
سورة سبأ
مكية كلها إلا آية (٦) : وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الآية.. فقيل فيها: إنها مكية وقيل: هي مدنية. وآياتها أربع وخمسون آية. ويدور محور الكلام فيها على البعث، ونقاش المشركين في أعمالهم وعقائدهم، وخاصة إثبات البعث، وفي خلال ذلك سيقت بعض القصص للعبرة والتسلية..
إثبات البعث وبيان دواعيه على منكريه [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) صفحة رقم 125

المفردات:
يَلِجُ: يدخل فيها يَعْرُجُ فِيها: يصعد فيها لا يَعْزُبُ: لا يغيب مُعاجِزِينَ: عاجزه وأعجزه: سبقه وغالبه مُزِّقْتُمْ: قطعتم قطعا صغيرة نَخْسِفْ خسف المكان: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض غاب به فيها كِسَفاً جمع كسفة: وهي القطعة مُنِيبٍ: راجع إلى ربه.
وهذا افتتاح لسورة سبأ وهي سورة مكية عنيت بإثبات البعث والرد على منكريه، كما ذكرنا.
المقصود من هذه الآيات إثبات البعث، وقدم له الحق- تبارك وتعالى- بمقدمة غاية في الدقة، ونهاية في الحسن والجمال، إذ نعم الله تنحصر في الجملة في نعمتين: نعمة الإيجاد والإبقاء في الدنيا، ونعمة الإعادة والدوام في الآخرة، ونرى أن السورة التي بدأت بالحمد في القرآن خمس: اثنتان في النصف الأول هما الأنعام والكهف، واثنتان في النصف الثاني هما سبأ وفاطر، والخامسة الفاتحة وهي توضع في الأول والآخر.

وفي أول سورة الأنعام الإشارة إلى نعمة الإيجاد هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وفي أول الكهف الإشارة إلى الإبقاء الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ولا تبقى الدنيا بلا قانون وأحكام دستور ونظام ولذا تكلم فيها عن القرآن، وهنا الإشارة إلى الإعادة والبعث بدليل قوله: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وفي أول سورة فاطر الإشارة إلى دوام وبقاء الحياة الآخرة جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ والملائكة كلها لا تكون رسلا إلا يوم القيامة وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ.
وسورة الفاتحة جمعت البدء والإعادة معا فقرئت في البدء والختام للقرآن.
المعنى:
الحمد لله حمدا يوازى نعماءه، ويكافئ فضله، فهو الله الذي لا إله إلا هو له الحمد المطلق في الأولى، وله الحمد في الآخرة، وله وحده الحكم، وإليه وحده ترجعون، الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا فهو وحده صاحب النعم لأنه المالك للكل فهو إذن المستحق للحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير بكل كائن.
يعلم كل ما يلج في الأرض ويدخل فيها من بذور وماء وثمار وكنوز ودفائن وأجسام، ويعلم كل ما يخرج منها من نبات وأشجار، وحيوان ومياه ومعادن وأحجار، ويعلم ما ينزل من السماء من مطر وثلوج وصواعق وأرزاق وما يعرج فيها ويصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد.
وهو مع ذلك كله الغفور الرحيم، لمن يفرط في واجب الشكر والثناء لصاحب هذه النعم.
ثم بين القرآن أن هذه النعمة التي يستحق بها الحمد وهي نعمة الحياة الآخرة أنكرها قوم وكفروا بها فقال:
وقال الذين كفروا من المشركين وغيرهم الذين ينكرون البعث والحياة الآخرة قالوا لا: لا تأتينا الساعة أبدا. فرد الله عليهم بقوله لنبيه: قل لهم: بلى ستأتيكم أيها

المنكرون ثم أقسم على ذلك مؤكدا فقال: وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
يا أخى: قف معى عند قوله تعالى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أليست معجزة القرآن حيث ذكر تفتيت الذرة من أربعة عشر قرنا؟! سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت آية ٥٣].
لم يكتف الله بالقسم على إتيان يوم الساعة بل ذكر الدليل على ذلك فقال:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد قوله: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ولعل هذا هو السر في اختيار وصف الله بالعلم هنا، ووجه الدلالة أنهم كانوا يفهمون أن البعث محال لتفتت الأجسام وضياع الأجزاء فكيف يتأتى جمعها بعد تفريقها؟ والله يرد عليهم بأنه عالم يعلم السر وأخفى، وهو العليم بكل الجزئيات التي في السموات والأرضين، على أنه حكيم ومن الحكمة أن يجازى المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وأن الدنيا ليست محل جزاء بل هي موضع ابتلاء لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «١» فربك يوم القيامة يجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة، أولئك البعيدون في درجات الكمال الذين يشار إليهم بالبنان لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة من الله ورضوان، ولهم رزق كريم لا يتبعه من ولا ألم، وليس صاحبه مهددا بفقر أو موت.
والذين سعوا جاهدين في إبطال آياتنا حالة كونهم معتقدين عجزنا وأننا لن نحيط بأعمالهم، وفي قراءة (معاجزين) أى: مسابقين الله، وإن كان هذا مما لا يتصور إلا أن المكذبين بآيات الله لما قدروا في أنفسهم وطمعوا أن كيدهم في الإسلام يتم لهم شبهوا بمن يسابق الله بحسب زعمهم.
والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز- وهو أسوأ العذاب- أليم غاية الألم، إذا لا بد من البعث ليأخذ كل جزاءه على ما قدم.