره معلق بالمشيئة في كافر ومؤمن وليس شيء من ذلك دليلا على رضى الله تعالى والقرب منه لأنه قد يعطي ذلك إملاء واستدراجا، وكثير من الناس لا يعلم ذلك كأنتم أيها الكفار، وقرأت فرقة «ويقدر»، وقرأت فرقة «ويقدّر» بضم الباء وفتح القاف وشد الدال وهي راجعة إلى معنى التضييق الذي هو ضد البسط، ثم أخبرهم بأن أموالهم وأولادهم ليست بمقربة من الله زُلْفى، والزلفى مصدر بمعنى القرب، وكأنه قال تقربكم عندنا تقريبا، وقرأ الضحاك «زلفى» بفتح اللام وتنوين الفاء، وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ آمَنَ استثناء منقطع، ومَنْ في موضع نصب بالاستثناء، وقال الزجاج مَنْ بدل من الضمير في تُقَرِّبُكُمْ، وقال الفراء مَنْ في موضع رفع، وتقدير الكلام ما هو المقرب إلا من آمن، وقرأ الجمهور «جزاء الضعف» بالإضافة، وقرأ قتادة «جزاء الضعف» برفعها، وحكى عنه الداني «جزاء» بالنصب «الضعف» بنصب الفاء، والضِّعْفِ هنا اسم جنس أي بالتضعيف إذ بعضهم يجازى إلى عشرة وبعضهم أكثر إلى سبعمائة بحسب الأعمال. ومشيئة الله تعالى فيها، وقرأ جمهور القراء «في الغرفات» بالجمع، وقرأ حمزة وحده «في الغرفة» على اسم الجنس يراد به الجمع، ورويت عن الأعمش وهما في القراءة حسنتان، قال أبو علي: وقد يجيء هذا الجمع بالألف والتاء «الغرفات» ونحوه للتكثير ومنه قول حسان بن ثابت:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى | وأسيافنا يقطرن من نجدة دما |
قال الفقيه الإمام القاضي: وتأمل نقد الأعشى في هذا البيت، وقرأ الأعمش والحسن وعاصم بخلاف في «الغرفات» بسكون الراء. صفحة رقم 422