
تعبيرا عما يخالجهم في أنه يقول ما لا يصدق وما لا يعقل. كما أن أسلوبها ومضمونها يدلان أكثر من المناسبات السابقة على أن البعث الأخروي كان من الأسباب الرئيسية لكفر الكفار ووقوفهم من الدعوة موقف الإنكار والعناد.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
. (١) أوّبي: رجّعي. والقصد رجّعي التسبيح مع داود.
(٢) سابغات: دروع وافية كاملة لجميع الجسم.
(٣) قدر في السرد: التقدير بمعنى الحساب وحسن التدبير. والسرد صفة لنسج الحديد وقيل صفة للمسمار، والمقصود من الجملة أمر بإتقان عمل الدرع ونسجه. والدرع زرد وحلقات، ومن هنا يكون معنى النسج.
(٤) غدوّها شهر ورواحها شهر: الغدوّ من الصباح إلى منتصف النهار والرواح من بعد منتصف النهار إلى المساء. والغدوّ هو الذهاب في الصباح، والرواح هو العودة في المساء أيضا. ومعنى الجملة أن ما كان يسار في وقت الغدوّ على الريح من المسافة ذهابا يعدل مسيرة شهر وما كان يسار في وقت الرواح يعدل مسيرة شهر آخر.
(٥) عين القطر: قال المفسرون: إنها نبع نحاس ذائب أجراه الله لسليمان.

والذي نرجحه أنها تعني نبعا من النفط أو عينا من النفط. حيث يكون أسود كثيفا، وأن هذا كان يسمى القطر، ومنه القطران أو الزفت. وقد ذكر القطر في آية في سورة الكهف بما يلهم أنه الزفت الذي يزفت به البناء وهي: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) وقد ذكر القطران في آية في سورة إبراهيم وهي: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) وكان العرب يعرفون القطر والقطران ويستعملونها بدليل وجود اللفظين في لغتهم من قبل البعثة.
(٦) يزغ: يحيد ويتهرب.
(٧) محاريب: قيل إنها جمع محراب مكان العبادة، وقيل إنها القصور والمساكن عامة.
(٨) تماثيل: الهياكل المخلقة.
(٩) جفان: جمع جفنة وهي طبق الطعام الكبير.
(١٠) الجواب: جمع جابية وهي الحوض. وشبهت الجفان بالجواب للدلالة على عظمها.
(١١) قدور: جمع قدر. وهي آنية الطبخ.
(١٢) راسيات: ثابتات.
(١٣) دابة الأرض: اسم الدودة المعروفة بالسوس والتي تنخر الخشب وهي الأرضة.
(١٤) منسأته: عصاه.
(١٥) خرّ: وقع.
احتوت الآيات إشارة إلى ما كان من أفضال الله على داود وسليمان عليهما السلام حيث آتى الأول فضلا فأمر الجبال والطير بترجيع تسابيحه وترانيمه. وألان في يده الحديد وألهمه عمل الدروع السابغة أو أمره بإتقان صنعها، وبفعل الأعمال الصالحة، ونبهه إلى أنه بصير بما يعمله رقيب عليه فيه وحيث سخر للثاني الريح فكانت تقطع مسيرة شهر في الغدو ومسيرة شهر في الرواح. وأسال له عين القطر

لينتفع بها شتى الانتفاعات. وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان واسعة كأنها الأحواض وقدور عظيمة ثابتة. وأمرهم بالائتمار بأمره وأنذر من يحاول التملص والتفلت بالعذاب الشديد. وقد أمر الله آل داود أي داود وسليمان شكر نعمة الله وفضله عليهم، والشاكرون من عباده قليلون. ولما قضى الله الموت على سليمان لم يعرف الجن ذلك إلا بعد أن خرّ على الأرض بسبب انقصاف عصاه التي كان يتكىء عليها من نخر السوس. وجاء ذلك برهانا على أن الجن لم يكونوا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمونه لعلموا بموت سليمان حينما مات، ولما ظلوا يقاسون العذاب المهين فيما كانوا يقومون به من الخدمات الشاقة مدة طويلة بعد موته.
تعليق على قصة داود وسليمان في السورة
والمتبادر الذي تلهمه روح الآيات أنها بسبيل التذكير بما كان من إخلاص داود وسليمان واعترافهما بفضل الله وشكرهما له مع ما كان لهما من سعة ملك وسلطان، وضرب المثل بهما للكفار الذين يقفون من آيات الله ونعمه موقف العناد والمكابرة والجحود والتكذيب. وعلى ذلك تكون الآيات استطرادية متصلة من ناحية التمثيل والتذكير بالآيات السابقة لها التي احتوت ذكر مواقف الكفار وجحودهم شأن القصص القرآنية عامة.
ولعله أريد بالآيات تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الكفار يقفون من دعوته إلى الله ذلك الموقف فإن من عباده من يشكره على نعمه ويقف منه موقف العابد الأواب المسبح دائما بحمده وهم من أعظم الناس شأنا وسلطانا كداود وسليمان عليهما السلام.
ولقد جاء في سورتي «ص» و «النمل» اللتين سبق تفسيرهما فصلان طويلان عن داود وسليمان في أعقاب ذكر ما كان من مواقف تكذيب الكفار ومكابرتهم وعنادهم. ولمحنا فيهما هذا القصد حيث تكون حكمة التنزيل اقتضت أن ينزل مثل ذلك مرة أخرى في مناسبة مماثلة متجددة.

ولقد علقنا بما فيه الكفاية على قصص داود وسليمان في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا نرى ضرورة لإعادة ما قلناه، غير أننا ننبه إلى أن في الآيات هنا أشياء لم ترد في السورتين مثل: إلانة الحديد لداود وصنعه الدروع، وإسالة عين القطر لسليمان، ومثل تعيين المسافة التي كان يقطعها الريح المسخر لسليمان في الغدوّ والروح، وتفصيل ما كان يصنعه الجن لسليمان من منشآت عظيمة.
وهذه الزيادات أيضا لم ترد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم التي تقص سيرة داود وسليمان عليهما السلام، غير أن هذا لا يعني أنها لم ترد في أسفار أخرى كانت متداولة وفقدت بل نحن نعتقد ذلك كما هو الأمر فيما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة من قصص بني إسرائيل وأنبيائهم على ما ذكرناه في المناسبات السابقة.
ولقد أورد المفسرون «١» في سياق هذه الآيات بيانات كثيرة في صدد هذه الزيادات منسوبة إلى علماء السير والأخبار. ولسنا نرى طائلا في إيرادها هنا لأن ذلك لا يتصل بأهداف القصص القرآنية فضلا عما فيها من تزيد ومفارقات، مع التنبيه إلى أن ذلك مما يدل على أن هذه الزيادات ليست غريبة عن سامعي القرآن، ومما كان متداولا بينهم، ومصدره على الأرجح بنو إسرائيل الذين كانوا بين ظهرانيهم.
ولقد كان من جملة ما أوردوه حديث أورده الطبري عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «كان سليمان نبيّ الله إذا صلّى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك فتقول كذا فيقول لأيّ شيء أنت فإن كانت تغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت فبينما هو يصلّي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟
قالت: الخروب. قال: لأيّ شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان: