
ذكر الملائكة الذين يرجون شفاعتهم.
٢٣ - وقوله: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾ يعني: شفاعة الملائكة. ﴿عِنْدَهُ﴾ عند الله (١). ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ قرئ: بضم الهمزة وفتحها، فمن فتح بني الفعل للفاعل، وأسنده إلى ضمير اسم الله؛ لقوله تعالى: ﴿لَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾، ومن ضم الهمزة بني الفعل للمفعول وهو يريد هذا المعنى (٢). والآذن في القراءتين هو الله تعالى، كقوله: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ والمجازي في الوجهين هو الله تعالى. قال الفراء: أي لا تنفع شفاعة ملك مقرب ولا نبي حتى يؤذن له في الشفاعة، ويقال: حتى يؤذن له فيمن يشفع، فيكون (من) للمشفوع له (٣).
وذكر أبو إسحاق أيضًا الوحهين جميعًا فقال: ويجوز أن يكون [من] (٤) في قوله: ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ للشافعين؛ لأنه كنى عنهم بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ والذين فزع عن قلوبهم هاهنا الملائكة، هذا كلامه. وتقدير الوجهين: إلا لمن أذن له في أن يشفع إذا كان (من) للشافع، وإن جعلت (من) للمشفوع فالتقدير: إلا لمن أذن له في أن يشفع له (٥).
وكلام المفسرين في هذه الآية يدل على أن (من) للمشفوع له؛ قال ابن عباس: يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن وحد الله (٦) كقوله في الأنبياء
(٢) انظر: "علل القراءات" ٢/ ٥٥٣، "حجة القراءات" ص ٥٨٩.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٦١.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٥٢.
(٦) انظر: "الوسيط" ٣/ ٢٩٤، "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٤٣١.

﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: ٢٨]. وقال مقاتل: لا تنفع شفاعة الملائكة عنده لأحد إلا لمن أذن له أن يشفعوا له من أهل التوحيد. قال: ثم أخبر عن خوف الملائكة (١) فقال: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ وقُرِئ: فَزَع، بفتح الفاء والزاي.
قال أبو عبيدة: ﴿فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾: نفس عنها (٢).
وقال الفراء وأبو إسحاق: فزع: كشف الفزع عن قلوبهم، وفزع: كشف الله الفزع عن قلوبهم (٣). ومعنى القراءتين سواء كما ذكرنا في أذن وأذن (٤).
والتفزيع يريد المعنيين: أحدهما: إزالة التفزيع بالتمريض (٥)، وقد جاء مثل هذا في أفعل، قالوا: أشكاه (٦) إذا أزال عنه ما يشكوه، ويقال: فزعه وأفزعه، إذا روعه. قال ابن عباس: يريد سوى عن قلوبهم (٧).
وقال قتادة والكلبي: جلي عن قلوبهم (٨). وقال مقاتل: انجلى الفزع
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ١٤٧.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٦١، "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٥٣.
(٤) سورة الحج: الآية ٢٧. قال: معنى التأذين: النداء والتصويت للإعلام، ثم أحال على قوله ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾، وقوله: ﴿أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾.
(٥) في "الوسيط": والتفزيع إزالة الفزع كالتمريض. فلعل ما أثبت هنا خطأ، والصواب ما بينته من الوسيط.
(٦) في (ب): (مشكاه).
(٧) ذكر بعض المفسرين قول ابن عباس: جلي عن قلوبهم. انظر: "الماوردي" ٤/ ٤٨٤، "القرطبي" ١٤/ ٢٩٥.
(٨) لم قف عليه منسوبًا لهما، ، وقد نسبه الطبري ٢٢/ ٩٠ لابن عباس.

من قلوبهم (١). وهو معنى وليس بتفسير. وأما معنى الآية روي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فـ ﴿إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾ الآية" (٢).
وروي عن أنس بن سمعان (٣) أنه قال: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السموات منه رعدة شديدة خوفًا من الله، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا (٤) وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله بما أراد من وحيه، فيمضي به جبريل على الملائكة سماء سماء، كلما مر
(٢) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب: التفسير: تفسير سورة سبأ ٤/ ١٨٠٤ رقم الحديث (٤٥٢٢) وتمامه: "فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع" الحديث، وأخرجه الترمذي في "سننه" كتاب التفسير: تفسير سورة سبأ ٥/ ٤٠، رقم الحديث (٣٢٧٦)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(٣) هكذا ورد في (أ)، وفي (ب): (أنس سمعان)، وهو خطأ، والصواب هو: النواس بن سمعان، فهو راوي هذا الأثر، ولم أجد فيما عندي من مراجع راويا لهذا الحديث بهذا الاسم.
والنواس بن سمعان هو: النواس بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قرط العامري الكلابي، ويقال: الأنصاري، له صحبة، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عنه جبير بن نفير الخضرمي وأبو إدريس الخولاني. يقال: إن أباه سمعان وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهدى إليه نعليه فقبلهما وزوج أخته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقال: إنه لما دخل بها تعوذت منه فتركها، وهي الكلابية، والله أعلم.
انظر: "الاستيعاب" ٣/ ٥٣٩، "الإصابة" ٣/ ٥٤٩، "أسد الغابة" ٥/ ٤٥
(٤) في (ب): (ضعفوا).

بأهل سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل. فيقول: الحق (١).
وروى الزهري عن أبي إدريس (٢) قال: إذا تكلم الله جل ثناؤه وجدت السموات ومن فيهن رجفة، حتى إذا ذهب ذلك عنها نادى بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، فذلك قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ (٣).
وقال ابن عباس: إذا تكلم الله بالوحي، يسمع أهل السموات صوتا كصوت الحديد على الصفا، فيخرون سجدًا لذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا... (٤) الآية. ونحو هذا قال ابن مسعود (٥).
وقال قتادة والكلبي: لما كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام وبعث الله محمدًا، أنزل الله جبريل بالوحي، فلما نزل، ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من الساعة فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع يرفعوا رؤوسهم (٦)، وقال بعضهم لبعض: ماذا
(٢) هو: أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله، ويقال فيه: عيذ الله بن إدريس بن عائذ الخولاني، تقدمت ترجمته.
(٣) لم أقف عليه عن أبي إدريس من طريق الزهري. وقد أورد الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٢١٩ أ، هذا الأثر من طريق الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله.
(٤) أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٦/ ٦٩٧، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٥) الأثر المروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه بو داود في "سننه" كتاب: السنة، باب: في القرآن ٤/ ٢٣٥، رقم الحديث (٤٧٣٨)، و"الطبري" ٢٢/ ٩٠. وأورده السيوطي في "الدر" (٦/ ٦٩٩) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي.
(٦) هكذا جاء الكلام في النسخ! وفيه اضطراب، والصواب: فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض. انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٩٧.

قال ربكم؟ قالوا: الحق، يعني الوحي (١). ونحو هذا قال مقاتل (٢) سواء. وعلى هذا إنما يكون فزعهم من هول قيام الساعة. وهو اختيار الفراء، والزجاج (٣). وعلى ما ذكرنا أولاً إنما فزعوا للوحي. هذا مذهب المفسرين في هذه الآية.
ويبقى إشكال في النظم، وهو أن قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ كيف يليق بما تقدم من الكلام، وأين الخبر عن فزعهم حتى يذكر زوال الفزع؟ قال صاحب النظم: لا يكاد يكون حتى إلا متصلة بخبر قبلها، ولم يتقدم هاهنا في الظاهر شيء تكون هي معطوفة عليه فهي في الظاهر منقطعة مما قبلها ومبتدأة، وهي في الباطن متصلة بمعنى متقدم مضمر، ومعنى فزع عن قلوبهم قد جاء في التفسير أخرج منها الفزع، فهذا دليل على أنه يصيبهم فزع شديد من شيء يحدث عليهم من أقدار الله -عز وجل-، ولم يقل الله حتى إذا فزع عن قلوبهم إلا وهم يفزعون. هذا كلامه. وشرح هذا أن حتى هاهنا منقطع في اللفظ عما قبله، وقد ذكرنا جواز هذا عند قوله: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ (٤)، وهو في المعنى متصل بمضمر دل عليه الظاهر، وذلك أن فزع معناه: أخرج الفزع، وإخراج الفزع يدل على حصوله وحدوثه، فكأنه قد ذكر فزعهم من الوحي أو من هول قيام الساعة على ما ذكر المفسرون حتى إذا أزيل ذلك الفزع قالوا: ماذا قال ربكم. ومعنى الآية: أن
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٩ أ.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٦١، "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٥٣.
(٤) سورة يونس: الآية ١١٠.